دراسات قرآنية .. فرضيات الكتاب حول (قصص القرآن) ونقدها الملامح الأساسية لتأويلية فضل الرحمن – 9

محاولة بلورة هذه المنهجية التأويلية هو ما لا يقوم به الحداثيون ولا الإسلاميون في رأي فضل مما يبرر طرحه؛ فالتحديثي الكلاسيكي -وفقًا له- لا يمتلك أيّ منهج يستحق هذا الاسم، بل يقتصر نشاطه على التعاطي الإجمالي مع مشكلات تبدو له وكأنها تتطلب حلًّا يفيد المجتمع الإسلامي، لكنها في حقيقتها مُستلهَمة من تجربة الغرب. أما الإسلاميون الأصوليون فإنهم «يتحدثون عن الأصل دون بلورة أيّ فكر أصيل من حوله، ولا يملك الإحيائي الجديد سوى أن يكون ردّ فعل على ما يأتي به الحداثي الكلاسيكي حول بعض القضايا الاجتماعية، دون أن يُتعب نفسه في البحث عن منهجية للتفسير القرآني تكون أمينة وموثوقة دراسيًّا وعقليًّا»؛ لذا فرغم الاشتغال الطويل على القرآن وعلى الحداثة وعلى الإشكالات التي يطرحها لقاؤهما أو صدامهما، إلا أن قضية المنهج تظلّ غائبة عن العقل الإسلامي -وفقًا لفضل- وفي هذا الغياب، ومن أجل ملء هذا الفراغ بمنهج متماسك يتجاوز التجاور الفكري والواقعي يؤسس فضل تأويليته للقرآن.

 

بالنسبة للإشكال الأول، فإنّ (فضلًا) الذي يعي تمامًا كون تأويليته تقوم في حركتها الأولى على أساس إمكان الوصول لفهم موضوعي لمرتكزات القرآن بكلّ ما يحيط بهذه العملية من صعوبات تفترضها خطوات منهجيته (التاريخية- المفهومية) كما سنوضح، يستعيد ذلك الخلاف المطروح على ساحة التأويليات المعاصرة حول الموضوعية، وهو خلاف يمثل طرفَيْه الأقصى: بيتي الهرمنيوطقي الأمريكي أحد أهم أقطاب الهرمنيوطيقا المنهجية، وجادمر الهرمنيوطقي الألماني الشهير أحد أهم أقطاب الهرمنيوطيقا الفلسفية؛ فبينما يرى بيتي أن هدف التأويل هو الوصول في حركة ارتدادية لما كان يقصده (عقل) قائل النصّ حين كتب نصّه، فإن جادمر على العكس يرى أن هذا الأمر مستحيل، ليس فقط بسبب (التاريخ الفعَّال) الذي يُؤثِّر في موضوع البحث أو النصّ المقروء، ولكن بسبب حتمية وجود التحديد المُسبَق للوعي في عقل القارئ نفسه، وهو تحديد ينطلق من (التاريخ الذي يُشكِّل قماشة كينونتي)، والذي ورغم أن الوعي به يرقى بالوعي التاريخي من وعي تاريخي عادي لوعي تاريخي فعلي، إلا أنه لا يجعلنا نفلت من تأثيره، فهذا (التاريخ المؤثِّر أو الفعَّال) يظلّ حاسمًا في إحداث هذه المسافة بيني وبين النصّ وقائله وتاريخه (أي قماشة كينونته)، وحتى مع طرح جادمر لفكرته عن الإنصات وعن أنصار آفاق القارئ والنصّ، إلا أنه يظلّ ضد الحديث عن وصول موضوعي لمعنى مقصود عبر منهج مناسب وهو ما يجعله على الضدّ تمامًا من طرح فضل الرحمن عن ملامح تأويليته.
لذا يحاول فضل الرحمن ومن أجل التأكيد على إمكان الوصول لفهم موضوعي مناسب لمرتكزات القرآن كخطوة أولى من منهجيته، والتي يتأسَّس عليها كلّ شيء انطلاقًا من نظرته عن تماسك النصّ كما أسلفنا وكما سنوضح تفصيلًا -أن يُبرِز عدم دقة فكرة جادمر عن (حتمية التاريخ الفعَّال) هذه، يقوم فضل بهذا عن طريق إثارة إشكال (الانقطاع في التقاليد)، فالتقاليد الثقافية الكبرى سواء في المسيحية أو في الإسلام على سبيل المثال تشهد لحظات من الانقطاع يكون أبطالها أفرادًا يحدثون انقطاعًا عبر قيامهم بحركة مزدوجة تجاه ماضيهم وحاضرهم، حيث ينطلقون من وضعية راهنة تثير استشكالات وانتقادات نحو تقاليدهم ويعودون لتأسيس وضعية جديدة تغير واقعهم وذواتهم والنظرة لتاريخهم الذي ينخرطون فيه والتاريخ الفعلي اللاحق عليهم؛ مما يجعل حديث جادمر عن أفراد وعيهم الذاتي يحدث داخل إطار (الحلقات المغلقة للحياة التاريخية)، وغياب لتلك القدرة على إدراك الماضي بقدرٍ ما من الموضوعية؛ هو أمر لا يقبله التاريخ ولا العقل وفقًا لفضل الرحمن، “فإيجاد أجوبة واعية على الماضي تتضمن حركتين لا يمكن تمييزهم، التيقن من الماضي…، والجواب نفسه، الذي يتحدد -لا بشكل مسبق- عن طريق الوضعية الراهنة التي يكون التاريخ الفعلي جزءًا منها، ولكن يأتي جهدي الواعي ونشاط وعيي الذاتي كذلك ليشكِّلَا جزءًا أساسيًّا منها “.
الإشكال الثاني الذي يثيره فضل في مواجهة تأويليته الخاصة، هو إشكال أحادية المعنى، ففضل ينتقد التأويليات التراثية بما في ذلك الفقهية تحديدًا على كثرة الخلافات وتشتت الآراء، فقلَّة النصوص الحاسمة واللجوء للقياس الذي هو تقنية مظنونة يؤدي لتشعّب الآراء واختلافها المستمر، وهذا شيء يحِدُّ منه اكتشاف الوحدة القرآنية التي يقترحها فضل في مواجهة هذا التشتّت، لكن هذا -كما يؤكد فضل- لا يعني وجود تأويل أحادي؛ وهذا لأن الخطوة الأولى من تأويلية فضل والتي تقوم بتحديد مرتكزات القرآن، هي خطوة أصلًا تأويلية، فهذا التحديد هو بمثابة خطاطة أولية لفهم القرآن، لكنه بالطبع ليس تأويلًا وحيدًا، ولا يمتلك في ذاته أيَّة إطلاقية.
لكن محاولة تأسيس منهجية تتوخى الوحدة كأساس، ومحاولة الاقتراب من هذه الوحدة هو -كما يصرُّ فضل- أمرٌ يُقلِّل من التأويلات المُتعسِّفة ويستبعدها، وللتقليل أكثر فإنّ (فضلًا) يتحدث عن (تأويلية جماعية) ربما، ليس فقط بمعنى وجود طواقم عمل لإجراء هذه التأويلية، بل كذلك في البحث عن نقاشات جماعية تمنح القدرة للجماعة كلّها على قبول بعض التأويلات ورفض بعضها، فهذه التأويلية بهذه السمات والاقتراحات هي التي تستطيع التخلص -وفقًا له- من تلك الدائرة الجهنمية، دائرة تكرار التساؤل الذي لا ينتهي عن نقطة البدء في الإصلاح.
ولعلّ هذه (التأويلية الجماعية) تبدو في حديث فضل عن أن إنجاز تأويليته مزدوجة الحركة هي مهمّة يشترك فيها المؤرخون وعلماء الاجتماع وعلماء الأخلاق؛ فالمؤرخون يحددون الوضعية التاريخية الراهنة، وعلماء الاجتماع يحددون عناصر هذه الوضعية التي نحياها وكيفية تغيير حاضرنا بقدر ما يبدو ذلك ضروريًّا، وعلماء الأخلاق يحددون سلَّم أولويات جديد يجعلنا قادرين على توطيد للقيم القرآنية توطيدًا جديدًا، أيْ إن دورهم (التوجيه الفعال)، أو (الهندسة الأخلاقية)، هذا يجعل تأويلية فضل في حاجة لعملٍ جماعي بالفعل.
بهذا يكون فضل قد أسس لمنطلقات تأويليته، «غياب الوحدة في التأويليات الكلاسيكية أو وجودها لكن كوحدة مُقحَمة على القرآن من خارجه»، «إمكان الوصول لفهم مقصد القرآن/ وحدة النص القرآني/ مرتكزات العقلانية الإسلامية»، “استبعاد التأويلات السيئة والذاتية والمُتعسِّفة التي تُشوِّش على النصّ القرآني وعلى إنجاز تأويلية فعَّالة له تستعيد حيويته”
وحدَّد هدف تأويليته هذه باستعادة الفعالية والحيوية للنصّ القرآني في حياة المسلم المعاصر بشكلٍ يتجاوز الدائرة الجهنمية للتجاور والتساكن على مستوى الفكر والواقع.
وكما نحن محظوظون بكون فضل -على خلاف غيره- قدَّم تأسيسًا واضحًا لتأويليته ومنطلقاتها يمكن التداخل معه والنقاش حوله، فكذلك نحن محظوظون للغاية حيث إن (فضلًا) كتب تطبيقًا لهذه التأويلية لا تناولًا لبعض آيات كما هي العادة، بل كتابًا كاملًا (المسائل الكبرى في القرآن الكريم)؛ مما يجعلنا قادرين على فهم الملامح الرئيسة لهذه التأويلية، والأدوات المنهجية التي يتوّسلها فضل في اشتغاله على القرآن.


أخبار مرتبطة

غدا، إن لم تعد تحكمنا دول ديمقراطية تضمن مبدأ كونية الحقوق، فثمة احتمال كبير لأن تحل القدرة الشرائية، التي هي

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

لا يمكن إلا أن نلحظ نوعا من بين الذات لدى نبوئيي وادي السيلكون. تابع «بتيرتيال» و»ايلون ماسك» دراستهما، معا، بجامعة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *