خواطر من «مسافة الصفر» 7 :

هذه بعض الخواطر التي راجت في ذهني، وأنا اتابع قضايا وتفاصيل ومشاهد المعركة التاريخية الكبرى التي فجرتها المقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر، وفي يومها المائة. ولأنها مجرد خواطر فهي أقرب إلى حوار ذاتي مع الأسئلة التي كنت أطرحها على نفسي خلال مجريات الأحداث؛ ولا أزعم أنها ارتقت إلى موضوعات كاملة المعطيات ومتكاملة المبنى والتركيب. وقد عنونتها من مسافة الصفر كناية على أنها من وجدان مندمج مع المقاومة قلبا و قالبا.

 

 

في طيات توالي أيام طوفان الاقصى ، مرت ذكرتان مؤلمتان و راسختان في الذاكرة الوطنية المغربية . الاولى ، يوم اختطف الزعيم التقدمي ( في شهر اكتوبر من 1965) و الثانية ، يوم اغتيال القيادي الصلب (في دجنبر 1975) عمر بنجلون . فكان لهذا التصادف الزمني ، ان ترتبط ذكراهما عندي بمكانة القضية الفلسطينية في حياتهما و منظورهما ، و بالتساؤل عن وضعها و ما آلت اليه بعدهما. و قد لا يحمل كلامي جديدا ، ان من غير المستبعد بتاتا دورا ما للمخابرات الامريكية الاسرائيلية في جريمة اختطاف الزعيم المهدي بنبركة ، و قد صار في منفاه زعيما « عالميا ثالثيا « و هو الذي كان في ذلك الوقت يحضر لمؤتمر شعوب القارات الثلاث في كوبا.
ومن زاوية هذا النهوض لشعوب العالم الثالث وقتها ، و الذي مثله الزعيم المهدي بنبركة بجانب قادة تاريخيين كبار اسماؤهم ملأت الدنيا ، فكرت من جديد في محاضرته حول «التغلغل الاسرائيلي في افريقيا» وما تطرحه من أسئلة بعده في الراهن .
وقد نبه المهدي باكرا الى أساليب التغلغل الاسرائيلي في افريقيا ، بذهنية تحررية يقظة، وباطلاع و معرفة دقيقة المعطيات والمرامي ، وكان التغلغل الاسرائيلي وقتها في بدايته. لكنه استمر متسارعا بعد رحيله، وبعد تخلي مصر عن دورها الريادي التحرري . و عاشت افريقيا خلال عقود مرحلة من الجمود والتبعية، وهي قارة تملك كل قدرات النهوض من جديد. ولعل صوت جنوب افريقيا الصادح و الحازم في محكمة العدل الدولية ، و هي أفضل رمز دولي يدافع عن القضية الفلسطينية ضد الأربتايد الاسرائيلي، وكذلك التطورات الجارية في الدول الثلاث من الساحل الافريقي الماضية، ككرة الثلج، الى توسيع الانتفاض على التبعية الصارخة للاستعمار الفرنسي في أربعة عشر دولة، و وقوف اغلب الدول الافريقية بكل شجاعة بجانب الحق الفلسطيني في مواجهة التربصات الامريكية، والذي توج تواً بالإغلاق النهائي للثغرة التي كانت اسرائيل تنوي التسلل منها لكسب عضوية مراقب دائم في الاتحاد، كلها مؤشرات عن نهوض افريقي قادم وكانه يأخذ بوصية و تحذيرات المهدي من التغلغل الاسرائيلي .
وكذلك كان الأمر في قراءتي للمداخلة النقدية للشهيد عمر بنجلون حول «موقف الاطر المغربية» من القضية الفلسطينية، وانا أعرف جيدا ان للشهيد مساهمات عدة خاصة منها ما كان يحرره في جريدة فلسطين التي أشرف عليها، مما يتيح لنا تقديم منظوره الاجمالي في تلك المرحلة. لذلك، سأنطلق منه لأضع أسئلة الظل التي طرحها الراهن علي. ويجدر بي الاشارة الى انه لا فرق بين منظوري الشهيدين، سوى ان المهدي لم يكتب له العيش زمن الثورة الفلسطينية وتداعيات هزيمة 67، لكنهما معا كان يضعان تحرير فلسطين التزاما مبدئيا وجزءا لا يتجزأ من منظورهما للتحرر الوطني في بلدهما وللأمة العربية جمعاء. وهو نفس المنظور أيضا الذي كان يحكم رؤيتهما للصراع العالمي ضد الامبريالية وصنيعتها اسرائيل.
وللشهادة فقط، ولأني عشت مرحلة الستينات و ماتلاها، وجادلت مواقف وأطروحات الرفيق الشهيد عمر كتابة و مباشرة أحيانا، انه الشخص الذي لم تزحزحه هزيمة 67 عن استماتته في الدفاع عن مواقف عبد الناصر التكتيكية بعد الهزيمة . و بنفس القوة كان دفاعه الحازم عن الدور المستقل ، المبدئي و الضروري ، للثورة الفلسطينية و لخصوصيتها بين جميع حركات التحرر الوطني الأخرى ، لان الوعي بهذه الخصوصية يجنبها النعرات الطبقوية البادئة داخلها . و في الحالتين معا ، كان عمر يدرك جيدا ، و هو المتشبع بالمنهج الماركسي ، عيوب النظام الناصري و نواقص الثورة الفلسطينية ، لكنه كان يصر على ما تستوجبه تناقضات اللحظة التاريخية في كلتيها من مواقف محددة تسوق جدليا لما هو أفضل. و من بين هذه المواقف استطرد هنا بسرعة ما يلي :
موقفه من قبول عبد الناصر لمشروع روجز، (هذا المشروع الذي كان من اهم الخلافات التي ادت الى انشقاق السبعينات داخل حزب التحرر والاشتراكية وقته)، كان عمر على وعي و يقين بان مواقف عبد الناصر ليس الا مناورة منه لإقامة صواريخ سام على جبهة الحرب القادمة.
لم يكن يستسغ أبدا مشروع الحل الذي نظرت له خصوصا الجبهة الديمقراطية سواء في الاول نحو «الدولة الواحدة الديمقراطية بين الفلسطينيين و الإسرائيليين ، وسواء في الخطوة الثانية، عندما تبنت النسخة النقية لمشروع الدولة على حدود 67 ، كمرحلة نحو الدولة الواحدة الديمقراطية. أقول، النسخة النقية التي ليست تماما ما نتج عن اتفاقيات اوسلو في بداية التسعينات. لم يكن عمر يستسيغ ان تنشغل الثورة الفلسطينية بتقديم الحلول للمستعمر، اذ هو من عليه ان يفكر في المشكل الذي أوجده و تورط فيه . والثورة ما عليها الا أن تنشغل بهدف واحد هو التحرر الكامل وتقرير المصير.
كما كان لا يستسيغ و يخشى الربط الميكانيكي بين تحرير فلسطين والمفهوم الغامض «للثورة العربية». ليس لأنه غير عروبي، او لأنه لا يدرك كل الروابط القومية التي تجعل الشعوب العربية ذات نفْس المشترك في التحرر والوحدة والديمقراطية و التنمية الجماعية المشتركة، إنما كان يخشى من فهم ميكانيكي لكلمة «الثورة العربية» في بلدان ذات دول عدة و مختلفة في العديد من الخصوصيات، وما قد يحمله هذا الربط الميكانيكي بين الثورة الفلسطينية والثورة العربية من انتظارية استراجية للثورة الفلسطينية، او من وصاية عليها.

 


الكاتب :   محمد الحبيب طالب

  

بتاريخ : 19/03/2024