داريوش شايغان: الجيل الجديد لديه طرق أخرى في الإدراك 3/2

داريوش شايغان فيلسوف ومفكّر إيراني معاصر من مواليد 1935، تلميذ المستشرق هنري كوربان، دكتوراه دولة في الهندوسية والصوفية، أستاذ جامعي للفلسفة المقارنة، مدير المركز الإيراني للدراسات الحضارية، مدير معهد الدراسات الإسماعلية في باريس، كتب في الفكر والفلسفة وتخلف الحضارات والثقافات مركزا على ما اعتبره الوعي البائس لملايين أبناء الشرق الذين لم يزل سؤال صدمة الحداثة يؤرقهم.
صدرت له مجموعة أعمال باللغتين الفارسية والفرنسية من بينها “ما الثورة الدينية”، “النظرة المبتورة”، «أوهام الهوية»، النور يأتي من الغرب”… هنا ترجمة لمقابلة أجراها الصحافيان ألان فالاد وباتريس فان ونشرتها فصلية “نوفيل كليه” الفرنسية.

– إن الأديان القديمة من خلال استعادتها عافيتها، تسعى بشكل ما إلى ما يشبه “انتقام الآلهة”،
كما يقول جيل كيبيل؟
– باستثناء أن التجدّد الديني هذا لم يستعد أبدا شكله البدائي. هذا مستحيل. لقد تغيّر العالم. أيا يكن الحماس الأشعث لكل أنواع العودة والتجدد هذه، فهي ستبقى مصابة بعدوى الأفكار الجديدة. من هنا مثلا ظاهرة التطرف الإسلامي التي لا تمت إلى الإسلام بصلة في الواقع (لأن الإسلام كان ثقافة محددة)، بقدر ما هي نزعة الرجوع إلى الماضي لإيجاد معالم “عصر ذهبي إسلامي” يحتمل أنه لم يوجد أبدا ـ وهو ما يؤدي إلى القضاء على أربعمائة عام من الثقافة والتاريخ.

– هل يمكنك أن تعود بإيجاز إلى الانترنت ؟ ما هو الدور الذي تلعبه برأيك ظاهرة افتراضية العالم، أو تحويل العالم افتراضيا؟
– لقد خلقت عالما موازيا لعالمنا، «الفضاء الافتراضي» حيث تجري أمور كثيرة. إنه عالم على حدة، بمثل ثراء العالم الأسطوري ـ الشعري. لقد انتقد مفكران فرنسيان ظاهرة الافتراضية بشكل خاص: إنهما بول فيريلو وجان بودريار. أنا أحترم جدا انتقاداتهما وأجدها ذكية جدا في أغلبها، غير أنها كارثية في الآن نفسه. إذا صدقناهما، فإنها نهاية العالم، القيامة. بالنسبة لفيريلو مثلا، نحن متجهون حتما نحو حادث معمم يعطينا انهيار البورصة عام 1997 فكرة مسبقة عنه. مع بودريار، إنه “موت الأوهام” ، “الواقع الفائق”، “رقصة البقايا المتحجرة بعد النشوة الجماعية “، “الدرجة زيروكس من الثقافة”… وكل تلك الصور القوية التي يستخدمها بموهبة. بماذا يمكن أن نرد؟ انتقاداتهما مصيبة، ولكن ما الذي يجري انتقاده ونسبة لماذا ؟ بما أننا لا نعرف المستقبل بعد، فنحن ننقص حتما من قيمة الحاضر بالنسبة للماضي الذي لا يمكننا على العكس من ذلك، إلا إبراز قيمته. هل ينبغي لنا إذن العودة إلى الوراء ؟

– هذا مستحيل لأنها حركات لايمكن عكس اتجاهها… فلنقم بخطوة جانبية. ماذا لو كنا في قلب تحوّل لا يعرف أحد بعد نتائجه؟ ماذا لو كانت افتراضية العالم هذه ستصنع منا كائنات بشرية مختلفة؟
إن الأطفال الذين سيولدون داخل “الوثنية التكنولوجة” التي تحدثنا عنها قد يصبحون مختلفين عنها، نحن الذين ما زلنا ننتمي إلى مجرة غوتنبيرغ ـ وبالتحديد شخص مثلي لم يصبح رقميا البتة وما زال يحتاج ورقة وقلما لكي يكتب ! الأولاد من جانبهم لديهم طرق أخرى في الإدراك ـ “الإدراك المتعدد الحواس” كما يسميه ماكلوهان. في عالم الكتابة يهيمن طغيان العين على حساب ملكات وقدرات أخرى أصابها الضمور. مع الالكترونيات، تصبح الملكات والقدرات الأخرى تفاعلية مجددا. كيف سترى الأجيال القادمة الواقع والافتراض؟ ربما بشكل مختلف جدا عنا.

– أيكون الافتراض
مكانا ليس بمكان؟
– المتصوفة والروحانيون يحكون عن “مكان اللامكان” حيث يظهر الملاك. وهو غير قابل للتعيين في مقاييسنا وفي مواقعنا الجغرافية، بمثل ما هو الفضاء الافتراضي. نحن نرى هذا الأخير على شاشاتنا، لكن “في الواقع” أين هو ؟ لا نعرف. يقول بول فيريلو شيئا آخر صحيحا جدا: المظاهر الثلاثة التي كنا ننسبها ماضيا إلى الألوهية ـ الآنية، الفورية، كلية الوجود ـ ننسبها اليوم إلى الافتراضية. من الآن فصاعدا، يمكنك أن تكون في وقت فعلي وفي آن واحد، في كل الأمكنة من العالم. هذا يصنع منا كائنات استثنائية. ما كان آباؤنا ليصدقوا ذلك! يوجد هنا بعد تخييلي بشكل حقيقي. كيف؟ أرى أن هناك تكاثرا لمواضع الالتحام بين الروحاني والتقنيات. انظر سلسلة أفلام حرب النجوم. ما هي إن لم تكن منهج تلقين وتعليم؟ أو خذ ذلك الفيلم الأميركي الرائع الذي شاهدته خمس مرات، ماتريكس، حيث نجد فكرة المسيح المخلص وكل الأفكار الأسطورية، لكن في إطار تكنولوجي جدا. إن المزاوجة بين الاثنين صعبة جدا، لكن الأضداد تتلامس في موضع ما في نهاية المطاف… أن يكون الأميركيون هم من يقومون بذلك، فإنه ممّا يدهشني. لم لا يكون الأوروبيون هم من يفعلون ؟ لدي انطباع بأن النفسية الأميركية شابة وأنها ترى نفسها في المستقبل، بينما يصبح الأوربيون عجائز مثلنا في بلاد فارس ! العجوز لديه ماض جميل وكبير، لكن كلما شاخ، تمدد ظل ماضيه وتقلّص مستقبله.

– في كتابك «النور يأتي من الغرب»، تتحدث كثيرا أيضا عن تأثير عالم الرياضيات موبيوس
Moebius…
-… الذي ينقلك خلسة من الخارج إلى الداخل، والعكس أيضا. الأمر متصل بشكل وثيق بما كنت أقوله. في النهاية، كل التفسير الروحي للرسائل المقدسة الخاصة بالتأويل مبني على هذا التأثير حيث يتم الانتقال من الظاهر إلى الخفي ومن الخفي إلى الظاهر. فمع تقنيات الافتراضية، ننتقل بسهولة مقلقة من فضاء إلى آخر وبالتحديد من الحميم إلى العام. توفر هذه التقنيات طرقا أربع للتحوّل: تقلص الزمان والمكان، الإدراك المتعدد الحواس، اختلاف الذرية عن الأصل وتأثير موبيوس، أي أربع طرق قريبة جدا من عالم المعرفة الغنوصي. بمعنى آخر، وبفضل الافتراضية، يستطيع إنسان اليوم ومن دون أن يصبح روحيا بالضرورة، أن ينسجم بشكل ما ومن دون درايته، بطرائق الكشف القريبة جدا من المتصوفة القدامى.


الكاتب : ألان فالاد وباتريس فان / الترجمة عن الفرنسية: نجوى بركات

  

بتاريخ : 03/05/2021