دراسات قرآنية : قراءة القرآن بوصفها فعل حريّة (5)

يتحصل مما أسلفناه أنه بتثميننا لهذا التوجه إنما نؤشر إلى محاولات لتنشيط المخيال تعمل على زحزحة الحدث التاريخي بناء للحدث الأسطوري وإضفاء هالة من القداسة، تعززه بنية القصص الديني من حيث ما هي بنية أسطورية مفتوحة على العجيب والمدهش وأيضا محكومة بهاجس البحث عن العبرة رغبة منها في التأسيس لزمن مطلق. وهو ما يدفعنا شديدا للقيام بنقد تاريخي لتحديد أنواع الخلط والحذف والإضافة والمغالطات التاريخية التي أحدثتها الرواية القرآنية بالقياس إلى معطيات التاريخ الواقعي المحسوس [6].
هناك حدث قلّ أن لفت النّظر، ولكنه استرعى انتباهنا هنا. فالنص القرآني ههنا هو كل النصوص التفسيرية والإخبارية والأحداث التاريخية لذلك نرى “الصديق” يسعى بخطى وئيدة بين النص والتأويل يحاول استئناف الحوار مع سر هذا المحلوم به وقد رفرف.
وعلى طريقة “أركون” يشدّد “الصدّيق” على وجوب الانتباه إلى أنه يتم الخلط عادة بين الوحي بما هو كلام الله الأزلي المثبت في أم الكتاب أو اللوح المحفوظ وبين الوحي كتنزيل تجسد في لغة بشرية على الرغم من أن القرآن نفسه يلحّ على وجود كلام إلهي أزلي لانهائي محفوظ في أم الكتاب وعلى وجود وحي على الأرض بصفته الجزء المتجلي والمرئي والممكن التعبير عنه لغويا والممكن قراءته وهو جزء من كلام الله اللانهائي بصفته إحدى صفات لله على هذا النحو أشعت لحظات مضيئة، لحظات أولئك الذين حاولوا تحرير القرآن من هيمنة الدغمائية ومن له أن يجحد إسهام المعتزلة في فتح إشكاليات عميقة في مسألة المعنى وعلاقة اللغة بالمعنى ودور آلية التأويل في تكوين المعنى.

 

فليست “حواء” مذنبة ولم تعقد حلفا مع الشيطان، بل كان خروج “آدم” من الجوار الإلهي لأنه قبل الأمانة، وإن تعجل ونسي وافتقد العزم أمام ذلك المجاز، وكان إبراهيم وكل يواجه المجاز والمطلق وخفاياه، حيث أبعدت “حوّاء” عن المشهد في تلك السردية الكبرى، أو أنها برّئت من جرم كانت قد أدينت به في “التوراة” وجعل منها وسيطا لارتكاب “الخطيئة”[41]، وهو ما استهلّ به خط سردي جديد لقص الأحداث الدينية المؤسسة. فخلال السّرد يعمد القصص القرآني إلى التقاط ما تناثر من المأثور الأسطوري ليعيد بناءه على قاعدة المجاز.
ولمّا استتب لـ “الصدّيق” الأمر وظفر بالمعنى الأدق للإشكال الذي انعطفنا على بيان أمره وبيان وجه الصلة بينه وبين فيوضات المعنى وتعدد الحقيقة، طفق يهيأ أرضية في مستواها يمكن أن ننصرف إلى توضيح كيف أن بعض “الاجتهادات” لا يمكنها أن تكون إلا تمزيقا للوجود التاريخي لتنفضح سذاجة / هشاشة كل “ادعاء”، لا يتخذ لنفسه سبيلا وسطا.
خاتمة:

هكذا بحث “الصديق” في المهمش من الروايات والمنسي من السرود والمطموس من الأساطير والمختلف حوله من الخرافات والحكايا، ليبيّن بحسّ مرهف، كيف تشكلت الثقافة الإسلامية على حواف هذا النص الذي يكتنفه كثير التباس وقد جاورته وزاحمته النصوص الثواني. وقد أتاح الالتفاف على المجاز والشفوي في”الكتاب” المتفجر بدفق المعنى، أن ينتقل بالعرب من البداوة إلى الحضارة ومن القبيلة إلى الأمة وأن ينشؤوا دولة صارت إمبراطورية. وقد كانت قراءته لذلك التراث تنطوي على جدّة في الرؤية والمنهج. ولأن معرفته بتراث الإسلام معرفة واسعة وعميقة، أدرك أن إخضاع النص القرآني للقراءة التاريخية النقدية، يحسّس الإنسان ببؤس الإنسان في صمت الرّب وغيابه ويصطدم بشعور ديني جماعي متمسك بإلهية مصدر النص وتعاليه عن أي مساءلة. وكان “الصديق”مع استدراكاته على ما نقل عنهم معترفا بجليل ما أفاد منهم.
ومن الواضح أن مقاربة تسلك هذا السبيل، إنما تميل إلى التفكير في الظاهرة الدينية –التوحيدية – في كليتها، بعقل مقارن يرى ما بين ظواهرها ونصوصها من تشابه ويعمد إلى إخضاع النصوص للبحث العلمي والنقد التاريخي، وهي مقاربة من ينتصر للعقل مفهوما – فما انفك يلحّ على أن: تجرأ على المعرفة ولتكن لك شجاعة استعمال ذهنك الذي لك- على العقل الفقهي النصيّ. انها دعوة إلى التلظى من جديد بأسئلة حارقة على الدوام : هل كلام الله الموحى به إلى محمد كان قد نقل بصدق وإخلاص كامل وحفظ كتابة في المصحف المشكل زمن عثمان؟ وذاك التبليغ الشفهي هل ضاع إلى الأبد؟ وما حجم التحول الذي طرأ على خطاب الوحي بانتقاله من خطاب شفوي إلى خطاب مكتوب؟
إنه بكل المعاني طرح لقضايانا كثيف، رشيق وجيد يعيد لـ”وجود” نسّاء ذاكرته في محاولة لاعادة تهيئة الواقع، ذلك أن الموروث فرض صمتا منظما ضدا عن كل مشروع قيمي ثقافي سياسي جديد، ليكرس نسيان فكرة المواطنة المدينة والعقل. فالتاريخ “عندهم” اكتمل وصار “مقدسا”، في هذا المستوى بالذات مطلوب طرح التساؤلات. بديلا ومسعى ليس يمكن الاستعاضة عنه. إنّ عنف الخطاب وغياب السؤال النقدي، هو ما من شأنه أن يفسر ما يعيشه عالمنا من صراع مرير بين البشرية المنتمية إلى تقاليد نصية قديمة – أولئك الذين أصروا على البقاء في دائرة الموروث – ملاذا ومأوى وتستند إلى سلطة الوحي وبين بشرية “ابتليت” بحب النوع الإنساني.
وقد غدا من الضروري منذ زمن بعيد مجاوزة مفهوم “الراعي والرعيّة” المرتبط بالآداب السلطانيّة، ذلك أنّ تنمية التفكير في الحقوق الإنسانيّة : حرية الاعتقاد، حق الاختلاف، العدل، حقوق المستضعفين، إنما يتوازى، إن لم يتقدم، على ما يجب لله على الناس.
فبقراءة كهذه نعيد إلى مبدأي الحرية والكرامة امتلاءهما ونعيد للنصّ مثواه الروحي والأخلاقي في فيوضاته اللامتناهية.


الكاتب : عمر بوجليدة

  

بتاريخ : 28/08/2020