دراسات قرآنية (10) : فرضيات الكتاب حول (قصص القرآن) ونقدها : ثنائيات الانتظام/ اللا انتظام

محاولة بلورة هذه المنهجية التأويلية هو ما لا يقوم به الحداثيون ولا الإسلاميون في رأي فضل مما يبرر طرحه؛ فالتحديثي الكلاسيكي -وفقًا له- لا يمتلك أيّ منهج يستحق هذا الاسم، بل يقتصر نشاطه على التعاطي الإجمالي مع مشكلات تبدو له وكأنها تتطلب حلًّا يفيد المجتمع الإسلامي، لكنها في حقيقتها مُستلهَمة من تجربة الغرب. أما الإسلاميون الأصوليون فإنهم «يتحدثون عن الأصل دون بلورة أيّ فكر أصيل من حوله، ولا يملك الإحيائي الجديد سوى أن يكون ردّ فعل على ما يأتي به الحداثي الكلاسيكي حول بعض القضايا الاجتماعية، دون أن يُتعب نفسه في البحث عن منهجية للتفسير القرآني تكون أمينة وموثوقة دراسيًّا وعقليًّا»؛ لذا فرغم الاشتغال الطويل على القرآن وعلى الحداثة وعلى الإشكالات التي يطرحها لقاؤهما أو صدامهما، إلا أن قضية المنهج تظلّ غائبة عن العقل الإسلامي -وفقًا لفضل- وفي هذا الغياب، ومن أجل ملء هذا الفراغ بمنهج متماسك يتجاوز التجاور الفكري والواقعي يؤسس فضل تأويليته للقرآن.

 

 

هذا التحديد مهمّ جدًّا، حيث يتيح لفضل دراسة الطبيعة في القرآن دون إسقاط لأيّ إشكالات من خارج القرآن عليه، مثل إشكال انتظام الطبيعة واستقلال قانونها، وهو الإشكال الذي يحتلّ موقعًا مركزيًّا في الإبستمولوجي الحديث الذي ينطلق من مسلَّمة انتظام الطبيعة كأساس للعلم التجريبي الاستقرائي، والذي يتكرر كثيرًا إسقاطه على القرآن بسؤاله عن الطبيعة في ضوء ثنائيات الانتظام/ اللا انتظام، القانون/ اللا قانون، دون السؤال عن المجال الذي يتناول فيه القرآن نفسه قضية الطبيعة كمُحدِّد أوَّليّ لطرح السؤال.
ونحن نظنّ أن (فضلًا) مدينٌ كثيرًا للياباني إيزوتسو في منهجيته تلك في التعامل مع المسائل الكبرى، سواء في تقنية تحديد المرتكزات، أو -والأهم- في الجزء الخاصّ بكشف العلاقة بين هذه المرتكزات (المسائل الكبرى)، وكشف العلاقات بين المفاهيم هذا له أهمية مضاعفة في تأويلية فضل، فهو من جهة يجعله أقدر على كشف الوحدة القرآنية التي تربط بين هذه المفاهيم، ومن جهة يساعده على معالقة الإشكالات الطارئة بهذه المفاهيم المركزية (المسائل الكبرى) دون أن يمارس الإسقاط كما وضحنا في مثال تعامله مع قضية الطبيعة، من هنا تأتي أهمية ما نظنه استفادة منهجية من إيزوتسو وإن كانت استفادة قدمت كذلك لمنهجية إيزوتسو الكثير حيث هي تطوير وتحريك لها.
فعمل فضل على القرآن وتحديد مفاهيمه المركزية يمتاز في كونه يشتغل لا على مفاهيم مختارة بتقنية غير واضحة كما هو الحال مع اللساني الياباني، بل يشتغل على مفاهيم عقديّة مختارة؛ انطلاقًا من تقنيته المزدوجة التي أسلفنا الحديث عنها، والتي هي تطعيم (مفاهيمي تاريخي) لمنهجية إيزوتسو الدلالية؛ مما يعطي لمفاهيمه ثقلًا أكبر حين تُدْرَس كمفاهيم مركزية أو مسائل كبرى في القرآن، وهذا امتياز منحه عمل فضل لتقنية إيزوتسو حيث نقلها من حقلها اللساني لحقل تأويلي أكثر ثراءً، وهذا الثراء يزداد حين نتحدث عن تعامل فضل مع هذه المرتكزات وعلاقاتها بشكل يُركِّز على كشف العلائق ما بينها، حيث وكما كانت المفاهيم عند إيزوتسو هي حقول مفاهيمية لها مركز ومفاهيم متعالقة؛ انطلاقًا من تفريقه بين المعنى الأساسي والمعنى العلاقي، فكذلك يوجد هنا -أيضًا- حقولٌ عقَدية لها مركز مفهومي ومفاهيم متعالقة به، فهذا أمر حاسم بالنسبة لفضل الذي يُصِر على تماسك القرآن مبادئًا وتشريعًا كسطح عقَدي تشريعي ترتبط فيه المفاهيم وتتعالق، مما يجعل تقنية إيزوتسو في غاية الإفادة لفضل حين تخضع لتطوير يناسب مدخله.
ولعلّ هذا التعالق بين المفاهيم وأثر تقنية إيزوتسو في كشفه يَظهر لنا بوضوح لو تناولنا مفهوم من أهم المفاهيم التي تناولها فضل في كتابه وربما أكثرها قدرة على بيان مقصوده بالتماسك العقائدي الأخلاقي للنصّ القرآني وهو مفهوم (الآخرة) وكيف يراه فضل مفهومًا أخلاقيًّا، وكيف يربط به مفاهيم مثل: (التقوى)، و(العدل)، و(المساواة).

 

 


بتاريخ : 10/08/2020

أخبار مرتبطة

ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان…

في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، كان غالبية العبيد من أصل إثيوبي. لم يقتصر وصف العبيد على السود فقط، بل

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *