خمس ساعات في حضرة الفنان التشكيلي أحمد بن يسف

في ذلك اليوم المشمس من أيام شهر يوليوز، بينما تتأهب العائلات والأصدقاء لقضاء أوقات مبهجة على شواطئ الفنيدق نواحي تطوان، والاستمتاع بمياهها الصافية ورمالها الذهبية وركوب الأمواج التي تكاد أن تكون منعدمة ذلك الصباح، كنت أستعد للقاء فنان تشكيلي، لطالما قرأت عن حياته التي تبدو كقصة سوريالية تستحق الترجمة إلى عمل سينمائي.
قبل اللقاء، كنت أحاول أن أرتب أفكاري بشكل جيد، وأن أهدئ أعصابي المتوترة، لأنني كنت أعي جيدا قيمة الرجل على المستويين الفني والشخصي، وكنت أعلم كذلك بأن الظرف المهني ضرب موعدا هذه المرة مع أكبر هرم في الفن التشكيلي، فكان لابد من تحضير ورقة تتضمن محاور النقاش بيننا، إلا أن طبيعة البرنامج الذي يحمل عنوان «بقلب مفتوح» كان يستدعي مني أسلوبا تلقائيا في إدارة الحوار، من أجل الحصول على أجوبة صادقة خالية من التزويق والتنميق، وهذا ما جعل المهمة أكثر صعوبة، فانتابني شعور وكأنني مبتدئ في المجال الإعلامي.
كلما اقتربت من بيته الجميل، المطل على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، كلما زاد توتري واشتدت هواجسي، كنت أحاول السيطرة على أعصابي من جهة، والبحث، من جهة أخرى، عن أسئلة تليق بمقام الضيف، وبمستواه الراقي في عالم الريشة والألوان. ..
بعد رحلة طويلة بدأت من محطة الدار البيضاء المسافرين وانتهت في الفنيدق، وصلت أخيرا إلى وجهتي، أي منزل فناننا التشكيلي، الذي يقصده من إشبيلية كلما أخذه الشوق والحنين إلى أرض الوطن، على الجانب الأيمن من الباب الخشبي المزخرف باللون البني، توجد لوحة من الزليج الموريسكي مكتوب عليها بأحرف لاتينية: أحمد بنيسف.
طرقتان كانتا كافيتين ليفتح الباب شخصيا، ويظهر بلحيته البيضاء الطويلة التي تكاد تغطي ملامحه، ويستقبلني بحرارة وبابتسامة بريئة، جعلتني أشعر بالاطمئنان، خاصة وأنني أعرف أن الرجل قليل الظهور ويعيش على إيقاع حياة منظمة .
كانت اللوحات المعلقة على الجدار المطلي باللون الأبيض، والمنحوتات الموضوعة بعناية في كل مكان، تصحبني وأنا أنظر إليها بإعجاب إلى أن وصلت الصالون الواقع في الحديقة الخلفية للبيت، مباشرة بعد جلوسنا شرع أحمد بنيسف في الحديث وكأننا بصدد تتمة موضوع بدأناه قبل أيام ولم ننهه..
كل ذلك كان يوحي بأن سي أحمد بنيسف عندما فتح باب بيته، فتح معه قلبه كذلك، مما ساعدني كثيرا على التواصل مع هذا الشخص الذي كنت أحلم بلقائه منذ أكثر من عشر سنوات تقريبا، بعد أن قرأت عن سيرته الذاتية، وسمعت عن نجاحاته في مجال الفن التشكيلي والنحت داخل وخارج أرض الوطن، وعن حصوله على جوائز قيمة على المستوى الدولي والمحلي كان آخرها الجائزة الكبرى التي تسلمها من قبل وزارة الثقافة مؤخرا، خلال حفل تكريم بمدينة تطوان، وهي المرة الأولى التي تمنح لفنان تشكيلي بالمغرب.
خلال هذا اللقاء الذي كان بمثابة بوح نابع من قلب أحمد بنيسف لبرنامج «بقلب مفتوح الذي تبثه «أنوار بريس» قال الفنان التشكيلي العبقري «إن هذا البلد يزخر بوجود نخبة من التشكيليين الموهوبين، لكنهم يحتاجون إلى مناخ يضمن لهم حياة كريمة، ويحفزهم على الإبداع»، مضيفا «أن تجاهل الإعلام الذي يعتبر الحلقة المهمة في علاقة التشكيلي بالمواطن، تزيد من الهوة بينهما، وتجعل الثقافة البصرية أمرا ثانويا ومعقدا، مما يتسبب في الابتعاد عن المعارض والملتقيات الفنية، فتكون له انعكاسات سلبية على الوضعية النفسية والاجتماعية للفنان، وتحد من قدراته الإبداعية»…
بالنسبة لفناننا التشكيلي تعتبر المتاحف ذات أهمية كبيرة لما تلعبه من دور في حفظ الذاكرة الوطنية، وفي هذا الصدد تساءل بحرقة:
«كيف للمواطنين أن يعرفوا تاريخ الفنانين التشكيليين الحقيقيين دون وجود متاحف تقوم بوظيفتها الفنية والوطنية»، منبها إلى وجوب مأسسة المجال التشكيلي، كي لا يقتصر فقط على مجهودات واجتهادات فردية، في ظل غياب سياسة معتمدة من قبل الجهة الوصية عن الثقافة والفنون..
وفي السياق ذاته، شدد الفنان بنيسف على إحداث إعلام متخصص في فن التشكيل وخلق نقاد أكفاء، حتى تتم حماية المجال التشكيلي ممن أسماهم بالمتطفلين والسماسرة والمرتزقة، وأن يتم تصنيف الفنانين بشكل يحفظ لهم تاريخ مسارهم وقيمتهم الفنية.
ويعتبر الفنان أحمد بن يسف، وهو من مواليد تطوان سنة 1945، من أكبر التشكيليين في العالم، سطع نجمه بإسبانيا التي استقر بها منذ أن كان طالبا بالمدرسة العليا للفنون التشكيلية بإشبيلية، استطاع من خلال تجربته المتميزة أن يشكل مدرسة قائمة بذاتها انطلاقا من إيمانه بفكرة «لا إبداع بدون هامش واسع من الحرية»، فالمسافة التي تفصله عن الحياة، هي نفس المسافة التي تفصله عن الإبداع بكل أجناسه، هذا ما أكده حين قال «ولدت رساما.. عندما أحسست بهذا الفن أحسست بالحياة»…
ومن بين عشرات الشهادات التي قيلت في حقه، والتي كانت موضوع كتاب بعنوان «ابن يسف»، كتب الفنان الإسباني منويل فران: «كفاءة مدهشة، هذا الفنان، ألوانه فاتنة يصعب أن تميزها عن زرقة السماء والبحر، وعن خضرة الأرض والبساتين، وعن حمرة الدم والنار، إنه يقنعنا بسرعة، ويهزنا من الأعماق ببساطة أعماله التي فيها أفكاره المضبوطة، انظروا إلى أشكاله المتداخلة، البارزة داخل أجسام ضخمة بدينة التي تبدو لأول وهلة في حالة استسلام واندحار.. لاحظوا أن أشياء كثيرة تتحرك أمامكم، ألوانها راكدة عديمة الحياة، ولكنها أشياء ملموسة من إبداع فنان يتميز بالدقة والروعة..».


بتاريخ : 03/08/2023