دراسات قرآنية : قراءة القرآن بوصفها فعل حريّة (3)

يتحصل مما أسلفناه أنه بتثميننا لهذا التوجه إنما نؤشر إلى محاولات لتنشيط المخيال تعمل على زحزحة الحدث التاريخي بناء للحدث الأسطوري وإضفاء هالة من القداسة، تعززه بنية القصص الديني من حيث ما هي بنية أسطورية مفتوحة على العجيب والمدهش وأيضا محكومة بهاجس البحث عن العبرة رغبة منها في التأسيس لزمن مطلق. وهو ما يدفعنا شديدا للقيام بنقد تاريخي لتحديد أنواع الخلط والحذف والإضافة والمغالطات التاريخية التي أحدثتها الرواية القرآنية بالقياس إلى معطيات التاريخ الواقعي المحسوس [6].
هناك حدث قلّ أن لفت النّظر، ولكنه استرعى انتباهنا هنا. فالنص القرآني ههنا هو كل النصوص التفسيرية والإخبارية والأحداث التاريخية لذلك نرى “الصديق” يسعى بخطى وئيدة بين النص والتأويل يحاول استئناف الحوار مع سر هذا المحلوم به وقد رفرف.
وعلى طريقة “أركون” يشدّد “الصدّيق” على وجوب الانتباه إلى أنه يتم الخلط عادة بين الوحي بما هو كلام الله الأزلي المثبت في أم الكتاب أو اللوح المحفوظ وبين الوحي كتنزيل تجسد في لغة بشرية على الرغم من أن القرآن نفسه يلحّ على وجود كلام إلهي أزلي لانهائي محفوظ في أم الكتاب وعلى وجود وحي على الأرض بصفته الجزء المتجلي والمرئي والممكن التعبير عنه لغويا والممكن قراءته وهو جزء من كلام الله اللانهائي بصفته إحدى صفات لله على هذا النحو أشعت لحظات مضيئة، لحظات أولئك الذين حاولوا تحرير القرآن من هيمنة الدغمائية ومن له أن يجحد إسهام المعتزلة في فتح إشكاليات عميقة في مسألة المعنى وعلاقة اللغة بالمعنى ودور آلية التأويل في تكوين المعنى.

 

ليكن منا على بال، أن الصراع الحاصل بين رأي قائل بوجوب بقاء ما نزل من الوحي في الذّاكرة – فقد رأوا أن كلام الله إذا ما أودع في مستند مادي وسلّم لفعل الكتابة فإنه يفقد قوّته. وآخر يقول بضرورة تدوينه لإنقاذه من التّلف، وقد ثبت في أعقاب هذه الجدالات، الرأي الذي يرى في الأثر المكتوب تطابقا مطلقا مع ما جاء في الرّسالة الأصلية الضائعة مكّن الشّفوية من البقاء داخل التاريخ الحيّ إلا أن قرار التثبيت نهائيا في الكتابة – خشية أن يرتاب مرتاب – قضى على تدفق المعنى وانسيابه الذي لا ينتهي. فقد بقيت المخطوطات الأصلية – التي احتفظت بها حفصة – تشكل مصدر قلق وإزعاج شأنها في ذلك شأن رقاع أخرى أتلفت أو منع استعمالها وتداولها .
إنّه لمن أجل هذا يعدّ الصراع بين من يقول بالشفوية والتلاوة ومن يقول بالخط والكتابة، صراعا عميقا بين رؤيتين لا إلى النص القرآني فقط بل إلى الحياة عموما : رؤية بدويّة قوامها الرحلة – بما فيها رحلة القول / اللفظ وحركته – وسندها الذاكرة. وأخرى تترسّم خطاها بثبات و قوامها الاستقرار – بما فيه استقرار النص وثباته – وسندها الخط.
فالإشكال هنا، أننا نتعامل مع نص مكتوب والحال أن الأصل فيه أنه شفويّ. لقد كان القرآن كتبا ومصاحف، نصا منفتحا متعددا ثريّا، إذ لم يتورع الصحابة على ظمئهم إليه وتقديسهم له، وهم يقرئون المسلمين آيه، أن يستبدلوا كلمة بكلمة أخرى. بالمعنى نفسه، غير أنّ فعل التّدوين المؤسسي الموحد للنص في تناسق بين الآيات والسور قد قضى على حركة القرآن ونشاطه [.
لقد تيسر لـ”يوسف الصدّيق”بهذه العدّة المفهومية أن يطوّر نمطا لافتا من النظر في النص القرآني، نظرة تتأسس على التدبّر والتفكر فانغلاق القول القرآني ليس يمكن أن يكون لأنه نص ذو وجوه منفتح دوما على القراءة، فمن ذا الذي ينكر أن القرآن جامع لما في ذينك الكتابين (التوراة والإنجيل) بل قل إنما هو لحظة استطاع محمد بمقتضاها تسجيل شعبه في ذاكرة التوحيد، حين أعلن القول المنزّل محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، لم يبق هذا القول داخل المساحة التي أتى النبيّ على غلقها حال إنهائه للعهود النبويّة، إذ يفتح أفقا جديدا يصلهم بالامتداد الرّوحاني في اليهودية والنصرانيّة فوسّع مجالاتهم النظرية إلى أن توحدت مع التاريخ الكوني[.فالمقصود من “اقرأ”، مثلا – إعادة قراءة – ما هو موجود منذ زمن في التقاليد التوحيدية .
استبان إذن أننا أمام قراءتين للنص القرآني، تلك التي قتلت روح التحرر الفكري من فرط انغلاقها – لمحدودية إطار النظر عندهم وصرامته -، والثانية مع هؤلاء الذين حاولوا تحرير القرآن – الوحي الذي استحال نصا – من هيمنة الدغمائية. فكلام الله يطرح في علاقة بمفردات وتساؤلات في ارتباط بالزمان، ولكنه لا ينعطي إلا تأويلا. والنصّ لا يفتأ ينفي ما ظننّا تحصيله بالرؤية، فتراه يحجبه بتركيب مجازي، وترى رغبتنا في رصده تنتكس كلما تقدّم الوصف وكأننا به نصّ يحمي الناظر ويقيه من سنا يخطف الأبصار في ما لا يقوى أيّ نصّ على كشفه، باعتباره نورا على نور.
بات واضحا إذن أن التراث الدّيني منذ موسى ثم عيسى إنما هو قول في أصله ليس قولا دينيّا بل هو فكر محض يلتحق بـ “اللّوغوس” أي خطاب العقلانية في أبعادها الإنسانية، ثم إن نحن لطّفنا النظر وأنعمناه، ألفينا “الصدّيق” يشير إلى حضور الفكر الاستدلالي.
لقد خاض مفكرون ، نقاشا حادا جادا وثريا ، دون أن يغادروا رحاب النص القرآني، فقد انغلق التشكل وانقفل النسق وانكفأ تدخّل السماء بواسطة الرسل على ذاته وامتنعت الألوهيّة عن الاستمرارية في إدارة الحياة الأرضية لتسلّمها بأيدي من باتوا مزوّدين بعقلانية راشدة و”منها إشكاليات التفسير لدى محمد عبده، ولغة القرآن لدى طه حسين واستقلالية الديني عن السياسي لدى علي عبدالرازق وقضية الإيمان وحرية الوعي لدى محمد إقبال ومكانة المرأة في الشريعة لدى الطاهر الحداد”[35]. فقد كان الفقيه المجدد، “الطاهر الحداد”، المؤمن الذي يسعى إلى فهم ذاته بمزيد فهم نصوص إيمانه، متأثرا في نظرته إلى المرأة مثلا، بأعلام المدرسة الاجتهادية العقلانية الجديدة مثل الإمام “محمد عبده”، “قاسم أمين”، يعلن انخراطه في درب هؤلاء ولا يجد غضاضة في الاستناد إليهم والنقل عنهم كما لم يجد حرجا في الاستدراك عليهم والإضافة لما أسسوا، وقد لقيت أفكارهم كبير الصدى لدى المستنيرين من التونسيين. ولا تعني إنارتنا لهذه الصلة انتفاء الإضافة والجدة والطرافة في كتاب “امرأتنا في الشريعة والمجتمع”، فهذا المتطوّع الأفاقي ّ والذي تجاسر على دخول مناطق التحليل والتحريم والتأثيم والتجريم، قد رام تأصيل تلك الأفكار والبلوغ بها إلى إمكاناتها القصوى[36]، إلا أن القراءة الإيمانية وأصحاب الانغلاق الفكري جعلوا بينه وبين مشروعه سدّا، وعطلوا فيض القرآن. فانخسف وجه الإله، العادل، الرحيم والجليل. فلا نعجب عندما نرى هذا الشيخ الزيتوني يؤكّد فكرة المساواة التامة في جميع مجالات الحياة بما في ذلك الميراث انسجاما مع مبدأ التدرج في الأحكام والروح المقاصديّة للشرع. استتباعا لمستجدات الواقع، ووجها من وجوه المرونة والتطور.


الكاتب : عمر بوجليدة

  

بتاريخ : 26/08/2020

أخبار مرتبطة

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

: داخل مجتمع اللاتلامس، لم تعد نظرة العشق الأولى موضوع تبادل في الشارع، أو داخل حانة، أو في عربة من

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *