هذه بعض الخواطر التي راجت في ذهني، وأنا اتابع قضايا وتفاصيل ومشاهد المعركة التاريخية الكبرى التي فجرتها المقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر، وفي يومها المائة. ولأنها مجرد خواطر فهي أقرب إلى حوار ذاتي مع الأسئلة التي كنت أطرحها على نفسي خلال مجريات الأحداث؛ ولا أزعم أنها ارتقت إلى موضوعات كاملة المعطيات ومتكاملة المبنى والتركيب. وقد عنونتها من مسافة الصفر كناية على أنها من وجدان مندمج مع المقاومة قلبا و قالبا.
هكذا، سواء كان الصراع مع الصين او مع روسيا الاتحادية او مع المقاومة الفلسطينية والجبهات العربية المساندة لها، فان الولايات المتحدة وحلفاءها يمارسان نفس الاحتيال الدبلوماسي والقانوني والأخلاقي، ونفس الأساليب الأخرى من العقوبات والحصار الاقتصاديين، والتشويه الإعلامي إلى التطويق وحتى التدخل العسكري المباشر. ومن هذه الزاوية في النظر، نخلص إلى ان المعركة الحالية في فلسطين هي جزء لا يتجزأ من هذا الصراع العالمي المتصاعد، وفي أمتن حلقة من حلقاته ، وسيكون الانتصار فيها، لأسباب جيوبوليتكية تخص المنطقة، له تداعيات نوعية على مجمل الصراع العالمي القائم، والعكس أيضا صحيح، الانتصار في المعركة بأوكرانيا (أو مع الصين) سيعطي دفعة قوية لمقاومة الشعب الفلسطيني ولباقي حلقات الصراع العالمي الأخرى.
بعد التنويه بهذا الارتباط الجدلي، الموضوعي أساسا، بين معركة طوفان الأقصى والصراع العالمي الجاري ، وبعد إشارتي إلى أن موقف الاتحاد الأوروبي كان غير متوقعا في تطرفه التبعي للولايات المتحدة ، يأتي سؤال الظل الوارد في طي هذا الواقع: كيف لأنظمة تزعم انها تدافع على نفس المبادئ التي تخص حضارتها الغربية منفردة ، وهي البانية للعقلانية والديمقراطية والإنسية، وتكون في ممارساتها العملية على النقيض من نلك ؟ كيف نفسر على سبيل المثال، تبعية الاتحاد الأوروبي للسياسية الأمريكية تجاه روسيا الاتحادية في أزمة اوكرانيا ، وأغلب المحللين يتفقون على انها هي المتضررة اقتصاديا في الراهن والمدى البعيد، وبالأخص منها المانيا القوة الاقتصادية الأكبر في الاتحاد الأوروبي؟ وكيف نفسر في مثال آخر زعمهم جميعا انهم يدافعون عن مبادئهم المثلى وهم يقفون بجانب السردية الإسرائيلية ، وهي تمارس في العلن ٠٠ الإبادة الجماعية ٠٠ لشعب محتل، ويتحملون مضاعفتها اللاديمقراطية في داخل بلدانهم؟ أين العقلانية والديمقراطية والانسانية في هذا كله ؟
واذا ما كان المجال لا يسعفني لجرد جميع اوجه التنافي في الممارسة العملية ، فاني سأكتفي بالاستنتاجات التالية:
اولاً: من الملاحظ في توصيف النظام الراسمالي العالمي القائم ، اني أضيف إليه دانما الصفة الامبريالية ، هذ٥ الصفة التي سحبت من التداول، وأستعيض عنها في العقود الأخيرة بالعولمة٠ وهذا يستدعي – بدون إطالة وبعيدا شينا ما عن التعريفات الأكاديمية الجافة، التمييز بين الامبريالية والعولمة والنظام العالمي٠ في الامبريالية تم التركيز في معانيها على تحكم الرأسمال المالي واحتكار التكنولوجيات المتقدمة في سوق عالمية تعمل في تلك الشروط بآلية ٠٠ التبادل غير المتكافئ ٠٠ ، مما يبقي على بلدان الجنوب في دانرة التخلف والتبعية، وسمي ذلك بالاستعمار الجديد.
لكن ينبغي ان نضيف ان آلية التبابل غير المتكافئ ، ومن تم توزيع الثروة العالمية ، لا تعمل بشكل اقتصادي بحث، لأنها ايضا نتيجة لتدخل موازين القوى السياسية في النظام العالمي، ولذلك لا ينتفي عامل الإكراه واملاء الشروط واستعمال كل أساليب القوة ، بما فيها القوة العسكرية ، ان دعت الضرورة٠ اما النظام العالمي بحد ذاته ، فهو يرمز إلى من يملك اليد العليا في إدارة ما نسميه بالشؤون الدولية ، وبالتالي، من يتحكم أكثر في المؤسسات التابعة لهيئة الأمم المتحدة ، وغيرها من المؤسسات التحالفية الاقتصادية والجيوبوليتيكية ، في حين أن العولمة اذا ما صرفنا النظر عن ما حملتها النيوليبرالية من مزاعم ايديولوجية ، فإن جوهرها المتبقى في نظري ، ما وصلت إليه البشرية، من تقدم اقتصادي وتكنولوجي وثقافي وتواصلي المعلوماتي و الاعلامي، وغير ذلك من المشتركات في الحياة المعاصرة ، مما يجعل من تلك العوامل مجتمعة شرطا ضروريا لتقدم البشرية نحو خدمة مصالحها المشتركة.
ومن البديهي، أن مفهوم العولمة يبقى مرتبطا بتناقضات ما سبقه في المفهومين السالفين للامبريالية والنظام العالمي ، لكن لا يتصورن أحد ان التقدم سيأتي بالعودة إلى ما كانت عليه البشرية من أنظمة ضعيفة التواصل البنيوي في القرون السابقة ، وإلا لما قيل عن حق ان العالم تحول إلى قرية صغيرة.
تانياً: في إحدى مقالاته، طرح المفكر الراحل ٠٠ ياسين الحافظ. سؤالا في عنوانه ٠٠ هل السياسة العربية تشكو من الخطا أم اللاعقلانية ؟ وساقه تحليله المقارن بين المجتمعات الغربية والعربية في المستويات الاجتماعية والثقافية والتراثية والمؤسساتية، إلى أن السياسة العربية تشكو في حقيقة الأمر من اللاعقلانية ٠٠و قد يكون نفس السؤال يطرح علينا اليوم إزاء السياسة الغربية عموما والأمريكية خصوصا ، التي تشكو اليوم هي نفسها من اللاعقلانية ؟ والحق، ان هذا السؤال يضعنا أمام معضلة نظرية استمرت عالقة الاستقرار على جواب واحد، وأنا لا ازعم آني سأقدم هنا جوابا شموليا وشافيا عنه الا من جانب واحد، أظنه الأقرب إلى الواقع، وهو المتعلق وحسب بالسلوك السياسي للنخب الحاكمة في الغرب ٠ وهذا يحيلنى إلى الجنر الإشكالي في هذه المسالة، ألا وهو ضرورة التمييز بين الحقيقة العقلانية الفكرية والحقيقة التاريخية، فهذه الأخيرة لا تتطابق تطابقا كاملا مع الحقيقة العقلانية كما يتصورها الفكر ، لأنها تاًخذ منه ما يتناسب مع قدرات القوى الإنتاجية وصراعات العلاقات الاجتماعية، وتكون حاملة معها رواسب من الماضي ومصالح اجتماعية مختلفة قادمة لم تكن في الحسبان. وهذا جانب و حسب من تفسيري لقولة هيغل الشهيرة )كل ما هو عقلي واقعي، و كل ما هو واقعي عقلي(.