دور السينما بدرب السلطان.. الذاكرة المنسية

الاتحاديون بالإقليم انتقدوا طمس «هوّيتها» عوض تحويلها إلى فضاءات ثقافية وفنية

 

لم تكن دور السينما بدرب السلطان، في ما مضى، مجرد مكان للتسلية أو تزجية الوقت والاستمتاع بمشاهدة ما تنتجه هوليوود أو بوليوود من أفلام، وما تصنعه من نجوم يلهج بأسمائهم المتفرجون، بل كانت مراكز للتعبير الثقافي والاجتماعي، ونقطة التقاء بين أبناء هذا الحي التاريخي وباقي الثقافات العالمية التي كانوا يتعرفون عليها من خلال مشاهدة أفلام مسافرة إليهم عبر شاشات الفن السابع، حاملة أخبارا ومشاهد وأغان ورقصات، إضافة إلى عادات اللباس والأكل، فكانت هذه الدور نافذة مشرعة على العالم في زمن كانت فيه وسائل الاتصال والتواصل قليلة، إن لم تكن منعدمة بالكامل.
أبناء درب السلطان والاتحاديون تحديدا لا يمكن أن ينسوا أن بإحدى هذه الدور انعقد المؤتمر التأسيسي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، مما يعني أن دور السنيما تجاوز دورها الترفيهي ليصبح فضاء للتاريخ السياسي والاجتماعي لحي نابض بالحياة، غير أنها اليوم أقفلت بل هدم بعضها لتنتصب في مكانه محلات تجارية وقيساريات فيما ترك البعض الآخر عرضة للنسيان والإهمال والانهيار البطيء، في مشاهد تؤكد أن الجانب التثقيفي والثقافي لم يعد له مكان اليوم في درب السلطان، حيث حلت محل الذكريات العريقة أصوات التجار والباعة الجائلين، وانتصبت أمام بوابات تلك الدور التي علاها الصدأ، البضائع المختلفة والدمى البلاستيكية، وكأنها تسخر من متفرجين كانوا في ما مضى يقفون صفوفا وجماعات، منتظرين دورهم للولوج، يغمرهم شغف الاكتشاف وشوق الفرجة، وتملأهم الدهشة من الألوان والأصوات والنوافذ التي تفتح أمامهم مشرعة لعبور الواقع نحو عوالم بعيدة ومختلفة.
لقد وضع حزب الاتحاد الاشتراكي بدرب السلطان، وهو يعقد مؤتمره الإقليمي مؤخرا، الإصبع على ما عرفته دور السينما بالمنطقة من إقفال وإهمال، فعوض أن تتحول هذه الدور إلى مركبات ثقافية وفنية، باتت عبارة عن أشباح لا حياة فيها، بل إن المنطقة برمتها عرفت انتشارا للقيساريات كما ينتشر الفطر، وكان من الممكن أن يكون لهذا التمدد الاقتصادي فوائد وعوائد على ساكنة المنطقة لكن خلافا لذلك، لم تستفد منه شيئا، وكانت حصيلتها منه هو دفع فئة معينة لمغادرة المنطقة قصد تحويل منازلها وغيرها من المنشآت إلى مركبات تجارية بدعوى أنها متداعية للسقوط، وهذا المجال استشرت فيه فوضى عارمة وعرف تحايلا على القانون. حسب ما جاء في أرضية المؤتمر.
لا يختلف اثنان حول ما يحظى به درب السلطان من عراقة وما يحتله في الذاكرة الحضرية للدار البيضاء من موقع متميز، ذاكرة ساهمت فيها دور السينما بشكل كبير، وكان لها الفضل في بلورة الحياة الثقافية والعاطفية لسكان الحي بل تجاوز بعضها مساحة درب السلطان ليصبح أيقونة تراثية في المشهد السينمائي لمدينة الدار البيضاء، مما يعني أن هذا الحي حاضنة ثقافية لذاكرة أجيال من البيضاويين لا تزال تتذكر إلى اليوم تلك الحركة الاجتماعية والثقافية والسياسية الكثيفة التي طبعت تاريخه الحافل .
في درب السلطان، ارتبطت السينما بالحياة اليومية للحي، وبرزت قاعات مثل «الملكية» و»الكواكب» و»موريتانيا» و»الزهراء»، و»أطلس» وغيرها التي كانت تعرض أفلاما محلية وعربية وعالمية، وتشكل نقاط التقاء اجتماعية وثقافية لسكان الحي. لقد كانت هذه القاعات أكثر من مجرد أماكن للترفيه؛ بل مراكز للتعبير الثقافي والاجتماعي، تبني الذاكرة المشتركة للأجيال، وتدعم المواهب المحلية، كما تنشط الاقتصاد المحلي من خلال الباعة والمقاهي والإعلانات المتنقلة.
من بين الأحداث التاريخية البارزة، استضافة سينما الكواكب في 6 شتنبر 1959 المؤتمر التأسيسي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي يعد حدثا تاريخيا كبير الأهمية لأنه شهد تأسيس هذا الحزب السياسي المهم، وترأس المؤتمر المرحوم ذ عبد الرحمان اليوسفي وشارك فيه قادة من عدة أحزاب ومنظمات مثل الشورى والاستقلال، الحركة الشعبية، الأحرار المستقلين، والاتحاد المغربي للشغل، ما منح هذه القاعة العريقة بعدا سياسيا واجتماعيا إضافيا، لكن رغم تاريخها المشرف، غاصت في بحر النسيان كما غاصت باقي الدور، فمع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، واجهت تحديات كبيرة، حيث انتشار وسائل العرض المنزلي والتكنولوجيات الحديثة، الإهمال وضعف الصيانة، أدى إلى تدهور البنية السينمائية للمنطقة فيما أجهز الضغط العمراني والتحولات العقارية على ما بقي منها، إذ هُدمت بعض القاعات أو حوّلت إلى محلات تجارية ومخازن، وسقطت تلك الدور ضحية ضعف الدعم المؤسساتي والحماية القانونية.
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم:هل لا تزال هناك إمكانية لإعادة إحياء بعض هذه القاعات عبر الترميم، وإدماج الاستخدامات المتعددة أو الشراكات بين المجتمع المدني والسلطات مع استخدام التكنولوجيا الحديثة، والتركيز على الهوية المحلية لحي ينبض بالحياة، حي حامل لمشعل الثقافة البيضاوية؟ أم أن زحف التجارة سيبتلع نهائيا كل معالم الذاكرة الجماعية لدرب السلطان في مشهد بئيس يلخص تراجع القيم الجمالية وإفساح المجال لمنطق الربح السريع؟
إن إحياء دور السينما في درب السلطان يعني أكثر من ترميم مبان، إنه إعادة بناء فضاء ذاكرة حية يربط بين الماضي والحاضر، ويعيد للحي فرص التعبير الثقافي والاجتماعي التي كان يتمتع بها في ما مضى.


الكاتب : خديجة مشتري

  

بتاريخ : 27/10/2025