للحديث عن تجربة الأستاذ أحمد المديني الإبداعية لا مناص لكلّ دارس من العودة إلى بداياته الأولى، بالانطلاق من باكورته القصصية «العنف في الدماغ». (منشورات أطلنط، الدار البيضاء، 1971). صدرت هذه المجموعة في سياق ثقافي وسياسي اتّسم بكثير من الغليان والاحتدام. فخلال هذه المرحلة الملتهبة ظهر جيل جديد كان متأثرًا بالصراعات السياسة والاجتماعية المحتدمة في البلد، وبما كان يعيشه العالم العربي أيضا من مخاضات وصراعات، وبالأجواء الثورية التي كانت تسود أرجاء العالم أنذاك، من قبيل حركة ماي 1968بفرنسا. فنشأت حركة نضالية غير مسبوقة في المجتمع المغربي خاصة في الوسط الطلابي، وظهرت مجلة «أنفاس» إلى جانب عدة منابر ثقافية أخرى راهنت على تحديث المجتمع والأدب في نفس الآن، والمؤلف من أعضائها.من رحم هذه الأجواء صدرت المجموعة صوتًأ أدبيّا،يعلن التمرد والعصيان على التقاليد الأدبية المتوارثة. ولقد ساهم هذا النص إلى جانب رواية «زمن بين الولادة والحلم» في بزوغ حساسية أدبية مغربية جديدة تشكلت وتوطدت زمن السبعينات والثمانينات.
أعتقد أن هذه المجموعة القصصية احتوت على أهم الجينات المؤسسة للكتابة عند المديني، وعلى الكثير من السمات والخصائص الشكلية والجمالية والقيمية التي ظلت تلازم أغلب أعماله الأولى. وحضور هذه السمات والخصائص لا يعني أنها تحولت إلى أقانيم أو ثوابت لديه، بل هي سمات عابرة، متحولة، يتباين ويتنوع شكل وحجم حضورها من نص لآخر. وسأحاول باقتضاب التوقف عند بعضها.
لقد اعتمد المديني منذ بداياته الإبداعية جمالياتالتجريب، في سياق أدبي مغربي وعربي، هيمنت عليه أقانيم ومواضعات الواقعية الكلاسيكية. وهي جماليات مستحدثة قامت على الخرق والمغامرة وإرساء مواثيق جديدة في الكتابة تتبنّى المزج بين الواقعي والفانتازي، المرجعي والتخييلي، الحلم واليقظة، المعقول باللامعقول، وتَجنح بجانب ذلك إلى خرق القواعد التي رست عليها المكونات النصية التقليدية، بإعادة النظر، بشكل تقويضي أحيانًا، في بناء الحدث والزمان والمكان والشخصية واللغات وتشكيل العلاقات بين المحافل، داخل النص أو خارجه. هذا كلُّه ابتغى ارتياد التدريب وآفاق إبداعية مغايرة، حاولت وضع الأدب المغربي في الأفق الجاذب والفسيح لحركية أدبية عالمية ظلت تمور بالتحديث والتجريب، من قبيل موجة الرواية الجديدة بفرنسا، والاستحداثات الجمالية في آداب أمريكا وأمريكا اللاتينية التي كانت تدأب على فتح مسارات متنوّعة ومدهشة في إبداع القصة والرواية.
ظل التجريب عند المديني يغتني بأنساغ متعددة، منها نسغ اللعب، باعتباره أحد الأبعاد الجمالية الأثيرة عنده، بل يمكن القول بأن مفهوم التجريب لديه لا يستقيم دون مفهوم اللعب. فمن المستبعد أن تجد عنده سردًا جدّيًّا من البداية حتى النهاية، نراه غالبًا ما يمزج بين الجدّي والهزلي، والساخر والمفارق، واللا منطقي في شكل لعبي أضحى مكوّنًا أساسيًّا من مكوّنات الكتابة لديه. إن للعب وظائف جمالية مهمة ،إذ أنه يحرر الكتابة من رتابتها ومباشريتها الفجة. فحتى في بعض المحكيات التي تبدو أنها لا تحتمل الهزل، لا يتردد في تحريف مسارها والزّجّ بها في مآلات تبين مدى شغفه وإصراره على اللعب القادر على إكساب الكتابة المساحات الكافية لممارسة «شغبها» وحريتها. بل إن اسم أحمد المديني نفسه يصير موضوعًا لهذا اللعب في الكثير من نصوصه، حين يتحول بدورهإلى شخصية من شخصياتها،بما يعني أن الذات الكاتبة ليست ذاتًا محصّنةً ضد مخاطر الكتابة وألاعيبها.وما اللعب في الكتابة بالأمر الهيّن ومضمون النتائج، بل هو عمل جماليٌّ يحتاج إلى كبير الخبرة والدربة والتجربة، لذلك جعل منه كونديرا واحدًا من أهمّ نداءات الفن الروائي الحقيقي.
تتميز الكتابة عند المديني ببُعدها، بل وبنفورها من النزوع الغنائي في الكتابة. فمعظم كتاباته سواء منها القصصية أو الروائية،مضادّةٌ بشكل عام للنزوعات الغنائية التي تتماهى مع الوثوقيات أو الطوباويات الحالمة أو السقوط في شرَك النوستالجيات العاطفية، فهو حريص على أن يحافظ على نثرية» كتابته، وما تفترضه من تجنب محاذير الذاتية الطافحة بالمشاعر واللواعج،كذلك بتلافي التماهي مع الأشياء والموضوعات، واتخاذ مسافة إزاءها، عبر الهزل والسخرية والنقد المتبصّر.
ففي رواية «رجال ظهر المهراز» التي رسمت لوحة بانورامية لمجتمع طلابي ونضالي في حقبة السبعينيات، وضمنها عوالم مفردة من قلب هذا الواقع وتُمخيِله؛ نلتقي بسارد يريد أن يصنع له كيانًا مستقلاً تجاه عليه حركة طلابية ثائرة وفي الوقت هو منها ومنخرط في نضالاتها. لقد ظل السارد يقيم في هذه المسافة بين الاتصال والانفصال، الانتماء واللانتماء، يراقب كل شيء بعين مرتابة متسائلة حينًا، وساخرة في عديد المواقف. والحال أن هذه المسافة البينية،»اللامكانية»، a-topiqueهي المسافة ذاتُها التي تحتفظ بها الكتابة إزاء موضوعها، بل إزاء ذاتها أيضا.
وفي رواية «رجال الدار البيضاء ـ مرس السلطان»(2022) ورغم أن السارد كان في قلب الحركة النضالية المناهضة للحكم، كما أنه كان من أهمّ الأقلام في جريدة المعارضة، فقد ظلّ محافظًا على مسافة بينه وبين باقي المناضلين سواء منهم المتحمسين والمتعصبين أو البرغماتيين المصلحيين، أو غيرهم. وحرص الكاتب على عدم انصهار سُراده في الحشود أو مع حماس الأفكار المبشرة بالتغيير، هو انحيازٌ للتوحّد والعزلة باعتبارهما شرط الكتابة الإبداعية ومسوّغَ وجودها، ومناط انبجاسها وتحققها. ففي هذه الإقامة القلقة تولد الكتابة، وبفضلها تنأى بنفسها عن الوقوع في شرَك التّماهي والتبشير والوعظ والغنائية الفجّة.
ومن بين الخصائص التي لا يمكن لأي قارئ لكتابات المديني أن يخطئها هي انفتاحها العديد منها على كتابة التاريخ. فللمديني ولعٌ خاص بالأحداث الحارقة التي عرفها المغرب بعد الاستقلال. إذ أنه كتب عن أحداث مارس 1965، وملابسات الاغتيال السياسي لرموز اليسار، المهدي بنبركة، وعمر بنجلون، والنضال الطلابي في الجامعات،وأحداث يونيو 1981 وسنوات الجمر والرصاص وحياة المنفيين بالجزائر، وحركة عشرين فبراير وغيرها من الأحداث السياسية الكبرى التي عاشها المغرب في العصر الحديث. ونجد تمثلات هذه الأحداث والوقائع في أغلب رواياته مثل «الجنازة» «الهباء المنثور» « مدينة براقش» «المخدوعون» و» رجال ظهر المهراز» و» رجال الدار البيضاء» وفي نصوص أخرى روائية وقصصية. ولعل الارتباط بهذه المحطات الملتهبة في تاريخ المغرب الحديث قد تكون له أسبابه الذاتية والموضوعية. غير أن الأهم هو أن الكاتب حين يستعيدها فهو لا يفعل بطريقة تسجيلية بدافع الحنين والنوستالجيا، كما أنه لا يتكّئ عليها لينتج خطابًا إيديولوجيًّا، يُدين ويشجُب ما وقع، بل يستعيدها كمادة خام، ملتهبة وحارقة، لبناء عوالمه الأدبية، فهي تنطلق مما هو مرجعي، كي تعيد تشكيله وتحويله في مَصهر الكتابة وإوالياتها الإبداعية، وفق مسعى مزدوج، يُخلص لإلزامات الكتابة والوفاء الإطيقي لتاريخ نضالي حارق ومفجع. والحال أن المديني حين يستعيد هذه المحطات،بملابساتها وفجائعيتها،كاختطاف المهدي بنبركة واغتيال عمر بنجلون وإطلاق الرصاص الحيّ على العُزّل في أحداث الدار البيضاء عام 1965، وتجارب الاعتقال والتنكيل الذي تعرض له المناضلون، إلى غير ذلك؛ فهو يستعيدها لمقاومة البدد الذي يتهدّد هذا التاريخ بالمحو والنسيان، وإبقائه متوهجًّا ومُتوقّدًا في المتخيّل والذاكرة الجماعية.
أنجب المديني في مجموعته القصصية الصادرة أخيرًا والتي تحمل عنوان «أحدب الرباط»، مفهومًا طريفًا لجماليات الكتابة، تكشف حرصه على إبداع نصوص منخولة ومتخلّصة من النِّشارة والزوائد. ففي المجموعة قصة طريفة، بعنوان «إنها تصبّن أحسن». تتحدث القصة عن رجل فرنسي من أصول بورجوازية يحب القراءة، فكّر بعد تقاعده في إنشاء مكتبة لتبادل الكتب بين القراء. وفي ثنايا هذه المكتبة توجد «مصبنة أدبية» تعمل على تخليص الكتب من كلّ الزوائد التي لافائدة منها،خاصة أنه لاحظ أن أغلب ما صار يصدر من روايات ثلاثة أرباعها «هراء واستعراض واستعراء وهموم بطِرين ومخنّثين» حسب قوله. وهذا يبين أن هاجس الشّذب والنّخل والحذف والغسل والتصبين يكتسي أهميةً جماليةً استثنائية عند المديني، لكونه يرفض الزوائد والإطناب والكلام الفائض الذي تمتلئ به الكثير من الكتابات التي وصفها صاحب المصبنة الأدبية على الشكل التالي:» فكرت أن البشر يغسلون ثيابهم ولا يساومون في الدفع. فلماذا الكُتاب مثلا لا يغسلون كتبهم بعد الطبع، أو مخطوطاتهم قبل ذلك، سيعود عليهم الغسيل بالنفع، سيعفيهم من أي نقد جارح، ولغو زائد.»(ص137)
ولا يمكن الحديث عن سمات وخصائص الكتابة عند المديني دون الحديث عن خاصية أخرى، وهي حرصه على عدم محاباة القارئ، فكتابات المديني لا تنتمي إلى صنف الكتابات التي تعتمد البساطة والوضوح والمباشرية في الصياغة والتعبير، إنها بخلاف ذلك تتّسم بصعوبات جمّة في التركيب وبالغموض، تتخللها نتوءات والتواءات، بياضات، تنافرات، والتباسات؛ كتابة تستدعي قارئًا يقظًا، صبورًا، قادرًاعلى إعادة القراءة، كي يعيد ترتيب خيوطها وإدراك دلالاتها وأبعادها الضمنية والصريحة . والمديني على وعي تام بهذا الأمر، لذلك تجده يتحدث عنه بلسان سُرّاده في عديد نصوصه القصصية والروائية على شكل ميتاـ حكي، ويبدو أنه لم يكن أبدًا مستعدًّا للتنازل عن طريقته في الكتابة ومسايرة السهل والبسيط، لأن الكتابة لديه تجريب، بحثٌ واستقصاء، بناءٌ ومعمار، لا حكايات تستنيم، وتلاعبَ أحلام يقظة قارئ كسول، تستثير أشجانه وتستقطب عواطفه وتستديم يقينه.
في المعنى ذاته، تنهل كتابات المديني من نهر الإبداع الجارف بمختلف ألوانه وتياراته، فهو تجريبيٌّ يرفض النظام الثابت والنسق،لكنه ينزع في الآن نفسه، إلى كتابة نص كلاسيكي، ينتظم حلقة في قلادة الأدب الكلاسيكي الرفيع،إنه يسبح، كما يقول هو نفسه: « في ذلك النهر العميق للأدب في مجراه الممتد منذ آلاف السنين الذاهب حتمًا في مدّه إلى ما لا نهاية، مدّ الكلاسيكية الأصيل. وهذا النهر لا يحفل بالتسميات ، الشعارات خاصة التي يطلقها الهواة وأهل النزق من كل حرفة..» (خريف وقصص أخرى ص17).
إن الحديث عن الكتابة عند أحمد المديني قابل لأن يمتد ويتنوع لولا أن المناسبة لا تسمح، لهذا سأضيف خاصية وحيدة وأخيرة بمثابة ختام. تتجلى هذه الخاصية في طريقة تعامله مع المكان. فمن المعروف أن المديني تعامل في نصوصه، مع كثير من الأمكنة بأبعادها المتعددة، تاريخية، ومعمارية واجتماعية، بله وأسطورية. فهو يحتفي بالأمكنة التي يكتب عنها بنوع من الدقة المادية والخرائطية إلى درجة أن المكان يتحول عنده إلى شخصية رئيسية كما هو الحال مع مدينة الدار البيضاء في « مدينة براقش» و»الحاجب 36» والرباط في «ممر الصفصاف» وفاس في « فاس لو عادت إليه»، وفي « رجال ظهر لمهراز»، وباريس في العديد من نصوصه القصصية والروائية. ويمكن الجزم هنا بأن أحد المداخل الأساسية لاستيعاب وفهم إبداعية نصوص أحمد المديني، هو مدخل « المكان»، باعتباره الأساس المادي الذي تستند إليه صروحه الإبداعية، الروائية بخاصة، بدونه تنفك وتنحل. إذ لا بد أن نستحضر هنا نصوصه الرّحلية تربو الآن على خمسة وتمثل متنًا مميزًا ببنائه وتمثيليته، وتمتلك وحدها نسقًا سرديًا خاصًّا يستثمر فيها الكاتب عدته الروائية ويرسم بالعين والمزاج، مما يتطلب دراسة مستقلة.
ختاما لا بد من الإشارة إلى الرصيد الهام من كتابات المديني. فنحن أمام كاتب منتظم، يحترف الكتابة ويخلص لها، أصدر لحد الآن ما مل جاوز سبعين كتابًا في مجالات مختلفة كالقصة والرواية والرحلة والترجمة والنقد والعمود الصحفي وغيرها.والمتتبع لهذا النتاج الوفير والهائل، سيلاحظ دون شك مثابرته وجديته،وحرصه على كتابة كل نوع من هذه الأنواع وفق خصائصه وسماته الدقيقة والصارمة بدون تنازل لأنواعها ولغاتها وأساليبها يحرص فيها على تجدد مستدام وصوته جهير ومهموس فيها بشعرية جريان الماء في جدول. أكيدٌ، أن كتاباته بمختلف أجناسها وتلاوينها، أسهمت في تطوير المنجز الأدبي المغربي، وهي حاضرة في المشهد الإبداعي والنقدي العربي بشكل أساس، مما يحفز على القول بأن ما قدمه هذا الكاتب لايزال يحتاج إلى مزيد مواكبة نقدية تجلي أكثر دوره الرّيادي والتجديدي بلا جدال، وبما أسداه بإخلاص واقتدار،للأدب المغربي والعربي الحديث.
*قدمت هذه الورقة النقدية في الجلسة التي نظمت بالمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط (الدورة 29) للاحتفاء بسيرة ومسارالكاتب أحمد المديني، وشارك فيها الأدباء محمد الهرادي، رشيد بن حدو، عبد الفتاح الحجمري، وعبد المجيد حسيب، واختتمت بقراءة ورقة للمديني حول مفهوم ونسق السرد وضمائره ووعي الذات الكاتبة. تلاها إهداؤه درع التكريم من وزير الشباب والثقافة والتواصل.