السباحة في المياه الثقافية العميقة
تواصلت فعاليات خيمة الإبداع، التي كرمت واحتفت هذه الدورة 46 من منتدى أصيلة الثقافي، بالأب والمؤسس الراحل محمد بن عيسى، والتي أشرف على إعداد وتنسيق فقراتها الإعلامي والكاتب عبد الإله التهاني، يومي السبت والاحد27و28 شتنبر الجاري، بتقديم شهادات ضيوف الدورة ، أصدقاء الراحل من كل القارات، شهادات لامست جوانب من اهتمامات الراحل الثقافية والجمالية والفكرية والإنسانية التي أكسبته صيتا عالميا.
قاس أن تستشعر الحضور بالغياب. ذلك ما أحس به الروائي مبارك ربيع وهو يطأ أرض أصيلة ويراها» مختلفة بدونه لكنها دائمة به، دالة مشعة كما صنعها.عالمية مستمرة كما رقشها ورتب فسيفساءها الفكرية الفنية، بدونه لكنها دوما أبدا قائمة بحضوره طالما الخلق موجود والارض تدور».
مبارك ربيع وهو يرصد مسار الراحل ، اعتبره «نهج معلم بالفطرة لا بالمهنة، وطريقه مدرسة مفتوحة متفتحة»، رغم كل متاعب الطريق وأشواكها، لأنه «كان مسلحا بما نسميه مذاق الصبر والسكينة، صامدا وسط الأعاصير وأهمها ما ارتبط بالإيديولوجي والسياسي في مرحلة كانت منفتحة وراقية بدون شوفينية متعصبة».
الهم المغاربي الذي ظل انشغالا مؤرقا عند الراحل، جعل المنتدى يفتح ملفاته في عدد من الدورات، وينفتح على فعالياته الفكرية والسياسية ومنها الأستاذ الجامعي الموريتاني الذي كان وجها مألوفا في منصات المنتدى وساكنة المدينة عبد الله ولد باه الذي أكد أن الراحل «حمل قلبا إنسانيا جمع بين السياسة والفن في بوتقة واحدة وما أندر ما يجتمع ذلك في إنسان واحد».
الحديث عن الراحل في غيابه قاد ولد باه الى استحضار علاقته بالموت، علاقة لم يتهيب الراحل يوما منها، بل «كانت علاقة غريبة، فيها جانب من الإبداع الجمالي والفني»، مضيفا أن «بن عيسى كان رجل دولة بإحساس فنان. الفن عنده ليس ممارسة أو فكرا، بل نمط حياة وطريقة عيش وأسلوب جمالي» هو الذي كانت علاقته بالكثير من الأشياء موزونة بميزان الفن.
وأضاف ولد باه أن الراحل في علاقته بالمثقفين والفنانين «كان يتحرر من كل المسوح البروتوكولية ويتحدث بكل الحميمية والصدق والصراحة».
الكاتب والصحفي المصري سليمان جودة، بدوره، رسم لوحة لمحمد بن عيسى مفاتيح قراءتها تتم عبر ثلاثة روائز:
-كان مدينة متعددة المنافذ، أي باب سلكته يقودك إليه سواء دخلت من بوابة الصحافة أو دهاليز الديبلوماسية أو متاهات السياسة أو نافذة العمل المدني.
-كان بطل المسافات الثقافية الطويلة لأن تجربة المنتدى وصموده لـ45 سنة، نموذج فريد ووحيد في العالم، وبهذا أثبت قدرته على السباحة في المياه الثقافية العميقة، تدل على ذلك القضايا التي كان يقترحها للنقاش ضمن برنامج المنتدى.
-بن عيسى حوّل الثقافة من طعام للنخبة إلى غذاء أحاد وبسطاء الناس.
وضمن هذه الثلاثية، يضيف المتحدث، انصهرت شخصيته لتصنع هذا التفرد.
المفكر والبحث العراقي حسين شعبان، الذي لم يغب صوته الجهوري، كما تحليلاته الرصينة، عن منصة المنتدى لعقود، اعتبر أن الراحل بن عيسى هو « الفرد والمجموع في آن» لأن في شخصه اجتمعت رمزيات كثيرة «من فضاء المكان إلى فضاء الذاكرة ثم فضاء السياسة والديبلوماسية والثقافة والإدارة»، مضيفا أنه «مثقف كوني عابر للأحياز الضيقة نحو فضاء الإنسانية الرحب» لكونه امتلك قوة النموذج وسلطة الجمال، وأدرك مبكرا قوة القوى الناعمة ووظفها بذكاء لإنجاح مشروعه الثقافي، مشروع لم يكتف فيه بالاحتكام الى النظرية الجوفاء بقدر ما اشتغل فيه على البراكسيس والممارسة، مختبرا الأحكام النظرية بالتطبيق وهو ما عكسته بوضوح تجربته في العل المدني، عدا أنه في تجربته الديبلوماسية «خبر سلالات وأديانا وثقافات وحضارات خبرة عجنت شخصه لتجعل منه مدرسة حقيقية».
لقد حاول الراحل، حسب المتحدث، أن يكون جسرا بين المغرب العربي والمشرق العربي، وبين أمريكا اللاتينية وأوربا، وبين الخليج والعالم العربي وإفريقيا، وهو نفس النهج الذي سلكه، محاولا تجسير الهوة بين أصحاب القرار والمثقفين، مضيفا أن «نصف تفكير بن عيسى كان يعيش في المستقبل» لهذا عمل على أن يمتلك مشروعا مستقبليا، فيه رؤية وإصرار ومعرفة، حيث أدرك منذ منتصف السبعينات أن لا ثقافة بدون تنمية لذا حاول دوما الإعلاء من شأن المثقفين والثقافة.
محمد آيت علي سفير المغرب بالقاهرة، الذي عايش الراحل عن وخبر معه ملفات عديدة في وزارتي الثقافة والخارجية، عاد الى منتصف السبعينات حيث هيمنت مفاهيم المثقف العضوي والإيديولوجيا وقضايا التراث، وارتبط فيها اسم المثقف بالأكاديمي والجامعي، وهذا ما كان يضيق على العمل الثقافي لحظتها، وهو ما حاول الراحل تجاوزه بأن نقل الثقافة من معناها التقني الى معناها الأنتروبولوجي الواسع، وذلك بإدماج الفنون في الثقافة ورفع شعار الثقافة في خدمة التنمية. شعار حاول بن عيسى ترجمته على أرض الواقع عبر ثلاثة مستويات:
الجمعيات الأهلية، مؤسسة الدولة من خلال وزارة الثقافة، ثم من خلال وزارة الخارجية بالانفتاح على مفهوم جنوب – جنوب.
هذه الثلاثية فتح بها بن عيسى طريقا ثالثا انفتح فيه على الثقافة التقليدية والثقافة الحداثية التي كان يمثلها اليسار المغربي بكل مرجعياته في تلك الفترة. وقد ناضل الراحل، يضيف آيت أوعلي من أجل هذا الهدف و»قد ربح الرهان».