دراسات قرآنية 12 : فرضيات الكتاب حول (قصص القرآن) ونقدها القرآن والإسلام وروحية الأخلاق

محاولة بلورة هذه المنهجية التأويلية هو ما لا يقوم به الحداثيون ولا الإسلاميون في رأي فضل مما يبرر طرحه؛ فالتحديثي الكلاسيكي -وفقًا له- لا يمتلك أيّ منهج يستحق هذا الاسم، بل يقتصر نشاطه على التعاطي الإجمالي مع مشكلات تبدو له وكأنها تتطلب حلًّا يفيد المجتمع الإسلامي، لكنها في حقيقتها مُستلهَمة من تجربة الغرب. أما الإسلاميون الأصوليون فإنهم «يتحدثون عن الأصل دون بلورة أيّ فكر أصيل من حوله، ولا يملك الإحيائي الجديد سوى أن يكون ردّ فعل على ما يأتي به الحداثي الكلاسيكي حول بعض القضايا الاجتماعية، دون أن يُتعب نفسه في البحث عن منهجية للتفسير القرآني تكون أمينة وموثوقة دراسيًّا وعقليًّا»؛ لذا فرغم الاشتغال الطويل على القرآن وعلى الحداثة وعلى الإشكالات التي يطرحها لقاؤهما أو صدامهما، إلا أن قضية المنهج تظلّ غائبة عن العقل الإسلامي -وفقًا لفضل- وفي هذا الغياب، ومن أجل ملء هذا الفراغ بمنهج متماسك يتجاوز التجاور الفكري والواقعي يؤسس فضل تأويليته للقرآن.

 

إنّ هذه العودة للإسلام لاستلهام نظامه الأخلاقي والتشريعي تنطلق من رؤية لفضل حول المجتمعات المعاصرة ومدى فعالية الأخلاق فيها، ومدى حاجة الإنسان المعاصر لتفسير أخلاقي مُتأسِّس على نظرة روحية للكون؛ لهذا فنحن نجد سيطرةً كبيرةً لهذا البُعد الأخلاقي على مقاربة فضل للقرآن حتى إنه يتحوّل لمنظور يُحدِّد إطار التعامل مع القرآن ومفاهيمه ومرتكزاته، ونحن في هذا الجزء الأخير من المقال نحاول أن نتساءل حول مدى تأثير هذا المنظور على تشكيل تأويلية فضل وإعطائها ملامح منهجية خاصة، كما نتساءل بأيّ حال كان هذا المنظور ذاته متوائمًا مع منطق القرآن الداخلي الذي يدافع عنه المفكر الباكستاني طوال خطابه.
فمبدئيًّا نحن نرى الأثر الواضح لهذا المنظور على الشكل الذي يتصور به فضل مرتكزات الإسلام من جهة، وعلى المصدر الذي ينطلق منه فضل لبحث مرتكزات الإسلام هذه من جهة أخرى، وهما جهتان متداخلتان، ففضل ينطلق في مقاربته من مطابقة ما بين الإسلام والقرآن، وهي مطابقة ليست بهذا القدر الذي يبدو من البداهة[12]، بالعكس، فهذه المطابقة مُشكِلَة للغاية؛ هذا لأن مرتكزات الإسلام تتضح في الشعائر وفي القصص بقدر ما تتضح في النصوص القرآنية الكلية، مما يجعل الاقتصار على هذه الأخيرة غير كُفءٍ من الناحية المنهجية في كشف هذه المرتكزات، بل لعلّنا نلاحظ هنا كيف أن عزل الشعائر والقصص عن كونها مصدرًا رئيسًا لفهم الإسلام يعمل على إعادة تشكيل القرآن نفسه، حيث يتحول لكتاب منطق نبحث فيه عن قواعد ومبادئ عامة، ومفاهيم تتعالق وتترابط، فهذه هي الصورة التي يتصور فضل بناء عليها مرتكزات الإسلام (مفاهيم عقدية تشريعية ومبادئ ناظمة لتجارب سلوكية)، في تناسٍ لطبيعة كونه قولًا دينيًّا، بما يعنيه هذا من انفتاح أصيل على الأبعاد الشعائرية والسردية التي تعطي القرآن سماته كذِكْرٍ ونداء وحضور إلهي دائم عبر الكلمة، هذه الجوانب تقلّ وتخفت كثيرًا حين يتم الاقتصار على التعامل مع القرآن كنظام لمسائل ومفاهيم عقدية أخلاقية.
وظنُّنا أن الانتباه لهذه العلاقات والتي تغير تصورنا للقرآن، وكذلك الانتباه للشعائر والقصص ودورها كمساحات أساسية لفهم الإسلام، وتناولها بالدرس، ينطوي على ما هو أهم وأكثر عمقًا وجذرية من استنباط نظام أخلاقي من مفاهيم عقدية أو من نصوص تشريعية كلية، حيث يقوم بدلًا عن هذا بالكشف عن أخلاقية الكون الإسلامي أو «العالم الذي يؤسسه الإسلام»، والمُتبدِّية في كلّ مساحاته، وهذا حتمًا يغير نظرنا لعملية تثوير الإسلام حتى في المسألة الأخلاقية، حيث لا يتم هذا التثوير فحسب بتقديم تأويلية للقرآن كما يفترض فضل، بل بتقديم تأويلية للدين في كلّ مساحاته ومنها الشعائر التي هي وسيلة صرف قيم الإسلام في العالم اليومي والاجتماعي.
ونحن نستطيع أن نضرب على الأقل مثالًا واحدًا على هذه الأهمية للعمل على الشعائر الإسلامية من أجْل كشف مرتكزات الإسلام وخصوصًا في الجانب الأخلاقي، ويمكننا هنا الانطلاق من مسألة اشتغل عليها فضل الرحمن بالفعل، ألا وهي (الطبيعة)؛ حتى لا نسير بعيدًا عن اشتغال فضل، وسنقوم بقراءتنا هذه في (الطبيعة) مستلهمين منهجية إيزوتسو ومساحاتها الجديدة التي فتحها لها فضل، محاولين الإضافة قليلًا، عبر نقل منهج (إيزوتسو/فضل الرحمن) لمساحة جديدة هي مساحة علم الأديان العام.
فكما قلنا بالأعلى فإنّ (فضلًا) يربط الطبيعة بمسألة (الحساب) كمسألة كبرى في القرآن، وظنُّنا أن دراسة الطبيعة في الإسلام تكشف عن ما هو أعمق من هذا، وعن موقع -ربما- أكثر حسمًا في بناء الإسلام لعالمه؛ فمبدئيًّا -وحتى في مستوى القرآن- فإنه لا يمكننا اعتبار الطبيعة مرتبطة بمفهوم الحساب وحده إلا لو اقتصرنا على الظهور الأوليّ للطبيعة في القرآن، أي الآيات المكّية الأولى ذات الطابع الأبوكاليبسي، في حين للطبيعة ظهور أكثر استمرارًا في القرآن يُدخِلها في سياقات أخرى غير سياق الإعلان عن عدم أبَديتها، خصوصًا سياق ارتهانها التام لله، وهذا يربطها بـ(التوحيد)، وتحديدًا (توحيد المفارقة).
هذه العلاقة بين (التوحيد) و(الطبيعة) تعطي هذه الأخيرة أهمية كبيرة، كذلك فإنه ومن نفس منظور فضل عن مزاوجة التحليل المفهومي والتاريخي لتحديد المسائل الكبرى، فإنّ الطبيعة تصبح (مسألة كبرى) حيث إن الطبيعة وارتهانها التام لله هي -أيضًا- مسألة عارضها الجاهليون كمعارضتهم للتوحيد وللوحي وللآخرة، حيث هي على الضد -تمامًا- من الموقع الذي يعطيه الدين الجاهلي للطبيعة؛ فالطبيعة في الجاهلية مُؤلَّهة، وتحليل الوضعية التاريخية كما تُصِر منهجية فضل، تكشف عن كون الدين الجاهلي دينًا توجد الطبيعة المُؤلَّهة في مركزه، وهذه المركزية تتبدَّى في الشعائر الجاهلية، في طقوس الإفاضة وفي طقوس الاستمطار على سبيل المثال[15]؛ ولكون الشعائر هي أمرٌ حاسمٌ، فالجسد «ديني بامتياز»، حيث هو وعبر الشعائر مَن يعيد خلق العوالم القدسية التي تم رسمها في المعتقد، ويقوم بهذا بجَسْدَنة هذه القيم والانتقال بها من الشعائري، للثقافي، لليومي؛ فإن مواجهة الإسلام لهذه المركَزَة للطبيعة[16]، وكما تمت بالقرآن، تمت كذلك شعائريًّا بإدانة القرآن لكثير من الشعائر الجاهلية، وبتغيير القرآن للزمان المقدّس (عدم الصلاة مع طلوع الشمس على سبيل المثال)، وبتشريع شعائر، مثل: الصلاة/القيام، والركوع، والسجود؛ وهي التي تجعل الإنسان منتصبًا فوق الطبيعة، فلا يحاكيها ولا يماثلها رمزيًّا بشعائره، بالعكس، فالطبيعة هي التي تماثل الإنسان، فهي التي تسجد كالإنسان وتسبح لله الذي هو مفارق ومتعالٍ.


بتاريخ : 13/08/2020

أخبار مرتبطة

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

: داخل مجتمع اللاتلامس، لم تعد نظرة العشق الأولى موضوع تبادل في الشارع، أو داخل حانة، أو في عربة من

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *