دراسات قرآنية 1 : «كلام الله» في القرآن: متلفـّظ أم متلفـّظون؟ -1-

التفكير في النص القرآني، وشرحه وتفسيره وحصر معناه، ليس انشغالا عربيا، فقد دأب المستشرقون، ومعهم الدارسون القرآنيون، على محاولة تفكيك الخطاب القرآني وارتياد علومه ومباحثه ولغاته، وتحديد نوازله ومفاتيح فهمه، وذلك في مواجهة التيارات الدينية التي تحاول فرض أساليبها بمنطق استغلاقي واحتكاري وإيماني، لا يستقيم الآن مع تعدد المناهج وطرق البحث العلمية التي تنبني على التشخيص والتحليل والتدقيق والتمحيص واستدعاء القرائن العلمية المادية والتاريخية.

 

“لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير ” (سورة الأنعام: 103).
* عن قتادة عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: “قال رسول لله صلّى لله عليه وسلّم: رأيت ربّي في صورة شابّ[أمرد] له وفرة جعد قَطَط في روضة خضراء” (1).
لا نسعى في هذه المقاربة إلى الخوض في قضايا كلاميّة عفّى عليها الزمن، وإن كانت لا تزال تطلّ برأسها من ثنايا مقالات وأبحاث وكتب غير قليلة؛ وإنّما إلى طرح قضيّة التلفظ في النصّ القرآني استدراكا على الأصول، ومحاولة منّا ما أمكن، لسدّ الفجوات الصامتة في أكثر من متتالية جُمْلية في النصّ القرآني، كلّما كان الكلام مسندا إلى غير الذات الإلهيّة. وهي قضيّة لم نقف ـ في حدود معرفتنا ـ على من تناولها، إلاّ أن يكون ذلك على سبيل التلميح والإشارة الخاطفة(2).
1 /1 القرآن كلام الله:
الذي شغل الباحثين حقّا إنّما هو قضيّة الكلام الإلهي أهو قديم أم حادث، سواء عند المعتزلة ومن والاهم، من الشيعة الإماميّة من الذين قالوا بحدوث القرآن، أي أنّه لم يكن ثمّ كان، أو هو ليس قديما قدم الذات الإلهيّة. وقد ساقوا في ذلك حججا من النص القرآني نفسه، وتذرّعوا بكلمة “محدث” فالمحدث بمختلف تقليباته (حدث ـ أحدث ـ استحدث) يفيد الوقوع والأمر الحادث وعكس القديم أو نقيضه، والإيجاد والابتداع، أو ما هو محتمل الوجود أو ممكنه.
يقول المحقّق الحلي :” ومن لواحق الكلام في الصفات الكلام في كونه متكلماً، وقد أجمع المسلمون على وصفه بذلك ، ووصف به نفسه بقوله: ”وَكَلَّمَ للَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا” سورة النساء 164 (3).
ثمّ اختلفوا في معنى ذلك، فقال أهل الحق إنه متكلّم بمعنى أنه فعل الكلام الذي هو الحروف والأصوات، وأنّ ذلك الكلام محدث ومجعول ومخلوق، بمعنى أنه فاعل له”.
ويُنسب إلى الإمام علي في ”نهج البلاغة”: «يُخْبِر [لله] لا بلسان ولَهَوات، ويَسْمَعُ لا بخرُوق وأدوات، يقول ولا يَلفِظُ، ويَحْفَظُ ولا يَتَحَفَّظُ، ويُريد ولا يُضْمِر، يُحِبّ ويرضى من غير رِقَّة، ويُبْغِضُ ويغضب من غير مشقّة، يقول لمن أراد كونه: كن. فيكون، لا بصوت يَقْرَع، ولا بِنداء يُسْمَع، وإنّما كلامه سبحانه فِعْلٌ منه أنشأه وَ مَثَّلَهُ، لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانيا.” (4)
أمّا خصوم هؤلاء من الحنابلة فقالوا بأنّ القرآن غير مخلوق، وهو كلام لله، وكلامه إنّما هو هذه الحروف والألفاظ التي تنتظم النص القرآني. وذهب الأشاعرة مذهب الحنابلة، وخالفوهم فقالوا بأنّ المقصود بالكلام الإلهي “الكلام النفسي” القائم في الذات الإلهيّة.
والقول بذلك ممّا ينجم عنه تقييد الذات الإلهيّة، بالزمان والمكان، ووصفها بالتحيز والتجسم، وما إلى ذلك من لوازم المادة ومواصفات الجسمانيّة. وكان من ذلك أن شبّهوا لله بإِنسان له لحم ودم وشعر وعظم وأنّ له جوارح و أعضاء (5) حقيقيّة من يد ورجل و رأْس و عينين وأنّ له وفرة سوداء، و شعرا قططا.
ويُنسب إلى أحمد بن حنبل قوله: ”والقرآن كلام لله تكلم به، ليس بمخلوق ومن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله ووقف ولم يقل ليس بمخلوق فهو أخبث من قول الأول، ومن زعم أنّ ألفاظنا به، وتلاوتنا له مخلوقة، والقرآن كلام الله فهو جهمي، ومن لم يكفر هؤلاء القوم فهو مثلهم…” (6)
والجهمية تنكر أن يكون لله يتكلّم، وإنّما هو يكوّن شيئًا يعبّر عنه، ويخلق صوتًا فيسمعه؛ لأنّ الكلام لا يكون إلا من جوف ولسان وشفتين‏.‏
جاء في فتاوى ابن تيميّة :”فقلنا‏:‏ هل يجوز أن يكون لمكوّن غير لله أن يقول‏:‏ يا موسى ‏{‏إِنِّي أَنَا رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏12‏]‏ أو يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّنِي أَنَا للَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏14‏]‏، فمن زعم أن ذلك غير الله فقد ادعى الربوبية، ولو كان كما زعم الجهمي أن لله كوّن شيئًا كأنْ يقول ذلك المكوَّن‏:‏ يا موسى، إن لله رب العالمين ولا يجوز أن يقول‏:‏ إني أنا لله رب العالمين.”‏
وقد ساق ابن تيميّة أكثر من آية، ليبيّن أنّ الله يتكلّم :”‏وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏164‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏143‏]‏، ‏‏{‏قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏144‏]‏، ويحتجّ بحديث متّفق عليه:”ما منكم من أحد إلا سيُكَلِّمه ربّه، ليس بينه وبينه ترجمان‏.”.
وأمّا قولهم‏ إنّ الكلام لا يكون إلا من جوف وفم، وشفتين ولسان، فيُستشف من ردود ابن تيميّة‏ عليه، أنّ الأشياء أو الجمادات، وما ليس له جوارح الإنسان أو الحيوان وأعضاؤه، يتكلّم هو أيضا. ويتمثّل على ذلك بالنسق الحواري الاستحالي الذي يجري في مواضع غير قليلة من النص القرآني حيث يُسند الكلام إلى الحيوان أو الانسان. وهو ضرب من التجسيد. كان له شأن في ثقافة عرب ما قبل الإسلام.

 

 


الكاتب : منصف الوهايبي

  

بتاريخ : 18/06/2020