دراسات قرآنية : قراءة القرآن بوصفها فعل حريّة (4)

يتحصل مما أسلفناه أنه بتثميننا لهذا التوجه إنما نؤشر إلى محاولات لتنشيط المخيال تعمل على زحزحة الحدث التاريخي بناء للحدث الأسطوري وإضفاء هالة من القداسة، تعززه بنية القصص الديني من حيث ما هي بنية أسطورية مفتوحة على العجيب والمدهش وأيضا محكومة بهاجس البحث عن العبرة رغبة منها في التأسيس لزمن مطلق. وهو ما يدفعنا شديدا للقيام بنقد تاريخي لتحديد أنواع الخلط والحذف والإضافة والمغالطات التاريخية التي أحدثتها الرواية القرآنية بالقياس إلى معطيات التاريخ الواقعي المحسوس [6].
هناك حدث قلّ أن لفت النّظر، ولكنه استرعى انتباهنا هنا. فالنص القرآني ههنا هو كل النصوص التفسيرية والإخبارية والأحداث التاريخية لذلك نرى “الصديق” يسعى بخطى وئيدة بين النص والتأويل يحاول استئناف الحوار مع سر هذا المحلوم به وقد رفرف.
وعلى طريقة “أركون” يشدّد “الصدّيق” على وجوب الانتباه إلى أنه يتم الخلط عادة بين الوحي بما هو كلام الله الأزلي المثبت في أم الكتاب أو اللوح المحفوظ وبين الوحي كتنزيل تجسد في لغة بشرية على الرغم من أن القرآن نفسه يلحّ على وجود كلام إلهي أزلي لانهائي محفوظ في أم الكتاب وعلى وجود وحي على الأرض بصفته الجزء المتجلي والمرئي والممكن التعبير عنه لغويا والممكن قراءته وهو جزء من كلام الله اللانهائي بصفته إحدى صفات لله على هذا النحو أشعت لحظات مضيئة، لحظات أولئك الذين حاولوا تحرير القرآن من هيمنة الدغمائية ومن له أن يجحد إسهام المعتزلة في فتح إشكاليات عميقة في مسألة المعنى وعلاقة اللغة بالمعنى ودور آلية التأويل في تكوين المعنى.

 

 

فنحن إذن أمام قراءتين للنص القرآني: تلك التي تنزع إلى قتل روح التحرر فيه وهذه التي تناضل من أجل العناية والاشتغال به من جهة ما هو معينا من الدلالات لا ينتهي. وهكذا استبان أن “الصدّيق” يظهر متفاعلا مع مبادئ الإصلاح وقيمه بعامة، تلك التي كانت قد انتشرت في أوساط النخبة والتي اتخذت لها المنهج التدريجي سبيلا، فـ ”الصدّيق” سليل مخيال جماعي يتلازم فيه الإسلام بالسياسي والوطني بالشعبي كما أنه نما في زمن الدولة الوطنية التحديثية التي رسمت تجربة “الغرب” مثالا لها، فهو يمتح من قاعدة فكرية للتيار الإصلاحي، في مستوى تناوله إشكالات الحداثة وصلاتها بقضايا الهوية والتراث والإسلام، وارهاصات أولية قادت هذا التوجه العام، فليس من الصدفة أن يعمد إلى هذا الاهتمام، بل إنما هو يريد بذلك أن يؤكد على أنه يوجد خيط ناظم لهكذا تناول في “تاريخنا” بحث في مصادر أنفسنا، فهم كانوا يفكرون داخل المنظومة الفقهية ويتوسلون بآلاتها ومناهجها لإيجاد موازنة بين متطلبات الشريعة ومستجدات الواقع ومقتضيات العيش المشترك، وإن كانوا ينطلقون من مسلمات إيمانية مفادها أن ما “عندنا” صالح وباستمرار، لا يطرأ عليه التاريخ ولا يطاله شك. ههنا ينتصب السؤال الحاسم صارما : هل يستوفي معنى الذات كونها هوية؟ لقد توضح أن قراءة “الصدّيق” لم تكن تأسيسا على فراغ أو هي قطع مع ما سبق من قراءات : فما يدعو إليه من نقد وإعمال للعقل إنما هو متضمن في ثنايا قول كان قد قيل، علاماته السؤال عن “ذاتنا” اليوم في أفق الإنسانية؟ ولكنه طمس واستبعد، فأنظر كيف أن نص “الصدّيق” يستعيد تلك اللحظات النقدية، ثم انظر كيف أنه يعاود الرجوع إلى مشكلات في ارتباط بواقع مغاير ليكتشف أننا نعيش على رجع صداها.
وإذا نحن نظرنا في مسألة الإرث لاحظنا أنها ما فتئت تشغل بال المؤمنين، ويبدو أن مكانة “الكلالة” مثلا تطرح تساؤلات وبالتالي تحولات جذرية، تؤدي إلى زعزعة نظام الإرث العربي السابق. ههنا ينكشف سر استبسال “الطبري” لإبقاء كلمة “كلالة” دون معنى. وهكذا نفهم كيف أن كلمة “كلالة” يمكنها أن تظل بلا معنى محدد ليتعلق الغموض بالموجب والعجيب والمدهش والسري والخلاب والساحر، فقد فسرت ضمن المعنى الذي تتطلبه الحاجة وضغط العرف واستراتيجيات القوة والضبط. ولأن النظام العربي القديم للإرث يتعارض والقرآن احتال الفقهاء وسمحوا لأنفسهم بالتلاعب بالآيات القرآنية من أجل تشكيل “علم توريث” يتناسب مع الاكراهات الاقتصادية والمقتضيات الاجتماعية ترسيخا لتلك الصورة المثالية والتقديسية التي تدعي التطابق وتزعم التماهي، الكلي والمطلق، بين مضامين الأحكام التي بلوروها ونص الوحي. وعندما تعجز المؤسسة التفسيرية على “القراءة” في الخطاب القرآني وحين تظهر لهم هشاشة حيلهم أمام ضخامة الإتقان المجازي الذي اختصّ به الله ، يلقون بأنفسهم في غياهب الخرافة [39] .
غير أن تحليلنا خول لنا الالتفات إلى الأساسيات المبنية على عقلانية دينية تؤسس للقمع لا للاختلاف من منظور فكرة الخطيئة ، وبالتالي أهمية بعض الأسئلة التي يمكن أن تكون كشفا للأسباب التي تكمن وراء تآلف وتحالف الكل ضد المرأة؟ فحتى الأسطورة، مثلت شاهدا أدبيا وفنيا وايديولوجيا منحازا لثقافة ذكورية وبالتالي فالفارق بين تشكيل الأنوثة والذكورة هو فارق ايديولوجي ثقافي تاريخي.


الكاتب : عمر بوجليدة

  

بتاريخ : 27/08/2020