دراسات قرآنية (8) فرضيات الكتاب حول (قصص القرآن) ونقدها الملامح الأساسية لتأويلية فضل الرحمن

محاولة بلورة هذه المنهجية التأويلية هو ما لا يقوم به الحداثيون ولا الإسلاميون في رأي فضل مما يبرر طرحه؛ فالتحديثي الكلاسيكي -وفقًا له- لا يمتلك أيّ منهج يستحق هذا الاسم، بل يقتصر نشاطه على التعاطي الإجمالي مع مشكلات تبدو له وكأنها تتطلب حلًّا يفيد المجتمع الإسلامي، لكنها في حقيقتها مُستلهَمة من تجربة الغرب. أما الإسلاميون الأصوليون فإنهم «يتحدثون عن الأصل دون بلورة أيّ فكر أصيل من حوله، ولا يملك الإحيائي الجديد سوى أن يكون ردّ فعل على ما يأتي به الحداثي الكلاسيكي حول بعض القضايا الاجتماعية، دون أن يُتعب نفسه في البحث عن منهجية للتفسير القرآني تكون أمينة وموثوقة دراسيًّا وعقليًّا»؛ لذا فرغم الاشتغال الطويل على القرآن وعلى الحداثة وعلى الإشكالات التي يطرحها لقاؤهما أو صدامهما، إلا أن قضية المنهج تظلّ غائبة عن العقل الإسلامي -وفقًا لفضل- وفي هذا الغياب، ومن أجل ملء هذا الفراغ بمنهج متماسك يتجاوز التجاور الفكري والواقعي يؤسس فضل تأويليته للقرآن.

 

في هذا المقال سنحاول توضيح الملامح الرئيسة لهذه التأويلية التي يقدمها فضل الرحمن، والتساؤل عن مدى تماسك منطلقاتها، ومدى قدرتها على تحقيق الرهان الذي يبغيه فضل الرحمن منها، كما سنحاول في ثنايا هذا المقال الإشارة -ولو البسيطة- إلى بعض الاشتراكات والتباينات بين تأويلية فضل وتأويلية غيره من الكُتَّاب الحداثيين.
هذه التأويلية الحديثة التي يحاول فضل أن يبلورها لها منطلقٌ أساس، وهو محاولة تجاوز هذا الخطأ الذي ميّز (التأويلية الكلاسيكية) من وجهة نظر فضل، أو فلْنقُل: (التـأويليات الكلاسيكية)؛ حيث لا يتحدث فضل عن تأويلية كلاسيكية واحدة متناغمة بل عن تأويليات فقهية وفلسفية وكلامية وصوفية، هذا الخطأ والقصور الذي سيطر على هذه التأويليات هو -وفقًا لفضل- عدم الاهتمام الكبير لقضية وحدة القرآن كناظم منهجي تبتدئ تأويلية القرآن من محاولة تحديده، ثم تستند عليه في تأويلاتها الجزئية، فوفقًا لفضل فإن الحال كان؛ إما عدم الاهتمام بهذه الوحدة من الأساس، بل الإصرار على التجزئة وعلى استخدام أدوات واهية مثل القياس كأداة وحيدة تُمكِّن من الوصول لتعميمات معقولة ومُلِحَّة لأحكام قرآنية يتطلبها الواقع، هذا بدلًا من الانخراط في إنشاء عمل «يقوم باستنباط مُمنهَج للقيم والمبادئ من نصوص القرآن»[v]، وهذا كان حال (التأويلية الفقهية) وفقًا لفضل، أو في جهة أخرى الاهتمام لوحدة القرآن لكن بفرض وحدات من خارج القرآن عليه، كما حدث مع (التأويلية الفلسفية)؛ فالفلاسفة -وفقًا لفضل- انتبهوا لوحدة القرآن بالفعل، لكنهم لم يستخرجوا هذه الوحدة من داخل القرآن نفسه ووفقًا لدراسة حثيثة له، بل استعيرت هذه الوحدة -غالبًا- من أنظمة فكرية أخرى، «ليست في تناحر مع القرآن بالضرورة لكن بالتأكيد غريبة عنه».
لذا يحاول فضل في مواجهة قصور هذه (التأويليات الكلاسيكية) أن يصل لـ(الوحدة) التي ينطوي عليها النصّ القرآني ذاته كأساس تبتدئ منه تأويليته الحديثة وتستند عليه.
ولا بد من الإشارة هنا لكون فهم فضل لقضية الوحدة ولـ(كلية النصّ القرآني) وتماسكه والتي يؤسِّس عليها تأويليته؛ هو فهم له ملامحه الخاصة بين فهوم الكتابات الحداثية التي ذكرناها سابقًا: (نصر أبو زيد، والشرفي مثلًا)، فالوحدة لا تعني عند فضل مجرد ربط الآيات -في موضوع واحد- ببعضها، أو قراءة الآيات الجزئية في ضوء آيات كلية حول قضايا اجتماعيةٍ ما، وإنما تعني -تحديدًا- تأسُّس القرآن كاملًا على عدد من المفاهيم المركزية و(المسائل الكبرى) التي يُمثِّلها بالأساس: (التوحيد، والحساب، والوحي)، كمفاهيم عقدية اجتماعية مركزية (تكوينية) بلغة كانط التي يستعيرها فضل، يمكن في ضوئها فهم رسالة الإسلام التشريعية والاجتماعية والأخلاقية، فـ«نظريات الخالق الواحد القيوم، وضرورة الوصول إلى عدالة اجتماعية اقتصادية، والإيمان باليوم الآخر، إنما هي عناصر تقود إلى التجربة الدينية الأصيلة التي جاء بها محمد» ، فالوحدة عند فضل -والتي تكشف عن مبادئ العقلانية الإسلامية- تكمُن في تأسُّس الجانب التشريعي على الجانب العقائدي، حيث هما غير منفصلين، فـ(الله) هو العنصر النظام لتجربة هي دينية وأخلاقية وسلوكية في آن، ومن هنا تأتي ثورية القرآن التي اختفت نتيجة تفويت الوحدة في العصور الزاهرة، أو نتيجة تحويل (الله) لموضوع نهائي في ذاته للتجربة الدينية «فبدلًا من أن يواصل البشر سعيهم للحصول على القيم انطلاقًا من هذه التجربة، أصبحت التجربة هي الغاية في ذاتها»، أو تحت ركام دراسة بديعية وبيانية مُخدِّرة ميَّزت عصور الانحطاط تحديدًا.
ومنهجية فضل التي يقترحها لقراءة القرآن تقوم على خطوتين رئيستين، أو قُلْ على حركة مزدوجة تسير في اتجاهين: اتجاه من لحظتنا الراهنة نحو القرآن، واتجاه من القرآن نحو لحظتنا الحالية؛ فـ«الحركة الأولى تقوم انطلاقًا من خصوصيات القرآن، وصولًا إلى تحديد ومنهجة مبادئه العامة وقيمه وغاياته بعيدة المدى»، وهذه المرحلة المركز فيها هو اكتشاف الوحدة القرآنية، والحركة الثانية «تنطلق من هذه النظرة العامة وصولًا إلى النظرة الخاصّة التي يتعين الآن صياغتها وإنجازها».
وكلّ حركة من هاتين الحركتين تستلزم تأسيسًا منهجيًّا خاصًّا بسبب الإشكالات التي قد تُثار عليها، ورغم أن (فضلًا) كتب عن هذه التأويلية كتابًا واحدًا هو كتابه (الإسلام وضرورة التحديث)، وأشار إليها مرة أخرى في مقدمة كتابه (المسائل الكبرى في القرآن) إلا أننا نجد إلمامًا مناسبًا تمامًا بالإشكالات التي قد تُثار حول تأويليته ومنطلقاتها، خصوصًا إشكالين رئيسين ينتبه لهما فضل ويحاول الإجابة عنهما في معرض تأسيسه لتأويليته؛ الإشكال الأول: هو إشكال إمكان الوصول من الأساس -وبموضوعيةٍ- للمرتكزات القرآنية ولوحدته هو الداخلية من عدمه، وهو الموضوع الذي تتنازع حوله المناهج التأويلية المعاصرة بعد طرح جادمر لنظرته التي تتحدث عن حتمية الوعي المسبق والتي تجعل بالتالي الموضوعية مسألة مشكوكًا فيها، والإشكال الثاني: هو هل تعني تأويليته وانتقاده الدائم لتغييب الوحدة تراثيًّا وربطها بتشتت الآراء بنزعة منه لتأويل أُحادي للقرآن؟!


بتاريخ : 06/08/2020

أخبار مرتبطة

ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان…

لو تعلق الأمر هنا بمقاولة ناشئة كاليفورية صغيرة تلعب دور مصاصي الدماء ( Ambrosia )، ولا بمظاهر خارقة ( Nectome

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *