خلافة البدوي الفنان المغربي الغائب شعبيا الحاضر بقوة فنيا

بعد بضعة أسابيع وبالضبط في غشت 2021 سيكمل الفنان المغربي خلافة البدوي 10 سنوات على رحيله، حيث توفي بعد معاناة طويلة مع المرض والعجز، و في ظروف اعتبرها العديد من التشكيليين والأصدقاء، لا يتناسب مع قيمته وحجم مواهبه ولا مع ما قدم للمشهد الفني المغربي، هو المتمكن والملقن لعدة مدارس فنية، باعتراف جل الفنانين العرب والمغاربة والغربيين.
فمن هو الفنان خلافة البدوي الذي لامس أيضا عالم المسرح أثناء اشتغاله مع المسرحي الطيب الصديقي، من خلال مساهمته في تأثيث الركح وتحضير الديكور، والذي بقدر ابتعاده عن الشهرة، كانت الشهرة  تسعى إليه، حيث كلما توارى عن الأنظار، كلما كان البحث عنه أكثر.

الفنان خلافة البدوي ولد سنة 1934 بسوق الأربعاء الغرب، وعاش يتيما منذ طفولته الأولى بعيدا عن صفوف الدراسة إذ كان يرعى الغنم. لكن بالرغم من قساوة الظروف التي عاشها فإن موهبته الفنية كانت تنخر أحشاءه وجعلته يبحث في محيطه عن كل الوسائل للتعبير عن ذاته من خلال الرسم مستعملا الأدوات البسيطة التي يجدها خاصة في الطبيعة والثوابل..
شاء القدر أن يكتشف موهبة هذا الفنان الموهوب بالفطرة، فريق من الفنانين الفرنسيين في فترة الحماية التي عرفها المغرب، فمدوا له يد المساعدة.
كان لقاؤه بهؤلاء الفنانين الفرنسيين بمثابة بدء رحلته الفنية، إذ استهل مساره بالتقليد، إلى أن التقى بالسيدة «أونتليمي» التي تبنته و أرسلته لمتابعة دراسته بالرغم من كونه لا يهتم إلا بمادة الرسم، هذا الأخير الذي كان هو ضالته وبحثه الدائم. غادر الفنان خلافة البدوي المدرسة واشتغل مع أحد الفرنسيين في مجال الصباغة (صباعة الجدران) بالمنازل الراقية، وكان هذا العمل بداية جديدة وحافزا على تعلم وخلط الألوان. في هاته الفترة التقى خلافة بمجموعة من الفرنسيين الذين يشتغلون في نفس العمل فعملوا على توجيهه وتلقينه عددا من التقنيات الأساسية للفن الصباغي، وكانت فترة لتوسيع روابط علاقاته مع شخصيات فرنسية تعمل بمجال الفن، كما ساقه قدره للتعرف على فنان يهودي هو «أوجيدا» وحينها أصبحت فرشاته الصباغية تمتلك تقريبا لمسات جميع المدارس الغربية.
انتقل الفنان خلافة البدوي من ورشة لأخرى ومن مصنع إلى أخر باحثا عن الإلهام والجديد في عالم الفن ولما تأكد أصدقاؤه الفرنسيين من كونه وصل لجودة عالية فنية في أعماله، نظموا له معرضا بساحة بني مروك بالدارالبيضاء سنة 1954 وعرفت التظاهرة إقبالا وبيعت جميع لوحاته.
قبيل استقلال المغرب، وفيما كان أصدقاؤه من الفنانين يتأهبون للعودة إلى فرنسا، طلبوا منه أن ينتقل معهم هناك، إلا انه رفض واعتذر لهم، مفضلا البقاء تحت شمس بلاده التي ألفها.
استطاع خلافة البدوي أن يبصم اسمه وأن يفرض وجوده في عالم الفن، فأصبح معروفا لدى شريحة كبرى من المسؤولين والشخصيات العمومية في المغرب في أواخر الخمسينيات، وقد سبق وطلب منه عامل مدينة الدارالبيضاء أنذاك، السيد بركاش، أن ينجز لوحة تعكس أفاق خريطة المغرب لكي تهدى للملك الراحل محمد الخامس، وبالفعل فقد قدمت كهدية للملك بمناسبة زيارته للدارالبيضاء فأعجب بها وطلب أن يرى الفنان الذي أنجزها قصد شكره وإكرامه.. وبعد أن رأها أمر محمد الخامس بتوظيف الفنان خلافة البدوي وتعيينه بوزارة الشبيبة والرياضة حيث اشتغل مؤطرا بدارالشباب.
فضلا عن هذا، فقد قيل بأن أسماء لها حضورها القوي في الوطن العربي تبنت أعماله الفنية، من بينهم: وزير الثقافة محمد بن عيسي، مولاي أحمد العلوي وزير الدولة أنذاك والجنرال لحرايشي وحاكم الإمارات الشيخ زايد إلخ..
هاته المعلومات عن الفنان خلافة هي محاولة من الجريدة للإحاطة ببروفايل فنان تشكيلي عرف في أوساط دون غيرها بالرغم من موهبته العالية والدور الذي لعبه في المشهد الفني التشكيلي بالمغرب، وللمزيد منها وللإنفتاح عليه التقط منبرنا شهادة الفنان التشكيلي المغربي عبد الله فنينو و رأيه فيه بحكم أن له سابق المعرفة به عندما كان هذا الأخير شابا وتتلمذ على يديه كما كانت بينهما جلسات وحوارات استطاع عبد الله أن يجمع الكثير عن حياة الفنان المرحوم، المعروف أصلا عند النخبة، النكرة للأسف لدى العديد من الأجيال والعامة من الشعب . فضلا عن هذا، فاختيار عبد الله فنينو من أجل الشهادة، نازعه أنه من أشد المدافعين عنه، رفقة مجموعة من الفنانين المغاربة، وشديد الغيرة على ما يعتبره تجاهلا حقيقيا في حق فنان مغربي موهوب تتلمذ على يده الكثيرين ومتمكن من عدة مدارس، لكن عيبه الوحيد انه كان رجلا خجولا زاهدا بالدنيا وبالمال، لا يسعى أن يظهر نفسه ولا أن يتنفع بفنه عكس العديدين من الفنانين المعروفين الذين كانوا أقل منه موهبة.
يؤكد الفنان التشكيلي عبد الله فنينو ما ورد في ما سبق في استهلال هاته المقالة، والتي حاول منبرنا استجماعها من بعض الكتابات القليلة حوله على الأنترنيت ومجلات نشرت في ظل معارض تم فيها تكريم الفنانين المغاربة ومن بينهم خلافة البدوي بعد وفاته.
وقد أقر عبد لله فنينو ابن المدينة القديمة بالدار البيضاء والعارف بثناياها وبالفنانين العارضين بها، أن التشكيلي خلافة البدوي أعطى الشيء الكثير للفن وبصم بصمة كبيرة، لكنه مع ذلك لم يأخذ حقه من الاعتراف، وخير دليل، حسب فنينو، أنه كان أول مغربي حاصل على جائزة من طرف اليونيسكو بعد أن نجح في مباراة تم تنظيمها، وكان ذلك في عهد جلالة الملك محمد الخامس.
وأضاف فنينو بأن خلافة البدوي عرف بفنه الرفيع الذي جمعه من خبرته الكبيرة التي راكمها أثناء احتكاكه بكبار الفنانين الأجانب في فترة الحماية، فهؤلاء من درسوه الفن و تقنياته  بالرغم من كونه لم يكمل دراسته، إذ كان يرافقهم لورشاتهم، ومن جهتهم وفروا له ما كان يلزمه من مواد الصباغة التي كانت نادرة أنذاك و باهظة الثمن. وجعلوه يحتك بهاته العوالم التي تغريه. فأسعده هذا الانتقال ما بين الفرشاة ومراقبة وممارسة هاته الهواية. ومن بين هؤلاء الفنانين «أورلي سيبروس»، و«روني بيار»، «سميث، فليجي»، كما عاشر أندريس» فترة لا بأس بها، ومدام أنتليمي..».
كان لخلافة حق التصرف في ورشات هؤلاء الفنانين، هو من ينظف مكان اشتغالهم وأيضا الأدوات التي يعملون بها، على أهميتها بالنسبة لهم، فهم يثقون فيه إلى أبعد حد وكان تحت حمايتهم، بعد انتهاء فترة الاستعمار وجاء وقتت مغادرة المعمر، أعدوا له الفنانين  جواز السفر ليرحل معهم، لكنه، وحسب عبد الله فنينو وغالبا على حد قول خلافة البدوي الذي كان يجمعه معه أحاديث كثيرة، رفض السفر وهرب واختفى عنهم. والسبب، يقول فنينو نقلا عن خلافة، لأنه رغب في البقاء في وطنه. هي نوع من الوطنية المتوغلة فيه تتوازى مع حبه لموهبته الفنية الفطرية، وبالرغم من بساطته التي قد تصل للبوهيمية حسب عديد من أراء الذين عاصروه، فقد أبرز حبه لوطنه في مناسبة كانت هامة بالنسبة للمغاربة جميعا أنذاك، وللبيضاوين على وجه الخصوص، وهو مشاركته بلوحة تحمل صورة للملك محمد الخامس، أثناء زيارته للدارالبيضاء وإلقائه لخطابه، و كانت ضمن استعراض نظم في الدارالبيضاء استقبالا لجلالته وعربونا للبيعة.
ومن شجعه على رسمها، يتذكر عبد لله فنينو، السيد بركاش والي مدينة الدارالبيضاء الذي منح له كل المستلزمات من صباغة وفرشاة..لإيمان والي الدارالبضاء، حسب فنينو، بقدرات خلافة البدوي، شأنه شأن بليوط بوشنتوف.
ونقلا دائما عن عبد لله فنينو، فإن الفقيد الملك محمد الخامس، أعجب باللوحة وسأل عن صاحبها، وللتعرف عليه، أمر أن يقابله رفقة اللوحة بقصر الصخيرات. وهناك تم الترحيب به من طرف الملك الذي سأله إن كان يريد إكمال دراسته بفرنسا فأجابه الفنان خلافة «سيدي نحن طردناهم من ديارنا فهل سأذهب لزيارتهم». الجواب أعجب الملك فأكرمه ومنح له مبلغا من المال، قبل أن يعود إلى مدينة الدارالبيضاء وأمر بأن يشتغل في دار الشباب، ومن هناك كانت الانطلاقة حيث نشرت اللوحة في الجريدة وتم التعريف بصاحبها. من بين الأشياء التي كان ينجز خلافة، لوحات تحسيسية لوحات لمحاربة الأمية، كانت تنشر في الجرائد.
عاش خلافة طول حياته عازبا وبقي يشتغل في دار الشباب و اشتهر في أوساط «الشخصيات الرسمية» الذين كان يرسم لهم لوحات تحت الطلب. وحسب ظن الفنان التشكيلي عبد الله فنينو، أن مشكلة خلافة البدوي، كونه لم يكن من النوع الذي ينضبط للوقت، فاضطر لترك عمله في دار الشباب وعاش نوعا ما بوهيميا يحب فنه دون أن يكثرت كثيرا للمال .
كان من تلامذة خلافة البدوي، بوشعيب الفلكي ومحمد لاكروم وعبد الله فنينو شخصيا ،»فأنا مدين له» يقول هذا الأخير، «فهو لا يدرس على السبورة ، بل بالورشة يعلم كيف تعيش حياتك الفنية وكيف تبدع وكيف تخرج أجمل ما فيك في اللوحة وتنجح وتتقن العمل، وقد سبق وكان ضيفا في عديد من البرامج الإذاعية لإجراء الحوارات، كان من المفروض أن يتم التعريف به من خلال هاته النقط التي سبق وتحدثنا عنها، فنحن مجموعة من الفنانين التشكيليين يحز في أنفسنا أنه لم يأخذ حقه كثيرا ولا يتم التعريف به، عرفته في السبعينات وهو توفي سنة 2010، ولكن مع ذلك أعتبر نفسي لم أعاشره كثيرا».
حسب عبد الله فنينو فقد قام معجبوه بمبادرة أثناء حياته، مع شركة «كريدي دوماروك»، والشركة اشترت منهم بعضا من لوحات الفنان الراحل، قصد تأثيث مكاتبها، وكان من المفترض أن يتم طبع كتاب تعريفي يتحدث عن الفنان خلافة البدوي، ونظم اجتماع أقر بموجبه منح مبلغ قدر ب 30 مليون لإنجاز المشروع، إلا أنه شاءت الأقدار أن تتعقد الأمور ويلغى تقريبا الاتفاق التي كانت مديرة العلاقات الخارجية آنذاك وتدعى «مدام أوعشي» التي منحت لها كل الصلاحيات لإنجاز المشروع، من طرف الرئيس المؤسس، المفتش العام باتريك بونت، شوغا، بحيث أن هاته الأخيرة، على حد قول الفنان التشكيلي عبد الله فنينو وتحت مسؤوليته، بما أنه كان حاضرا في الإجتماع/ الإتفاق، لم تنجز عمل ما تم الإتفاق عليه ، ولما استفسروها عن الأمر ادعت بأن هناك فيلما سينمائيا أولى بالدعم، وأنه سيتم الاكتفاء بكتيب صغير يخص محمد خلافة بميزانية أقل. حاسبها المفتش على الأمر فطلبت استقالتها. ولم يتم المشروع.
بعد ذلك أعاد المعجبون الكرة وقاموا بمحاولة لطبع كتاب بدعم أخر، وبالكاد وجدوا مساعدة لتحقيق الأمر كانت على يد السيد عبد الهادي العلمي، رئيس جريدة الخبر، وتم إخباره برغبتهم في إصدار كتاب كبير حول محمد خلافة ومنحوه بعض من اللوحات كتعريف بالفنان خلافة البدوي، لكن النقود التي كانوا ينوون استعمالها في الطبع، شاءت الأقدار أن يقع محمد خلافة طريح لفراش، وبالتالي استعملوها في علاجه. وهكذا تعذر الأمر في إخراج كتاب يليق بمستوى الفنان: كتاب كبير تتحدث عنه الصحافة ويخلق إشعاعا وحدثا، لأن المشروع سيحتاج لميزانية كبرى.
الفنانون الذين يريدون رد الاعتبار لمحمد خلافة ويرغبون في التعريف به هم الفنانون الذين اشتغلوا رفقته ومن بينهم عبد الله فنينو وحميد بناني الذي يريد إعطاء شهادة في حقه وغيرهم.
حسب التشكيلي عبد لله فنينو، هناك مقولة يؤمن بها تقول «رب ضارة نافعة ويقول في هذا الشأن: «ذات يوما وكنت مسؤولا على مجموعة من الفنانين في معرض أقيم بالكنيسة الكاتيدرالية المتواجدة بشارع الراشدي بالدارالبيضاء، وجاء عبد اللطيف الزين رحمة الله عليه للافتتاح الرسمي، كنت قد عرضت لوحات ومن بينها لوحات لمحمد خلافة للتعريف به، فسلم علي ونوه بأعمالي وعندما قدمت له لوحات خلافة، أنكر رحمة الله عليه معرفته به وسأل صحافي كان يرافقه اسمه بنحمزة وقال له أتعرف أنت خلافة؟
طلبت من الصحافي حينها أن يمدني برقم هاتفه لأتصل به في ما بعد، وفعلا في اليوم الموالي اتصلت به ثم التقينا واتجهنا إلى منزلي بالمدينة القديمة وأريته لوحات الفنان محمد خلافة، فانبهر بها ومن هناك بدأ هذا الصحافي في البحث بمعيتي عن أثار هذا الفنان ومشينا خطوة خطوة إلى أن جمعنا المعلومات فصدر كتيب، ومن هناك ابتدأت حفلات تكريم لهذا الفنان من بينها تظاهرة تحت عنوان «التعايش» أقيمت لمدة 3 سنوات كانت تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة.
فضلا عن كل هذا أقيم بعد ذلك حفل تكريم دولي، وحضر فيه فنانون تشكيليون أجانب من بلجيكا وفرنسا والمغرب وإيطاليا وحفل تكريم أخر في ملتقى بالسعودية إلخ ولازلنا في طريقنا للبحث عن بصماته وأثاره حرصا منا على ثقافة الاعتراف وعلى ضرورة التأريخ الفني».


الكاتب : سهام القرشاوي

  

بتاريخ : 28/06/2021

أخبار مرتبطة

  أحيت الفنانة الداودية حفلا في منصة سلا، وذلك ضمن فعاليات الدورة الـ19 من مهرجان موازين إيقاعات العالم. وتميز الحفل

  بين بلقيس فتحي والمغرب قصة حب كبيرة تجسدت، مجددا، من خلال إبداعها في أداء مجموعة من الأغاني المغربية خلال

  عاشت منصة السويسي، على إيقاع موسيقى البوب الكورية، خلال الحفل الذي أحياه “الديجي” ألاون وفرقة “أتيز” الكورية، في إطار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *