دبدو: ترميم تحت المجهر الدولي لإنقاذ جوهرة منسية من التاريخ المغربي

في زاوية نائية من شرق المغرب، حيث تختلط حجارة «القصبة» بأنفاس التاريخ، تنهض مدينة «دبدو» من سباتها الطويل، لا لتستعيد فقط ما هدمه الإهمال، بل لتروي للعالم حكاية مغرب متعدّد الجذور، متجذر في التعايش. وبين أطلال «الملاح» و»القصبة»، يلتقي الحنين بالعلم، وتُصاغ خطة إنقاذ تحت أنظار العالم، تُراهن على الأصالة لكنها تتوسل بالبصيرة.
مدينة صغيرة بتقاليد كبيرة**
في عمق جبال الأطلس الشرقي، بين شعاب إقليم «تاوريرت» (شرق المغرب)، تقع مدينة «دبدو»، وهي إحدى أقدم الحواضر المغربية التي تجمع في عمرانها وتاريخها بين العمق الأمازيغي، والتأثير الأندلسي، والوجود اليهودي المغربي العريق.
عُرفت «دبدو» في القرون الماضية كمركز ديني وعلمي وثقافي، وك»محطة آمنة» استقر بها اليهود الفارين من الاضطهاد في الأندلس في القرن الخامس عشر، إلى جانب أسر مرينية كانت لها بصمات معمارية واضحة لا تزال شاهدة إلى اليوم على زخم تاريخها.
ورغم هذا الغنى الثقافي، ظلت «دبدو» تعاني من التهميش والإهمال الممنهج اللذان أصابا نسيجها العمراني، إلى أن أعيد إدراجها مؤخرًا ضمن «قائمة المواقع الـ25 المهددة عالميا سنة 2025» من طرف «صندوق الآثار العالمي» (WMF)، وهو ما شكل نقطة تحول بارزة في تاريخ المدينة الصغيرة.
**حبل النجاة بعد سنوات من النسيان!
بعد قرابة 5 سنوات من التنبيهات والمطالبات من المجتمع المدني والمؤرخين والفاعلين المحليين، سيتم في 25 يونيو توقيع «بروتوكول رسمي» لـ»تأهيل النواة التاريخية» لدبدو، ويشمل: «القصبة المرينية» ; «الملاح» ; «المنابع التاريخية» ; «المقبرتين اليهوديتين» ; «الأحياء المجاورة».
وقع على خطة الإنقاذ هذه، ستة شركاء من داخل المغرب وخارجه، من بينهم: «صندوق الآثار العالمي» ; «مؤسسة التراث الثقافي اليهودي – المغربي» ; جمعية «أصيل» ; جمعية «الذاكرة والحوار» ; «الجماعة المحلية»لدبدو.
إن الهدف من هذا المشروع ليس فقط الترميم الفيزيائي للبنايات، بل «إعادة الاعتبار لهوية المدينة»، و»استعادة نسيجها التاريخي والاجتماعي والثقافي». ولهذا الغرض، أُنجزت دراسات أثرية وتقنية موسعة، شارك فيها خبراء من مجالات عدة، وشملت حتى «فحص قنوات ومصادر المياه» التقليدية و»مخططات الدفن اليهودية القديمة».
**أخطاء الماضي.. لا ينبغي تكرارها
للإشارة، ليست هذه أول مرة تشهد فيها المدينة محاولات للترميم، إذ سبق أن أطلقت مشاريع محدودة الأثر في السنوات الماضية، لكنها اتسمت بالفوضى وسوء التقدير، إذ تم تكليف مقاولات غير متخصصة لم تكن تملك خبرة في الترميم الأثري، مما تسبب في تشويه ملامح أصلية داخل «القصبة» و»الملاح»، بل إن بعض الأعمال تمت دون الرجوع إلى دراسات أثرية مسبقة.
وفي هذا الصدد، صرح رئيس جماعة دبدو، «توفيق قدوري»، بأن: «هذه المحاولات كانت كفيلة بمحو جزء من الذاكرة المعمارية للمنطقة»، مضيفًا: «أي ترميم لا يستند إلى دراسة أثرية وتاريخية عميقة هو خطر مباشر على الهوية، ويهدد بجعل المدينة نسخة مشوهة من ذاتها».
خطة جديدة بروح علمية واستشراف مستقبلي**
تهدف الخطّة المعمارية الجديدة، إلى تحقيق عدة أهداف مستقبلية، أبرزها: أولا، «التشخيص الدقيق» للبنيات القديمة. ثانيا، «احترام النسق العمراني والمواد الأصلية». وثالثا، العمل على «نقل التجربة» إلى مدن مغربية أخرى تعاني من المصير نفسه. في هذا الصدد، شددت المهندسة المعمارية «يائزاشعواني» (عضو فريق صندوق WMF)، على أن: «المشروع يسير وفق مرحلتين: الأولى، تتعلق بإنقاذ البنايات المهددة.. والثانية، بإعادة تأهيل المنابع والمقابر والنسيج الحضري المتكامل».
دبدو.. حين يصبح التراث أداة للحوار**
إن لهذه المبادرة المحلية – الدولية، جانبا مهما يستند الى بعدها الثقافي والإنساني، فهي ليست فقط عملية ترميم لمباني وحجارة صامتة، بل هي «إحياء لذاكرة العيش المشترك بين المسلمين واليهود»، وهو ما تسعى الجمعيات المدنية لإبرازه ضمن رؤية تنموية شاملة.
فمدينة «دبدو»، رغم صغرها (من حيث المساحة لا التاريخ)، تختزن «سردية غنية عن التسامح والتعدد، وعن مغرب كان (ولا يزال) منفتحًا – منذ قرون – على الآخر مهما كان معتقده أو ثقافته».
قد تكون «دبدو» مدينة منسية على هامش الخريطة السياحية، لكنها بالنسبة للمؤرخين والمعماريين تمثل «مختبرًا حيًا لحفظ الذاكرة المغربية المتعددة». وبين دروس الماضي وطموحات المستقبل، تقف المدينة اليوم على عتبة فرصة نادرة ذهبية: فإما أن تُستعاد بهويتها الحضارية والإنسانية – التاريخية الكاملة، أو تُفقد إلى الأبد كواحدة من آخر الشواهد على التعدد المغربي الأصيل.


الكاتب : (بقلم علي خربوبي) تـرجمة بتصرف: المقدمي المهدي

  

بتاريخ : 23/06/2025