هذه بعض الخواطر التي راجت في ذهني، وأنا اتابع قضايا وتفاصيل ومشاهد المعركة التاريخية الكبرى التي فجرتها المقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر، وفي يومها المائة. ولأنها مجرد خواطر فهي أقرب إلى حوار ذاتي مع الأسئلة التي كنت أطرحها على نفسي خلال مجريات الأحداث؛ ولا أزعم أنها ارتقت إلى موضوعات كاملة المعطيات ومتكاملة المبنى والتركيب. وقد عنونتها من مسافة الصفر كناية على أنها من وجدان مندمج مع المقاومة قلبا و قالبا.
أستسمحكم، إن بدأت بواقعة شخصية عشتها قبل هذا الحدث الكبير، وقبل أن يفاجئني المرض الذي ألزمني الفراش طيلة أشهر عدة. و كنت قد أنهيت نشر مقالتي «عشرة أيام هزت العالم « حول الحرب الرابعة على غزة، لكن السؤال بقي يراودني مراراً: وماذا لو انفجرت حرب أخرى في المنطقة «الشرق أوسطية « في موازاة الحرب الجارية في أوكرانيا؟ وقتئذ، كان الوضع أمامي مليئا ببؤر التوتر التي يمكنها أن تكون فتيلة لهذه الحرب المتوقعة في عدة بلدان من فلسطين وسوريا ولبنان واليمن، ثم التحق بهم السودان، ناهيك عن الصراع الدائم بين الولايات المتحدة وإيران. ومن بين هذه البؤر جميعا، رجحت أن فلسطين هي بؤرة الحرب القادمة لامحالة. وهي التي ستكون لها أبعاد إقليمية ودولية تضاهي مثيلتها في أوكرانيا.أما لماذا هذا الترجيح، فلسبب أشد وضوحا في أن الاحتلال الإسرائيلي الذي بلغ دروته الفاشية، لم يترك للشعب الفلسطيني من مخرج لمتنفس آخر، سوى اللجوء إلى آخر ما يتبقى للإنسان في أشد أوضاع العبودية والقهر، أن تنفجر إرادة الحرية لديه. فكيف بشعب له ثرات نضالي لم يتوقف يوما عن المقاومة و نشدان الحرية. لم يصل توقعي هذا إلى الحد الذي فوجئنا به من قبل المقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر،إذ لم يتجاوز تصوري ما كان في حروب سابقة، بينما أتت في صورة معركة هجومية مذهلة، زعزعت الكيان الإسرائيلي، و ضاعفت أزمته الوجودية في المنطقة، مشرعة الأبواب لإمكان انهياره أوتفككه على غير ما استقرت عليه الأفكار في العقود الأخيرة من استحالة باثة لتصور هذا المصير. ومع الوعي أن هذا المصير الذي أضحى محتملا، ليس إلا قراءة، وكأي قراءة تحمل منظارا يقرب المسافات، أما المسافة الواقعية وحركيتها، فهذا شأن آخر.
وإضافة لهذه المفاجأة المدوية التي أبهرت الجميع، لم يكن الوضع الرسمي العربي و الدولي في توقعي وقتها قادرا على التكيف السريع مع معركة أخرى موازية في هذه المنطقة، لانشغال الدول الكبرى بتصفية حساباتها في أوكرانيا و تايوان، ولوجود توجسات وروابط مصلحية مختلفة تمنعها من نقل صراعاتها بنفس الحدة إلى المنطقة العربية. بينما الأنظمة العربية كانت مغموسة في مشاكلها الخاصة و مطمئنة لاختياراتها بلا حساب لفلسطين، إلا أنني كنت على ثقة بأن أي حرب قادمة في فلسطين تحديدا، و بناء على ما أظهرته الحرب الرابعة السابقة في تضامن الرأي العام الغربي، سيكون لها الفضل الأكبر في شق الكتلة الصماء التي نجح الغرب في تشكيلها لدى الرأي العام تجاه روسيا الاتحادية في الحرب على أوكرانيا. وسيكون هذا دفعا قويا لصالح الصراع الجاري لتغيير النظام الدولي القائم. و هذا ما حدث فعلا بأكبر وأعمق مما كنت أتوقعه، و ليس في هذه المسألة وحسب، بل و في جوانب أخرى لهذه المعركة التاريخية الكبرى. فلنواصل حديثنا إذن ….
2
كثيرة هي القضايا وأسئلتها التي يمكن تناولها في ضوء ما تنطوي عليه معركة «طوفان الأقصى». وليس في وسعي إلا أن أنتقي بعضها من الخواطر التي داهمتني في مجراها، وما دمت أتحدث عن خواطر، فسأترك جانبا أغلب المعطيات وتحليلاتها الرائجة في الساحة السياسية والإعلامية إلا للضرورة التفسيرية. ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن الاقتران الزمني الصدفي بين حرب أكتوبر 73، وهي آخر الحروب العربية النظامية، وبين الأشكال التي اتخذتها المقاومة الشعبية الفلسطينية والجبهات المساندة لها في لبنان والعراق وسوريا واليمن، وهي التي ما زالت مستمرة وفعالة.
هذا الاقتران الزمني الصدفي يطرح سؤالا كبيرا، كان مدار نقاشات في الماضي، أيهما ستكون له الفعالية الاستراتيجية، الحرب النظامية أم المقاومة الشعبية العربية والفلسطينية منها بالدرجة الأولى؟ لم يكن هذا السؤال في آخر الستينات وبداية السبعينات هينا. فمع بروز المقاومة وانحياز بعضها إلى تبني الأيديلوجية الماركسية، وكان فعلها المسلح ينطلق أساسا من دولتي الجوار، الأردن وسوريا، ثم من لبنان، وفي أجواء زخم شعبي عربي دافق مرحب ومساند لاختيار المقاومة الفلسطينية كبديل رافض للهزيمة، صار السؤال في الوضع العربي والدولي، إشكالية معقدة بين منظورين: أحدهما يركز على الرؤية القومية الشاملة لتحرير فلسطين، و على مكانة مصر وجيشها النظامي وما تمثله قيادة عبد الناصر في أية حرب نظامية منظورة. ومن هذه الزاوية، كان يضع المقاومة الفلسطينية كرديف ضروري، لكنه في المرتبة الثانية بعد الدور الأكبر الذي لابد منه للجيوش العربية النظامية، ومع تشديده على صيرورة تحديثية للجيوش وللمجتمعات العربية وخاصة منها ما كان يسمى بدول الطوق. وكمرحلة تكتيكية، كان هذا المنظور القومي لتحرير فلسطين، يعتبر أن الهدف المرحلي للتقدم نحو تحرير فلسطين البعيد المدى، يتمركز في تلك الفترة على ما كان يطلق عليه (إزالة آثار عدوان 1967) وحوله ينبغي حشد كل الطاقات العربية، أنظمة وشعوبا، حتى وإن كان هذا الهدف يقتضي على المستوى الدولي الموافقة على قرار مجلس الأمن 242، كإطار قانوني للتسوية الممكنة، مادام هذا القرار يعطي الشرعية الدولية الديبلوماسية و القانونية لصالح القضية العربية، ومع الوعي بأن هذا القرار السلمي التسووي لا يملك في الواقع سوى واحد في المائة كإنجاز عملي ممكن. لأن ما أخد بالقوة، كما كان يقول عبد الناصر، لا يسترد إلا بالقوة (لاءات مؤتمر القمة بالسودان، وحرب الاستنزاف التي باشرها مع إعادة هيكلة الجيش المصري) أما المنظور الثاني، و إن كان يُجمع على تحرير فلسطين سواء بالحرب النظامية أو بالمقاومة الفلسطينية المسلحة ، كان خليطا من المشارب و الدوافع السياسية و الإيديولوجية .منها من كانت دوافعه المزايدة الانتقامية من النظام الناصري ، ومنها من كان صادقا في رؤاه ، و ذهب يسارا من حيث المحتوى الإيديولوجي و الاجتماعي و السياسي في نقده للأنظمة العربية المهزومة ، فكان منهجه العام النقدي لكافة الأنظمة العربية ، و على رأسها النظام الناصري يجعله موضوعيا ، يعطي الأولوية للمقاومة الفلسطينية على حساب دور الجيوش النظامية ، كما جعله أيضا يقلل من شأن الهدف المرحلي في إزالة آثار العدوان ، لاسيما و أن قرار مجلس الأمن242 لم ينبس بكلمة عن حق الشعب الفلسطيني ، وهكذا أفرط هذا التيار في مطاردة «حل وهمي « سلمي لم يكن واردا في حينه .
أما عن الانتقادات التي وجهت لقصور المقاومة الفلسطينية في أن تكون بديلا عن الجيوش النظامية، فهي كثيرة، أذكر من بينها:
• أنها لا تدرك جيدا التبعات الموضوعية لمضاعفات الطبيعة الإحلالية للاستعمارالإسرائيلي من حيث التوزيع الديمغرافي بين السكان الإسرائيليين و السكان الفلسطينيين المختل عدديا في ما قبل 48، والمعزول بكل وسائل التحكم العسكري والأمني في المناطق الأخرى . وهذا التوزيع الجغرافي و الديمغرافي يختلف جذريا عن جميع تجارب حركات المقاومات الأخرى التي كانت تتمتع بكثافة سكانية هائلة و مفتوحة في مقابل أقلية مستعمرة .
• إن إعطاء الأولوية الاستراتيجية للمقاومة المسلحة يفضي سياسيا وعمليا إلى تبرئة جيوش الأنظمة العربية من تحمل مسؤولياتها في الانخراط بمعركة التحرير,
• إن الطبيعة الطوبوغرافية لفلسطين لا تمكنها من نفس الامتيازات الطبيعية ــــ غابات و جبال ـــــ التي سمحت للمقاومات الأخرى بالانتقال من حرب العصابات إلى الحرب شبه النظامية التي هي المآل الأخير لأية مقاومة شعبية. كما أن المقاومة الفلسطينية تفتقر إلى ظهر الإسناد الضروري لها كما كانت الفيتنام الشمالية للجنوبية ….