دراسات قرآنية 09 – .. فرضيات الكتاب حول (قصص القرآن) ونقدها كيفية تحديد المسائل الكبرى في القرآن

محاولة بلورة هذه المنهجية التأويلية هو ما لا يقوم به الحداثيون ولا الإسلاميون في رأي فضل مما يبرر طرحه؛ فالتحديثي الكلاسيكي -وفقًا له- لا يمتلك أيّ منهج يستحق هذا الاسم، بل يقتصر نشاطه على التعاطي الإجمالي مع مشكلات تبدو له وكأنها تتطلب حلًّا يفيد المجتمع الإسلامي، لكنها في حقيقتها مُستلهَمة من تجربة الغرب. أما الإسلاميون الأصوليون فإنهم «يتحدثون عن الأصل دون بلورة أيّ فكر أصيل من حوله، ولا يملك الإحيائي الجديد سوى أن يكون ردّ فعل على ما يأتي به الحداثي الكلاسيكي حول بعض القضايا الاجتماعية، دون أن يُتعب نفسه في البحث عن منهجية للتفسير القرآني تكون أمينة وموثوقة دراسيًّا وعقليًّا»؛ لذا فرغم الاشتغال الطويل على القرآن وعلى الحداثة وعلى الإشكالات التي يطرحها لقاؤهما أو صدامهما، إلا أن قضية المنهج تظلّ غائبة عن العقل الإسلامي -وفقًا لفضل- وفي هذا الغياب، ومن أجل ملء هذا الفراغ بمنهج متماسك يتجاوز التجاور الفكري والواقعي يؤسس فضل تأويليته للقرآن.

بالنسبة للخطوة الأولى أو الحركة الأولى ذات الاتجاه الارتدادي في تأويلية فضل، والتي تتعلق بالاتجاه نحو القرآن لاكتشاف وحدته التي تُمثِّل الأساس لتأويليته، فإن (فضلًا) -وكما قلنا- يعتبر أن الوحدة القرآنية تعني تأسُّس النظام التشريعي على النظام العقدي؛ لذا فمع إصرار فضل على ضرورة تحليل التشريعات الإسلامية في ضوء تاريخيتها، وفي ضوء كونها استجابة قرآنية على وضعيات خاصة شهدها المجتمع القرشي، تجعلنا نستطيع بقراءة تجريبية لهذه التشريعات[xv] تجريدها من ملابساتها التاريخية والوصول لمبادئ عامّة تُمثِّل المعقولية الإسلامية الناظمة للتشريعات، إلا أن هذا التجريد ليس كافيًا وحده للوصول للوحدة التي يتحدث عنها كأساس لتأويليته، بل لا بد مع هذا من السير في اتجاه كشف المرتكزات الرئيسة للنصّ القرآني، من هنا فإننا نفهم تمامًا لماذا يشتغل فضل الرحمن في أكبر مساحة في خطابه على تحديد هذه المرتكزات، باعتبارها مرتكزات عقَدية اجتماعية، أو تكوينية -كما أسلفنا- للحياة الأخلاقية الإسلامية، بدلًا من الوقوع في نفس الخطأ الذي لا يقع فيه فقط الحداثيون وإنما الإسلاميون كذلك كما يقول، وهو الانشغال بعلاج مسائل اجتماعية جزئية -كردِّ فعل في أغلب الأحيان- عن الهدف الأهم وهو اكتشاف الوحدة القرآنية الناظمة للمبادئ العامة لكلّ هذه التفصيلات والتي تُمثِّل الركن الأساس في (تأويلية قرآنية أمينة وموثقة دراسيًّا وعقليًّا).
ولكي يقوم فضل بالوصول لهذه المرتكزات كأساس لتأويليته فإنه يلجأ لتشغيل تقنية مزدوجة على القرآن، تقع (التاريخية) في قلبها، فهذه التقنية تجمع بين التحليل المفهومي لصلة التصوّرات القرآنية بالتصوّرات الإبراهيمية من جهة، وبين التسييق التاريخي لهذه التصورات باستحضار الوضعية التاريخية التي تنزَّل فيها القول القرآني من جهة أخرى؛ من أجل كشف وإبراز ما يمكن أن نُعبِّر عنه بكونه (هيكلة) المفاهيم في مواجهة الواقع القرشي، فالمسألة القرآنية الكبرى هي مسألة إبراهيمية مُهيكَلَة في مواجهة الواقع القرشي.
ويصل فضل من خلال هذا الجدل المفهومي التاريخي إلى وجود ثلاثة مرتكزات للقرآن، هي: (التوحيد)، و(الوحي)، و(الحساب أو البعث)، وكونهم مرتكزًا قرآنيًّا ينبع من مركزيتهم في الرؤية الإبراهيمية من جهة، ومن جهة أخرى لكون هذه المساحات الثلاث هي تحديدًا ما رفضه القرشيون، مما جعل القرآن يُبرِزهم (ويهيكلهم) باستمرار لتأكيد انفصاله عن النظام العقَدي الجاهلي، هذا الذي كان يحاول قراءة الإسلام من خلال نظامه هو العقَدي، فيُحيل الوحي لكهانة والتوحيد لشرك[5]، فكان لا بد للإسلام من تأكيد انفصاله عن هذه الرؤية.
هذه التقنية بازدواجيتها لا تمنح (فضلًا) -فحسب- القدرةَ على تحديد مرتكزات القرآن الثلاثة: (توحيد، وحي، بعث)، بل كذلك تمنحه أفضليّة كبيرةً في القدرة على تحديد وتركيب هذه المفاهيم المركزية نفسها، وكيف تكون هي نفسها حقولًا مفاهيمية بسبب فعل التهيكل هذا، وهو أمر مهم للغاية لتقنية فضل كما سيتضح.
فالتوحيد الإسلامي – على سبيل المثال- ليس مجرد مفهوم بسيط، بل هو مفهوم مركّب من عدة مفاهيم هي التي تفصل الإسلام عن توحيديات أخرى منها التوحيدية الوثنية[6] ذاتها التي كان القرآن يقابلها؛ فالتوحيد الإسلامي يجمع بين مفاهيم: (توحيد المفارقة) والذي يميز التوحيد الإبراهيمي عن الواحدية وتأليه الطبيعة، و(توحيد التصريف) والذي يميزه عن ديانات، مثل: (الثنوية المعتدلة)، و(الثنوية الجذرية) مثلًا، والتي هي مُوحِّدة في العبادة وفي الأصل وفي المآل، لكنها ترى تاريخ العالم محكومًا بصراع إله الشر لإله الخير، و(توحيد العبادة) الذي يميزه عن ديانات تُوحِّد الخالق لكن لا تُفرِده بالعبادة مثل الديانة الجاهلية، ونحن نجد مركزية كبيرة لمفاهيم (توحيد التصريف)، و(توحيد البيان)، و(توحيد العبادة) في القرآن؛ وهذا لأن هذه المفاهيم هي أساس خلاف مع المعتقدات القرشية التي تمثّل الوضعية التاريخية لتنزّل القرآن، وهذا يعطي لتقنية فضل بازدواجيّتها هذه مزية كبيرة وفعالية في تحديد المرتكزات كما في بيان تركيبها.
لكنَّ (فضلًا) لا يتوقف في كتابه عند تقديم منهجية تتيح له تحديد هذه المرتكزات فحسب، ولا حتى في بيان تعقّد وتركيب كلّ مفهوم نتيجة تهيكله في مواجهة النظام العقَدي الاجتماعي التشريعي الجاهلي، بل كذلك يقوم فضل بربط مفاهيم أخرى أقلّ مركزية بهذه المفاهيم المركزية حتى يستطيع فهم القول القرآني فيها؛ انطلاقًا من (خصوصية المنطق القرآني ذاته) وابتعادًا عن الوقوع في أيّ إسقاط كأحد الرهانات الأساس لتأويلية فضل (كـتأويليةٍ أمينةٍ للقرآن).
ففضل -مثلًا- حين يدرس مسألة (الطبيعة) في القرآن، فإنه يتناولها باعتبارها مسألة متعلقة بقضية الحساب الأخروي كمسألة كبرى ومركزية، فالحديث القرآني حول تدمير الطبيعة والذي يتجلى بصورة كبيرة في السور الأولى (ذات الطابع الأبوكاليبسي) المُركِّز على اندثار العالم وقرب الآخرة كما يقول جعيط، ليس حديثًا عن انتظامها أو عدم انتظامها «فمفاهيم انتظام الطبيعة واستقلالها من جهة، ولا مطلقيتها من جهة ثانية لا تظهر في القرآن على وجه الحصر، بل والأهم أنها لا تظهر بارتباط مع الاعتقاد في المعجزات»، لكن من أجل «إثبات قابلية الطبيعة للتدمير وإثبات إمكان خلقها من جديد من أجل المساءلة الأخيرة للإنسان».


الكاتب : طارق حجي

  

بتاريخ : 08/08/2020

أخبار مرتبطة

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

: داخل مجتمع اللاتلامس، لم تعد نظرة العشق الأولى موضوع تبادل في الشارع، أو داخل حانة، أو في عربة من

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *