بإمكاننا القول -نحن المهتدين بالتحولات الجديدة والمفتونين بما تأتي به من مخترعات- إن الرقمنة انتزعت سلط أهل الفكر والأدب، منها السلطة الأخلاقية التي صارت اليوم بيد أهل الاستعراض؛ النجم ورجل السياسة. فأصبحت تقاس بكثافة الظهور على منصات التواصل الافتراضية، بل تحولت القيم والمعتقدات التي تلقيناها في الطفولة وتسكن كياننا إلى آراء. هذه الأزمات ليست أحداثا عابرة، بل هي انعكاس عميق للتحولات المعاصرة، يسميه أمين معلوف بـ»الإنهاك الحضاري» الذي يعيشه كل من الغرب والعالم العربي على حد سواء. والمؤمن بهذه النظرة غير مجد في ملّته واعتقاده أن يحظى الأدب بأهمية خاصة في هذا العصر.
لماذا يفتح سارد عبد الهادي الفحيلي في مجموعته القصصية «دخان الملائكة» (مؤسسة الموجة الثقافية، المغرب 2025) الخانة الفارغة في سرديات الطفولة ضمن عالم لا مكان لها فيه؟ هل هذه الرؤية غير مجدية أم أنها صرخة إنذار من إفلاس أخلاقي؟ أم يمنحنا شيئا آخر نريده وهو إعادة التفكير في الهويات والانتماءات؟
ليس ثمة رغبة في الشكوى من سلوك السارد العاق، الذي يبنيه الكاتب المغربي عبد الهادي الفحيلي في مجموعته القصصية، والذي خرج عن مسار التاريخ ليعود إلى طفولتنا الباذخة، إلى ضمائرنا السجية والشقية، رافضا قول ميشال ويلبيك: «إنني لا أعبأ أبدا بإعادة الزمن لأنني لا أؤمن بأنّه من الممكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء». وكأني به يعكس النغمة نفسها، فيقول: «ما قد كان قد كان دائما ويكون دائما»، و»كنا أطفالا وكانت الطفولة لعنتنا النكراء»، وإنّنا صرنا أبناء مصيبة تاريخية.
نحن لا ننتقد ما يرويه سارد هذا «الدخان» اللعين، الذي أعمى بصائرنا الباحثة عن مبررات صائبة لهذا المركب الحضاري الجديد وأوقعنا في فخ الاستثناء، والحالم بدراجة هوائية يقيس بها توازن الزمن وهو يسير فوق أسلاك شائكة، لأنه ملتصق بجلدنا. وإنما نريد القول إن خصيصة عوالمه الممكنة جارحة تحوي من التصورات والأحلام الطفولية أكثر مما تحتويه عوالمنا، وهو ما جعلها سكينا حرونا تنخر جراحنا وتجلدها بمشرط الحكاية، حكاية «أمي والرائحة وجدتي» الممزوجة ب»رائحة العدس»، والمدهونة بزبدة بقال الحي «المعفونة». هذه الفيتامينات (القصص) يستنجد بها جسد ضعيف أنهكته أنياب «القمل»، وظلت مكتوبة بمداد من دم في خرقة الذاكرة، مما جعل «ظل» أحلامها، أي لاوعي الرغبات المكبوتة، عنيفا. فهل صرنا ضعفاء أم إن هذا السارد اللعين يرتدي قبعة التقي ويخيط فضيلة حمقاء؟
إن الفضيلة الحمقاء تؤدي إلى سقوط كل أنواع الضحايا، بتعبير فولتير. وضحايا هذا السارد/ الطفل هي السلطة العامة الآتية من الأعلى؛ سلطة الضغوط والتقاليد والممارسات الاجتماعية، التي كانت تبدو في نظرنا جميلة، أو بالأحرى نجمّلها حين ننظر إليها من بعيد، فمنحها إجازة باستخفاف، تارة بدهاء (أراني أذبحه)، وتارة أخرى بعبثية تردم حفرة التدين الشعبي، حيث يطيب لنا الظن وسبل العيش فيه، وحيث الضحك كالبكاء في حضرة النفاق والفقر الاجتماعيين، فيصبح أقصى حلم يريده طفل مقهور هو أن يكون «حاجا ميتا..» (أمنية، ص48).
ولا يكتفي سارد قصص «دخان الملائكة» العنيد والساذج بما فيه الكفاية بمواصلة تفاهاته المولدة القلقَ، بل إنّه يعود بنا إلى العوالم التقليدية للزمان والمكان والرقابة والعصيان، المكسوة بالرغبات فقط، ولا تعبأ بالتحولات وأحلام الطفولة المجهضة، يخيطها فوق جغرافية ضيقة (زقاق حي قصديري) تضج بالمتناقضات وتنتهك فيها كل المحرمات (سيرة بيضة)، ما دامت آتية من «أنا أعلى» فاسد «لا يموت.. ولا ينحني إلا ليقبل ابنة خالة أمي».
هل نجد له مسوّغا للتبرير ونقول إنّ ما يحكيه سارد هذه القصص، مجهول الهوية، رغبات غير واعية لا نستطيع تمثلها بوعي عقلاني محض، بل ننتشي بها ونصرف عبرها الملتبس والغامض، ذلك الوجه الآخر الذي يخلّصنا من الهمّ الوجودي والاغتراب، ويسكّن المدوي الذي يجلجل في أعماقنا، كنا نحقق عبره «الذات» تماهيا مطلقا مع الوجود؟ أم يمكن وصفه، في أفضل الحالات، بعديم المسؤولية، المرتد، صاحب نيات خبيثة ومنحرف؟ أم نعتبره مدانا يجب شجبه؟
المدان في عرف القانون هو الذي يسبب ضرراً معنويا يستند إلى قيد، والمعني بالإدانة هنا في هذه القصص المتشابكة طفل. إنه كائن ملائكي يلهو فوق القاعدة والقانون والأعراف والتقاليد، يعاني من إفراط القهر، ولا يستكين. يختبر ما تعنيه الرقابة الموروثة التي صنعت صنما يعمي الأبصار والنفوس. هل يرتدي السارد قناع الطفولة حتى يتجرد من الإدانة والشجب؟ وإذا كانت هذه الفرضية التي تخصني صائبة، هل يمكن اعتبار ما يقوله ويفعله هذا اللعين مرة أخرى حكمة تقليدية متشائمة تلخص تجارب حياته؟
الحكمة توجد في «التشاؤم والنبوءات المنذرة بنهاية العالم»، حسب تعبير «ليونيداس دونسكيس». ربما يكون هذا السبيل تبريرا لسوءات السارد وهو يرتكب حماقات ضد قيود بيئة نتنة، ويغرد خارج السرب، سرب الخراب، ولسان حاله يقول: إن الجدية المزعومة التي يتحلى بها «الأنا الأخلاقي» اليوم تنبني على طفولة هشة، وعزاؤنا الأجمل في هذا المصاب التاريخي هي التفاهة (كما يقول ميلان كونديرا).
دعونا لا نضل السبيل، سبيل التجديد الذي تبنيه الحضارة الرقمية فوق رؤوسنا، ونقول: إن سردية الطفولة التي يرسمها عبد الهادي الفحيلي، بسارده اللعين، شكلت جزءا من معركة الحياة الضارية، خيضت بسلاح البراءة المطبوعة بالقوة والمكر وتجريب الذات. إن ما استحضره سارد «دخان الملائكة» العاق هنا يستفز فئة كبيرة داخل المجتمع المغربي، تلك التي تشد حبل الجيل الجديد قبل السقوط الحتمي، يمكن أن نسميهم كهنة المعبد الاجتماعي ورهبان الدير المستعصين على التدجين والتهجين.
إن الذوات الفاعلة في بناء «رؤية العالم» لهذه «المجموعة القصصية « لا تقتصر على التمثيل الحرفي للدور، بل إنها مشاكسة وغارقة في الوحل الاجتماعي الساخن، وتحمل وجها كاريكاتوريا مألوفا يمكن معاينته في الحي والزقاق والشارع، ثم إن هواجسها عبثية ولذائذها صغيرة، تقربنا من أثر الماضي أكثر من الواقع.
هذه السمات مجتمعة تؤكد أن «دخان الملائكة» لا تكتفي بهذا النغز الفكري الذي استفزنا، وحسب، بل إنها فضاء رحب لقول نقديِّ يستجيب لشتى المقارباتِ والمنهجيات، البلاغية والسردية والسيميائية والنفسية والتداولية، وغيرها من المداخل التي يمكن اعتمادُها في تناول ما تصوغه من قضايا في مستويَي الأساليب الفنّية والتمثيل السرديّ القصصي، وما يفيض عنهما من دلالات وأبعاد يتعالق فيها الديني بالتاريخي، والنفسيّ بالاجتماعيّ، والثقافي بالتداوليِ .
«دخان الملائكة» للقاص عبد الهادي لفحيلي ملائكة في حضرة سارد لعين

الكاتب : د.حميد لغشاوي
بتاريخ : 17/10/2025