خمس قصص قصيرة

1 ـ حادثة

المصاب الذي سارعت به سيارة الإسعاف، إلى حيث يريد سائقها أن يصل في سرعة الطائر، يستعجل الوصول إلى يد ملاك رحمة بومضة برق، فهو ينزف بشدة، ورغم سرعة الإسعاف لا وسيلة قريبة منه لإيقاف النزيف، ورغم ذلك يحلم المصاب الآن بالنجاة، كما كان يحلم قبل قليل بالوصول إلى ما يحب وما يريد ، حين اعترضه مَنْ أفاقه بعنف من حلمه الجميل الذي كان يسارع إليه في هبّة عصفور لكن بأجنحة مقصوصة ، المصاب يجاهد غيبوبته فيتذكر ويتمادى في حلمه فيفرح في انتظار شفاء،لكن السائق وهو يتذكر أعباء حياته ويزن أثقالها بأسَفٍ زائد، تكاد تغرورق عيناه، فهو لا يرى سبيلاً للخلاص،
أو للإفلات فيصطدم بما يعترضه بكل قسوة…
الآن …الآن كجدار، فيتوقف نبض قلبين دون أن تتوقف صفارة الإنذار.

2 ـ حكاية ممتنع

وقف إزائي، وأنا لم أكد أفتح عيني مستيقظاً من نومي، رجل يشبهني في كل شيء، ليهتف بي، بدون صوت:
«لن أصوت اليوم، إلا لمن يمنحني كأساً، في حجم تلك الكأس التي في يد أنجيلا ميركل، تفيض بنفس المشروب الأصفر الرائق، لأتحدى بكل شفافية كل من يشربون خفية من كؤوس أو دنان تنضح منها دماء شعوب وطبقات، عنيتُ: أنها تفيض بأحمر قانٍ، أو أصفر فاقع ليس خمرة أو بيرة، بل دم، وإن كان له مظهر عرق يتفصد من جبين من يكدحون بلا توقف فلا يستريحون».فلم أملك نفسي أن أقوم إلى آخري هذا مطارداً إياه ، وأنا أتبعه إذ فر من صوتي الذي بدا كآلاف من الأصوات المغضبة التي لا تجد من يعبر عنها:
« عليك اللعنة، كيف تدعوني إلى العصيان، وهذا أوان صلاة الجمعة يا أعمق الناس كفراً في الآخِرين؟ أنا لن أتخلف عن إيداع صوتي الأفعواني في صندوق الزجاج مثل كل عباد رب العالمين.»
وسمعته يضحك وهو يوحي لي، بإشارات من عينيه وحاجبيه ويديه، بعبث إيداع صوتي في أي صندوق كان، خشباً أم زجاجاً، في زمن أصبح فيه الاقتراع من عبث الحكام بأصوات المقترعين.
ورأيتني أفر حافياً عارياً نحو لا مكان ولا زمان، لعلي أنجو من كل من يطاردني، مني أم من الآخرين.

3 ـ الخلاص الأخير

ها أنذا نجحتُ في الخروج من جحيم، كنت أتضرع فيها ليُستبْدَل لي بجلدي جلدٌ آخر، ورغم عذوبة الهواء حيث أصبحتُ فالمكان ليس فردوساً إطلاقاً وخطاي التي لم تستقر على غير مسار الانتظار،
لا تريد السيْرَ، بل إن عينيّ مازالتا تريان نفس الجدار، ونفس السحب تغطي الموجودات من حولي وفوقي وفي كل اتجاه، وما زلتُ مطالبا بقيامي بنفس الصلاة، وما زلت أشعر بالضغوط نفسها من نفس الإله ، على أنفاسي، وبالضيق نفسه يحاصرني.فمن يستطيع إخراجي من ناري هذه والذهاب بي إلى حيث أستروح شذىً فاغماً، من نعيم لا أعرف عن مكانه إلا أنه شديد البعد عني؟
فلقد خرجتُ من جحيم حقيقيةٍ، لكن إلى حيث أضِيعُ بلا حب أو حماية ،
وإلى حيث محطتي الأخيرة التي بلا حراس أو مراقبين أو أداء من أي نوع
محطتي التي سأنتظر عندها خلاصي الأخير.

4 – «لطيفة»

(إلى ذكرى محمد أبحار)
لم أكن أشك لحظة أنها كانت من الملائكة، وقد محضتها، من جهتي، حبا خالصاً من أية شائبة، بل إني لم أحلم أن ينتهي حبِّي إياها بوصال، كما كنت أعتقد أن أبويها اللذين كنت أرى أحدهما ، ليسا بشرين، وأن فمها الجميل يجل أن ينطق مثلما ينطق لساني ، بلفظتي «أبي» وأمي». وإن كنت لا أسمع شيئأ من ذلك من فم صديقي الذي كان الموت قد اختطف أمه ، وباعدت مهنة أبيه بينه وبين العيش في دفء ظله.
كانت بالفعل في نظر من كنتُه ملاكاً، وإن كانت تتفضل أحياناً وتطل من وراء حجابٍ في عُلاها، علينا أنا وصديقي الذي كان يكبرني قليلاً، فيدفع بي أن نكمن لها في أقرب منعطفات الطريق إلى بيتها، لتتناول مني ما كان يثقل به يديَّ الصغيرتين من هدايا وقطع حلوى، وهو يتحرق من شوقه أن يراها ، ولو من وراء ما كانت تتوارى خلفه من أستارٍ تحميها أكثر من قُوَى، فقد كان صديقي بشراً سوياً، بينا كنت في جنة طفولتي ، أشبه ما أكون بملاك لا تحرك دنياه رغبات البشر، فلم يكن يحجب عني وجه ملاك. أو أمنع من أن أخترق أي مجلس، أو تدوس قدماي أي مكان ، عام مكشوف للعيون كان، أم حريماً خاصاً تحميه الحجب والجدران.
لكن هل يظل طفلٌ ما ملاكاً وقد بدأ يطربُ لرغاب، ويشعر بجوع غريزيٍّ إلى امتلاك كل ما ترى عيناه، وماذا إذا عظُمَ عطشه إلى الأصحاب ، أو شبَّ دبيب غامر في الوجدان.

5 ـ حكاية غير جديدة

كانوا أربعة، أربعة كبار لا يهم من أي جنس، كانوا، وهو يرى إلى نفسه في تواضعه مثل ذرة، يبدون أمامه مثل جبال، قممها في غيم الكبرياء، لم يرَهُ أحد منهم، رغم أنه صار ممتلئا في حجم كوكب ضخم، مما أصابه في حضورهم من رعب، ملأوا عينيه بينما لم يكد يلمحه أي متعالٍ منهم.
وفي حجم ذرة أو فوق ذلك بقليل، يكون من لا يبالي الناس به إذا مروا عليه، لكن ذلك لا يعني أنهم في منجاة منه، لو أراد أن يكمن لهم أو إن شاء أن يترصد لخطاهم بشرَكٍ أو غيره، أو بما هو أكثر خطورة مما يتصورون.
فهم بلا ريب يستطيعون أن يروا بعوضة فما فوقها.
لكن ماذا لو طارت من حولهم ذرتا غبار مثلاً ـ وما أكثر ما تطيران، لتحلِّقا في خفتهما الزائدة ، حتى لا يبالي أحد متى طارتا أو أين تنزلان، وحتى لتهزأ بهما لخفتهما أيادي الريح القادرة على دفع الجواري في البحر كالأعلام، فإذا أرادتا أن تنزلا ، مصرتين ألا تفارق إحداهما أختُها إلا حين تتعانقان ، مما يصهرهما من حقد وكره كامنين منذ دهور في كيان واحد، أو تفترقان وهما تتراميان، فوق أديم ذي كبرياء ، فتتجه إحداهما إلى عين ، والأخرى إلى عين ثانية، طالبتين إطفاء نور كان يُمْتِعُ كلاً منهما ، مغترتين برؤية كل ما يفتن من ألوان وفنون.
….
ذرة كنت لا أكاد أرى نفسي إلا وأرى إلى جانبها سلاسل جبال تتطاول عليَّ، وروابٍ تمتد ولا تتوقف إزائي، وجميعها تمر بي ولا أقدر أن أمر بها ، تأتي إليّ فأرفع عيني إليها ، علها تراني لكن الجبال الشوامخ تصعِّرُ هاماتها، والهضاب العالية تمضي غير مبالية، وأنا في مهب قُـوَى لا يعرف الهدوء، تزعزعني الرياح مرة ، وتتلاعب بي التيارات حيناً، إلى حد لا أستطيع معه بعد أقل هبَّة ريح أن أميِّز إلى أي جهة أطير، ففكرت أنَّ لي أن أتشبث بما يحميني، وبما ألوذ به فيؤويني، من كل ما يعبث بي ويشتتني ويلقيني، فعرفتُ أن وجودي في عزلة يضرني،وأن ذاتي من الوهن في حالة إفرادي ضائعة، ولا بد لها من وجود في تكوين جمعي، في هيئة ترفعها إلى حيث لا تخطئها عين، ولا يدوسها عابر خاملٌ أو ذو شأن.
فرفعتُ صوتي أدعو كل ذرة مثلي إلى اتحاد، قبل أن يُفَجِّرَنا اليأسُ، وتدمرنا إرادة من لا يرحم من بين من يمكرون.


الكاتب : أحمد بنميمون

  

بتاريخ : 25/02/2022