هذه بعض الخواطر التي راجت في ذهني، وأنا اتابع قضايا وتفاصيل ومشاهد المعركة التاريخية الكبرى التي فجرتها المقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر، وفي يومها المائة. ولأنها مجرد خواطر فهي أقرب إلى حوار ذاتي مع الأسئلة التي كنت أطرحها على نفسي خلال مجريات الأحداث؛ ولا أزعم أنها ارتقت إلى موضوعات كاملة المعطيات ومتكاملة المبنى والتركيب. وقد عنونتها من مسافة الصفر كناية على أنها من وجدان مندمج مع المقاومة قلبا و قالبا.
دعنا ترى الخلاصات الأساسية لما وصل إليه هذا النظام الدولي:
أولا تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية الواردة من الهيمنة الأمريكية ومن مخلفات أزمة 2008 بسببها، وبسبب كيفية معالجتها، ومن تم تواصلها مع تبعات أزمة كرونا التي اجتاحت العالم ، وما أظهره التنافس على اللقاحات من أنانية عنصرية للغرب ومن تلاعبات لصالح الاحتكارات الأمريكية، و رافق ذلك تراجع الالتزامات الدولية تجاه التحديات البيئية والمناخية للتركيز على أولوية الحروب والصراعات الدولية الجارية اليوم. جميع أوجه هذ٥ الأزمة المركبة تسوق إلى انكماش في نمو الاقتصاد العالمي، والى انخفاض جماعي في القدرات الشرانية للطبقات الشعبية في العالم، والى ازدياد في الحاجة إلى المديونية (وأمريكا في طليعة الدول المديونة) ، والى ارتفاع في نسبة الفقر خاصة في البلدان المسماة بالنامية، وبحسب بعض التقديرات انضاف أزيد من تسعين مليونا تحت خط الفقر في السنوات الأخيرة في هذه البلدان خصوصا بينما ازدادت في نفس الفترة أرباح المحسوبين ضمن مليارديرات العالم.
وكل هذه المؤشرات العامة تزيد من حدة الاستقطاب الدولي ومن التوترات الاجتماعية في البلدان الرأسمالية الأم وفي غيرها، وهي في تحليل بنيوي لاقتصادها السياسي تشير بأصبع الاتهام إلى أزمة النظام الرأسمالي العالمي.
ثانيا :انسداد الأفق الاستراتيجي لأمريكا وللتحالف الغربي سواء في حرب أكرانيا أو في فشلهم الراجح في فلسطين وفي المنطقة عموما، وكذا في صراعهم مع الصين، وسواء بالأحرى ما بدا يلوح من تفجرات للتناقضات الاجتماعية الداخلية المتنوعة الأهداف، وأبرزها الحراك الشعبي المتواصل، (في أمريكا والعديد من البلدان الأوربية )، والمناصر لفلسطين الحرة، قيمة هذا الحراك الشعبي تحديدا، فضلا عن أنه لصالح قضية عادلة، يربك السياسة العدائية إزاءها ، ويضع على المحك آليات الديمقراطية الليبرالية، ولاسيما ما يتعلق منها بقرار الحرب والسياسة الخارجية، وهما معا مجال للمناورات وألاعيب النخبة السياسية المهيمنة، أو ما يسمى تلفيقا بـ»الدولة العميقة». والحق أنها نجحت في أن تجعل الناخب لا يهتم إلا بمصالحه الفئوية الضيقة. وهذ الأمر أحد أشكال الصنمية الليبرالية التي يعاني منها الوعي الشعبي الغربي. وتحليل هذه الظاهرة، وكيفية التحرر منها ، يقودنا بعيدا إلى تحليل آليات الاغتراب في النظام الرأسمالي، وإلى تاريخ تطور اندماج الحركات الاشتراكية في المنظومة النيوليبرالية ، وهذا شأن آخر. وأما ما يمكن قوله في هذه العجالة، أن طريق التحرر هذا، يبدأ عندما تنتقل القوى الشعبية الاعتراضية و الاحتجاجية الى وضع مطالب قانونية و دستورية تغير من الهيكلة المؤسساتية التمثيلية المنتخبة بإصلاحات تستلهم روح الديمقراطية الاجتماعية و التشاركية و بما يقوي السيادة الشعبية الفعلية في المراقبة و القرار و الاختيار في العديد من القضايا الكبرى .و يقتضي أيضا وجود أممية شعبية ذات برنامج يرنو إلى نظام دولي عادل وإنساني ومتقدم. والأولوية الراهنة تشكيل جبهة أممية لصالح القضية الفلسطينية لاستثمار هذا الحراك الشعبي العالمي بنجاعة أكبر وللمدى الطويل.
ثالثا:على الرغم من أزمة القيم الإيديولوجية النيوليبرالية التي سادت العالم، فإنها لم تجد بعد مقاومة أيديولوجية منسجمة ومتكافئة ومنافسة وبديلة. ولعل هذه المسألة هي نقطة الضعف الرئيسة في الصراع الدولي، والذي ما يزال يتمحور على التموقع في النظام الدولي الناشئ، وحيث مازال الجانب الأيديولوجي فيه، وهو ضرورة لا بد منها، ضعيفا ورخوا أو غامضا. ومن هذه الزاوية، مازال الصراع في مرحلة انتقالية لكنها لا تعدم القيمة الكبرى لهذا الصراع في إضعاف النظام الرأسمالي الأمبريالي لما يتيحه من هامش واسع لتحرر السيادات الوطنية وللدور الذي ستنهض به التحالفات الجهوية باعتبارها ستكون مراكز الثقل في النظام العالمي الجديد.