دراسات قرآنية 11 : فرضيات الكتاب حول (قصص القرآن) ونقدها الوصول للوحدة القرآنية

محاولة بلورة هذه المنهجية التأويلية هو ما لا يقوم به الحداثيون ولا الإسلاميون في رأي فضل مما يبرر طرحه؛ فالتحديثي الكلاسيكي -وفقًا له- لا يمتلك أيّ منهج يستحق هذا الاسم، بل يقتصر نشاطه على التعاطي الإجمالي مع مشكلات تبدو له وكأنها تتطلب حلًّا يفيد المجتمع الإسلامي، لكنها في حقيقتها مُستلهَمة من تجربة الغرب. أما الإسلاميون الأصوليون فإنهم «يتحدثون عن الأصل دون بلورة أيّ فكر أصيل من حوله، ولا يملك الإحيائي الجديد سوى أن يكون ردّ فعل على ما يأتي به الحداثي الكلاسيكي حول بعض القضايا الاجتماعية، دون أن يُتعب نفسه في البحث عن منهجية للتفسير القرآني تكون أمينة وموثوقة دراسيًّا وعقليًّا»؛ لذا فرغم الاشتغال الطويل على القرآن وعلى الحداثة وعلى الإشكالات التي يطرحها لقاؤهما أو صدامهما، إلا أن قضية المنهج تظلّ غائبة عن العقل الإسلامي -وفقًا لفضل- وفي هذا الغياب، ومن أجل ملء هذا الفراغ بمنهج متماسك يتجاوز التجاور الفكري والواقعي يؤسس فضل تأويليته للقرآن.

 

 

هذا التأسُّس للقضايا الأخلاقية والسلوكية والاجتماعية على المفاهيم العقدية التي تصير بهذا حقولًا مفاهيمية تتعالق بها المفاهيم التشريعية وتنطلق من إشعاعها وتدور في مجالها، هو الذي يفسر -وفقًا لفضل- تَواكُب هذه التشريعات مع تكريس التصورات العقَدية منذ انطلاقة القرآن الأولى؛ فالقرآن تبنَّى تحريم الربا وإدانة الكَنز وتحرير العبيد منذ لحَظاته الأولى في مكة، مما يعني أن المساواة وخلق مجتمع متساوٍ مؤاخٍ، ورفع الظلم عن الفئات التي كان يظلمها النظام التشريعي الجاهلي، هي مبادئ تعمل في بنية التشريع القرآني ذاته، وتكشف “عن ما هو معقول وعقلاني خلف وصاياه وتشريعاته وتعليقاته ”
ويرى فضل أن الوصول للمبادئ العامة للتشريع الإسلامي يتطلب -وبالإضافة لهذا الاشتغال على المعتقد كمفهوم تكويني عقَدي أخلاقي- الاشتغال على التشريعات/الوصايا القرآنية الاجتماعية ذاتها، لا عبر قراءة حرفية لغوية لها، بل عبر مجادلة هذه التشريعات بالسياق التاريخي لنزولها من أجل الوصول لتحديد أهدافها الناظمة.
فكما يذكر فضل فإنه سيكون من العبث الكبير التعامل حرفيًّا مع أمر القرآن بتحرير الرقاب على اعتباره تكريسًا لنظام العبيد! حيث يكتسب المرء جدارته الأخلاقية عبر التحرير الدوري للعبيد مما يحتّم وجود هذه المؤسسة، والخروج من حرفية كهذه يأباها أيّ عقل حسّاس تأتي من الانتباه لهذه المجادلة التي يتحدّث عنها فضل، والاشتغال بها على مساحات أخرى مثل إدخال النساء في فئات الوارثين، ومثل التنبيه على عدم حسن الوراثة عبر القرابة، فالتأكيد على سياق التشريع القرآني التاريخي حاسم تمامًا في الوصول لهذه المبادئ الناظمة.
لكن هنا نقطة مهمّة لا بد من التأكيد عليها، وهي أن هذه المجادلة لا بد أن تتم دومًا بالإضافة للعمل على المفاهيم العقدية التشريعية كمجالات مفاهيمية تمثّل نواة لمفاهيم تشريعية واجتماعية، أيْ إن ثمّة هنا اشتغال مزدوج بين العمل على مستوى المفاهيم العقَدية والسير منها إلى التشريعات، والعمل العكسي من التشريعات وإلى المبادئ الناظمة؛ وهذا لأن (فضلًا) لا يأمن كثيرًا لما يسميه «فوضى أسباب النزول» كمصدر لكشف مبررات التشريع القرآني، فيرى أن الأجيال الأولى ربما لم تهتم كثيرًا للتسجيل الحرفي لسببِ كلِّ آية، وللواقعة التي تسببت في نزول تشريعٍ ما؛ لذا فربما كانت هذه الأسباب التي تُذكر كأسباب نزول هي تفسيرات وتخمينات من اللاحقين، مما يقلّل من إمكان الأمن لها، لكنه في ذات الوقت لا يرى في هذا إشكالًا كبيرًا، حيث إنّ القرآن وإنْ كان لا يذكر السبب أو الواقعة الجزئية إلَّا أنه يشير مع هذا لمبررات تشريعِهِ، خصوصًا مع الانتباه لمفاهيمه ومسائله الكبرى كمفاهيم عقَدية تشريعية، مما يساعد على بلورة هذه المبادئ العامة الناظمة للتشريعات الإسلامية، والتي سنعود بها -في الحركة الثانية من تأويلية فضل- لواقعنا؛ من أجل أن نستنبط منها حلولًا لمشكلات وضعيتنا الاجتماعية الخاصّة.
إذن فنحن أمام منهجية شديدة التركيب، فهي منهجية منطلقاتها «الوصول للوحدة القرآنية»، «إمكان تحديد المرتكزات»، وهدفها هو «استعادة حيوية وفعالية القرآن»، وهي عبارة عن حركة مزدوجة من الوضعية الراهنة إلى القرآن، ومن القرآن إلى الوضعية الراهنة.
وفي الحركة الأولى للبحث عن الوحدة القرآنية فإنها تستخدم تقنية مزدوجة (مفاهيمية تاريخية) لتحديد المرتكزات، وفي كشف الوحدة وعلاقات المرتكزات تُطوِّر منهجية إيزوتسو عن المجال الدلالي و(المعنى الأصلي)، و(المعنى العلاقي)، ثم تُدخِل هذا التحديد لمرتكزات (عقَدية أخلاقية تشريعية) في إطار منهجية مزدوجة أدقّ تنطلق من المفاهيم العقَدية إلى التشريع، ومن التشريع لتحديد مبادئه العامة الناظمة لعقلانيته التشريعية.
وفي الحركة الثانية ومن أجل تشخيص الوضعية الراهنة من أجل الوصول من المبادئ والمرتكزات التي تم التوصل لها في الحركة الأولى إلى حلول جزئية يفترض فضل تضافر جهود علماء اجتماع وتاريخ وأخلاق وتأويلية جماعية.


بتاريخ : 12/08/2020