وكالعادة، كان أول الحاضرين؛
بكامل أناقته..بابتسامته العريضة؛
بكل سخائه الإنساني؛
كان واقفا هناك
بمدخل مكتبة بندر بن سلطان، كان يستقبل ضيوفه ومريديه،
يلتقط الصور، وكل ضيف كأنه “ولي حميم”
وأكاد أجزم أن كل العيون كانت تبحث عنه، تستشعر روحه في المكان؛ وتخلق من الشبه أربعين لواحد متعدد.
من ينكر أنه كان حاضرا، حضورا تكثف بالغياب؟
لم تكن الجلسة الافتتاحية للدورة الخريفية لمنتدى أصيلة السادس والأربعين يوم الجمعة 26 شتنبر الجاري، جلسة لمطارحة الرؤى والأفكار كما عودتنا الدورات السابقة منذ 1978، أو منصة للتدافع الفكري بين مفكري وسياسيي ومثقفي العالم. كانت لحظة للوفاء والعرفان وتكريم سيرة ومسار رجل متفرد صهر الثقافة والسياسة والديبلوماسية في بوتقة واحدة ليخرج بوصفة لعلاج أورام المجتمع.. وصفة بناء الإنسان. هكذا تنادى لخيمة الإبداع 350 مشاركا من أصدقاء الراحل محمد بن عيسى من شرق الأرض وغربها في لحظة وفاء استثنائية اختارت شعارا لها” محمد بن عيسى.. رجل الدولة وأيقونة الثقافة”.
لم يخف الأمين العام الجديد لمؤسسة منتدى أصيلة حاتم البطيوي، ثقل المسؤولية في ظرف انتقالي صعب تطلب مضاعفة الجهود لتدارك الفراغ الكبير الذي خلفه غياب المؤسس والملهم الراحل محمد بن عيسى، ولمواصلة المشروع الثقافي الذي آمن به واعتنقه، مشروع حياة ومدينة ومجتمع. وأضاف البطيوي أن جرح غياب الرئيس الراحل محمد بن عيسى، لايزال يحفر غويرا في نفوس كل من اشتغل معه في مشروع المدينة الثقافي الرائد، كما في نفوس كل من عرفه عن قرب وتقاسم معه الفكرة وتعب الطريق، مؤكدا على أن الخلف سيواصل هذا المشروع بدعم المثقفين والأصدقاء من داخل المغرب ومن خارجه. واعتبر البطيوي، في لحظة عرفان وامتنان للراحل محمد بن عيسى، أن” الراحل في كل انشغالاته الثقافية والديبلوماسية والسياسية، كان مواطنا مغربيا وعربيا بأفق إنساني”، مواطنا جعل من بلدته الصغيرة أصيلة “مدينة لتلاقح الرؤى والأخيلة”.مدينة “يشهد القريب والبعيد أنها ومنتداها الثقافي كانا معا يشغلان “مساحة لا حد لها في وعيه وكيانه وانشغالاته اليومية، تمامًا بقدر انشغاله بمسؤولياته الوزارية ومهامه الدبلوماسية، واهتمامه بقضايا وطنه وأمّته العربية وتفاعله العميق أيضا مع قضايا الإنسانية”.
تشعبت علاقات الراحل تشعب اهتماماته، وتعددت انشغالاته تعدد انشغالاته ومهامه بين الثقافة والديبلوماسية والسياسة،فبنى صداقات مع الشرق والغرب شكلت في ما بعد سندا وداعما لمشروعه الثقافي، كما جاء في كلمة تليت بالنيابة للصاخب السمو الملكي بندر بن سلطان آل سعود الذي جمعته بالراحل صداقة متينة عضدها اعتمامهما بالثقافة ولا أدل على دلك من أت تحمل مكتبة أصيلة الكبرى اسم الأمير بندر بن سلطان تجسيدا للدعم الذي قدمته المملكة السعودية لمشروع أصيلة الثقافي. وأضاف الأمير أن بن عيسى أحدث نقلة نوعية في الثقافة بالمغرب من خلال مواضيع المنتدى ولقدرته على جعل مدينته “منارة ثقافية مشعة، ورافدا مهما للحراك الثقافي والفني”.
ولأن الراحل كان يعي أهمية البعد والعمق المتوسطي في السياسة الخارجية لبلاده، فقد ربط علاقات وطيدة مع بلدان أمريكا اللاتينية، وأقربها الجارة الإسبانية. أهمية ترجمتها أنا بلاسيو، وزيرة الخارجية الإسبانية سابقا وهي تستحضر في كلمتها أول لقاء لها بالراحل، وتحديدا بعد أزمة جزيرة ليلى في 2004ـ يومين بعد تسلمها مهام وزارة الخارجية الإسبانية .. وأضافت بلاسيو أن هذا اللقاء كان صداما بين أسلوبين ومسارين مختلفين: ” أول امرأة قي منصب الخارجية بإسبانيا في مواجهة ديبلوماسي مخضرم، راكم عقدا من الخبرة الدولية”. ورغم أن الحوار كان معقدا ومشحونا، بالنظر إلى تعقيدات الملف وسياق التوتر لحظتها، فإنه أفضى إلى اتفاق رسم ملامح علاقة يؤطرها الصدق والاحترام ما سمح بتدبير ديبلوماسي احتوى الأزمة، وأسس لعلاقة شخصية تجاوزت الاعتبارات الظرفية والسياسية، علاقة تترجم المعنى الحقيقي لسياسة حسن الجوار بعد أن اكتشفت غنى وتنوع ثقافته.
هذه العلاقة التي ابتدأت من جزيرة ليلى، انتهت الى ضفاف الثقافة وبين ظهراني منتدى أصيلة جعلت بلاسيو تستشعر ثقل الغياب، مؤكدة أن “برحيله تنطفئ واحدة من الشخصيات الفريدة التي تجسد في آن واحد الاستمرارية والحداثة، التقليد والانفتاح، السلطة والحساسية”.وأضافت بلاسيو أن منتدى أصيلة أصبح مختبرا ثقافيا حقيقيا ومركزا للحوار، و”منتدى فكريا يعكس القناعة الراسخة بأن السياسة والثقافة مترابطتان حين يتعلق الأمر ببناء جسور بين الشعوب،مشددة على أن”إرث بنعيسى سيبقى حاضرا في العلاقات الدولية للمغرب: في الحضور الإفريقي، في العلاقة مع أوربا وأمريكا، وبالخصوص في “روح أصيلة، في أسوارها الكلسية، في الأعمال الفنية التي تتحاور مع ضوء الأطلسي”.
نبيل بنعبد الله الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية والوزير السابق في الاتصال، اعتبر بدوره أن “بن عيسى رجل يصعب اختزاله في لقب أو صفة أو مجال لأنه الإذاعي والمثقف والفنان والديبلوماسي والسياسي ،والوزير والمؤسس والأهم الإنسان بحمولات إنسانية وكونية. ابن أصيلة البار وأحد صناع أحلامها وإشعاعها”، مضيفا أن الراحل “رجل امتلك مقومات رجل الدولة بامتياز، وكان مدرسة قائمة الذات. وبرحيله خسرنا صوتا منفتحا وعقلا مستنيرا وقلبا مؤمنا بقيمة الإنسان”.
ماكي صال، رئيس جمهورية السنغال السابق، اعتبر في كلمة مصورة، أن الراحل تفانى في خدمة الثقافة، وخلف بتأسيسه لمنتدى أصيلة” ” إرثا غاليا وتحديا كبيرا”، على خلفه اليوم في المؤسسة يقع “تحدي الحفاظ على إرثه، وإحيائه، ونقله إلى الأجيال القادمة” .
وأضاف الرئيس السنغالي السابق أن الراحل جعل موسم أصيلة الثقافي، عدا كونه “واجهة مضيئة للعبقرية المغربية، جسرا للوصل بين الشعوب والثقافات والحضارات على مر السنين”، مستحضرا سلفه الراحل، الرئيس الشاعر ليوبولد سيدار سنغور الذي أحب أصيلة وأحبته واحتفت بسيرته ومساره في إحدى دورات موسمها، محبة جعلت إحدى ساحاتها تخلد اسمه.
وفي كلمة تليت بالنيابة ، أكد الأمين العام السابق للجامعة العربية، عمرو موسى أن الراحل بن عيسى كان تجسيدا للمواطن المغربي المرتبط وجدانيا بأمة ، ذات ثقافة عريقة رغم انفتاحه على الثقافة الغربية وهو ما جعل شخصيته مزيجا بيت الثقافتين، ورابطا إيجابيا بين الذهنيتين”،مزيج أفرز عقلا متفتحا، وذهنا وقادا ولسانا لبقا”.
المستشار الإعلامي لملك البحرين وصديق منتدى أصيلة الدائم، نبيل يعقوب الحمر، أعاد الحضور الى بداية صداقته بالراحل حين زار بنعيسى البحرين وهناك تلاقت رؤاهما وأفكارهما وقناعاتهما السياسية بخيط ناظم كان الفكرَ العروبي القومي. وأضاف الحمر أن فقدان صديقه “فقدان لجزء من الذاكرة وقطعة من الروح وأحاديث لم تكتمل” مع رجل “ترك بصمة لا تمحى” في عوالم الثقافة العربية، هو الذي استطاع أن يحول” منتدى أصيلة إلى منارة للمعرفة وواحة للتفكير الهادئ بعيدا عن ضجيج العالم، تفكير ساهم فيه مثقفون وسياسيون وفنانون آمنوا بأن الثقافة هي ما يبني الجسور بين الحضارات.
لا تتأتى فرادة شخصية الراحل بنعيسى من بعد واحد، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية البرتغالي الأسبق، لويس أمادو، معتبرا أن تجربته السياسية، لثلاثين سنة، رفدت واغتنت كثيرا من تجربة هذا الرجل الذي أدمج في رؤيته السياسية، الأبعاد الإنسانية والثقافية والفنية، وامتلك بعد نظر ورؤية استراتيجية جعلته يتجاوز الراهن واليومي ويستشرف ما وراءه .ولفت أمادو الى ان هذه الرؤية هي ما أتاح له أن يستبق الكثير من الديناميات التي نراها اليوم وما يشهده العالم من تحولات مؤلمة، مضيفا أن الراحل “استطاع التوفيق بين البعد المحلي للفعل السياسي والبعد الاستراتيجي للديبلوماسية” في تجربة نادرة النجاح.
بدوره، اعتبر طارق غيلان، الرئيس الحالي لجماعة أصيلة، الاحتفاء والتكريم “لحظة وفاء وتقدير لرجل استثنائي بصم بعمق هوية أصيلة الثقافية والفنية، وهو محمد بن عيسى رحمه الله، مؤسس المنتدى وملهم الموسم، الذي جعل من مدينتنا الصغيرة نافذة مشرعة على العالم، ومنحها إشعاعا دوليا بفضل رؤيته وحنكته وإيمانه الراسخ بقيم الحوار والتسامح والتعايش”، مشددا على أن المسؤولين المحليين بأصيلة سيستمرون في “الحفاظ على الهوية الثقافية والفنية للمدينة، وفي الآن نفسه على إغنائها بنفس متجدد يتماشى مع العصر ورؤية تنموية مستدامة”.
الجلسة الافتتاحية شهدت أيضا تدخلات وشهادات لديبلوماسيين وسياسيين ووزراء مغاربة وأجانب أجمعت كلها على فرادة شخصية الراحل بنعيسى، وريادية مشروعه الثقافي الملهم الذي يطرح على الأجيال الجديدة مهمة ضمان استمراريته، كما عرفت تقديم درع الريادة والعرفان لرفيقة درب الراحل ليلى الطالبي بنعيسى. لتتواصل يوم السبت بتنظيم أربع جلسات تناولت شخصية وإرث الراحل ومساراته في الديبلوماسية والثقافة، وتجسيده الحقيقي لمفهوم الديبلوماسية الناعمة.