دور العنوان في جمالية النص وأبعاده الدلالية : قراءة لديوان « أودعت فيك سري» للشاعرة خديجة سوكدالي

العنوان كأول عتبة في طريق الولوج إلى عالم النص، يعتبره الناقد المغربي لحسن حمامة أعلى اقتصاد للنص، وبالتالي يمكن الافتراض بأنه المفتاح الرئيسي الذي يوصل إلى معرفة السر، الذي أودعته الشاعرة خديجة سوكدالي داخل نصوص ديوانها الموسوم: ب» أودعت فيك سري».

 

ننطلق في مغازلة الأضمومة باعتبارها باقة من الأسرار المدفونة بين السطور. تلك الأسرار التي أشارت إليها من خلال لوحة الغلاف التشكيلية للفنانة خديجة مرشيد. اللوحة عبارة عن زهرة تنبثق منها امرأة لتبوح بما يعتمل بدواخلها . تودع سرها وتسبح في عالم مسيج باللون الأزرق، والذي يرمز إلى دلالات مختلفة كالارتباط بالأماكن المفتوحة:  السماء، البحر، الحرية، الخيال، كما أنه مرتبط أيضا بالحبِّ و الحياة، ويرمز بشكل خاص إلى العمق والثِّقة والإخلاص والحكمة. وتلك هي المواضع التي انبرت لها نصوص الأضمومة الشعرية، باعتبارها أحاسيس جياشة وخواطر ملفوفة بقلق وجودي وتساؤلات فلسفية تختزل تجربة الشاعرة، وارتباطها بالمحيط الذي تعيش فيه.
الأضمومة باعتبارها زهرة متعددة البتلات، كان لزاما فك رموزها لفهم المعاني المختزلة داخل العناوين، التي انسكب سيلها تباعا داخل المجموعة الشعرية بصيغ مختلفة، وفق تراتبية لا تخضع لتسلسل الزمن الخطي، بل لتجلي لحظات نظم وولادة النصوص. تلك اللحظات التي كانت فيها إعادة الولادة لقصائد شعرية تعلن وتشيع ارتباط الشاعرة بكل ما أوصلها لحافة البوح.
اندلق البوح بصور شعرية جميلة ونسيج بلاغي يعتمد على الاستعارات والانزياحات والوصف الذي يحتمل تأويلات مختلفة. فكان الديوان الكأس الممتلئ بإكسير الحياة. وكانت الشاعرة منه تطل على الأيام باعتبارها دورة للكون وقانونا للبقاء، منه شربت « نخب الأيام «1، وبه عشقت ألوان الطيف، ولامست تجدد الأمس كل يوم، والغد الآتي في صبحه. فأثمرت ذكريات من عبث الألوان في تعاقب الملوان، حيث ضمتها حنايا الأرض فانجلت أمامها : “ أقنعة النكران»، التي تنسج للآتين معاطف على مقاسات الأرصفة، فترغم الأحلام على العودة لمخادعها مبللة برحيق آهات الحيران. من هنا جاءت «غرابة السؤال « واستحالة الجواب عن كل ما قيل وعن كل ما لا يقال.
الحياة في إبحارها لا تتوقف تنطلق من حيث تولد، وتجرف في طريقها نحو المصب كل شيء، حتى التفكير لا يتوقف إلا حين يهل من العدم « طيف الموت « فننكمش فرادى كل واحد يعانق لوحا ويستجدي من كان عرشه على الماء. حين يُزلزل انبلاج الرؤى الأرواح، والبوح يهتك أسرار الغموض، تصاب الشاعرة ب « أرق الليل «، فيلد خيالها طائر الروخ يحملها إلى جزر الهذيان، لعلها تلتقي الأرواح بجبة الإشراق يعطرها الشيح والريحان، كي لا تشتعل ك « احتراق النار» وهي تحرق ما تبقى من معاني الضوء حين يستأسد السواد وتظل النار سيدة القهر ومالكة لناصية الطريق.
كانت الشاعرة حين تحولت إلى نهر قد آمنت بالمخبوء وما سطر في اللوح المحفوظ. فأودعت « وصية نهر « تعانق البحر فيكتمل بينهما العشق، ويكتبان قصيدة حب تسع المدى، تغني للوجود أغاني الصبا والجمال. بذلك ذاقت « طعم الكبرياء « فقطعت للتمني حبل السرة، وعزف صوتها ألحانا أرسلتها لكل البقاع، فكان ميلاد « تحد « كتاب مرثية للمقهورين البسطاء مكتوبة أحرفها من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة بدموع الصمت ملونة بحبر الحداد.
تصاب المرايا بالإحباط فتحفر بعينيها ما أورق في أدغال الأجساد والأشياء. وتختزن في بطنها حقيقة الأشياء لكن حين يرق الزجاج للزجاج يبحث عن دفء الأحلام في الليل السهران معانقا أسراره في ظل « توهج « اليقظان.
تحولت النظرة إلى «إعجاب»، حين خر حرف الجيم يتلو آيات الإعجاب، وتلاه الميم ساجدا منبهرا مضموم الشفتين، بينما وقف الألف ممشوقا في كبرياء محملقا في القِوامِ بتخف. أما اللام فظل معقوفا لا يرفع ناظريه خوفا من شدة بريق ولمعان جمالٍ. لكن اختفى الجمال حين احرقوا فساتين الفدادين في ساحة الإعدام تحت عجلات الجرافات. اختنقت البسمات في أفواه الشيح والزعتر و أُرغم النحل على الرحيل. قالوا هي الحضارة: فقالت هو المسخ يعلو وجه التراب ويدعي التمدن لكن « التمدن مخصي» والذي يقصي الجمال الأخضر الريان.
يركض فوق الحصى سواد النهار، يهاجمه الليل، ويشرق في قلب المدينة جمرة باردة تلامس أنفاس الحياة. تصطك الثواني بين العقربين، تطول وتقصر المسافات، يجنح النهار للأفول، ويتلو السواد تراتيل السكون، يرتعش الفراغ باستمرار الدهر بنقره في نشوة أعماق الزمان هي «دورة الثواني» هي دورة الحياة.
حين يتوق السر إلى البوح تكون « فاكهة السر « قد أينعت وحان قطافها، ذلك السر مسكون باللقاء الذي يحدده ويحشره في «مسار»، حيث التواريخ قد حددت، ورسمت في صفائحه عدد الأيام الخوالي، والآتيات ترسم ما اقترفته الأيادي، التي تُشعر ب « دوران الرأس». فتشعر مع تعدد معاول الزمن أن الحياة حيوات، فتدرك دلالة ورمزية العنوان: « أودعت فيك سري».
تأسيسا على ما قيل، يمكن القول بأن الشاعرة خديجة سوكدالي استطاعت أن تجعل عناوين أضمومتها الشعرية « أودعت فيك سري « 1 تحمل بصورة مختزلة ما تضمه النصوص. وجعلتنا من خلالها نتساءل عن ماهية الوديعة، التي أخفتها داخل النصوص الشعرية، وما طبيعة السر الذي باحت به للقصائد. التساؤلات التي تداهم القارئ تجعله يغوص في العمق للبحث عن المدسوس من المعاني، ولا يكتفي بالمضامين أو الحمولة السطحية الموزعة على الأبيات الشعرية، بتوليفة اعتمدت فيها الشاعرة على الفراغ والبياض وتباعد الجمل، وتغيير شكل الكتابة ليشمل أنواعا متعددة من الخطوط في نفس النص، وأحيانا كانت تكتب بعض المقاطع بخط متقطع ليعبر عن نفسية متوترة تتحدث بغضب وانفعال. تلك التموجات التي كُتبت بها القصائد لم تكن اعتباطية، بل كانت مقصودة، لأسباب متعددة، أهمها أن الخط كان يتغير بتغير الحالة النفسية للشاعرة، ولتشير حين تكتب بلون داكن بارز إلى ضرورة الوقوف والتريث والانتباه إلى ما سيلي من معان، قد تكون مخزونة بالعمق وقابلة لعدة تأويلات. وأيضا لإضافة جمالية تريح العين القارئة.
شكلت عناوين النصوص هرما بلبنات متراصة. يقف على أرض تنمقت بلون البحر، لتوحي بشساعة المعاني واحتمالها لتعدد التأويلات. جدرانه قصائد تشي بما تحبل به وما تخفيه من دلالات. مصابيحه عناوين تشع بألق، مطرزة بألوان تجلي ما تتزين به النصوص وما ترمز إليه. أما العنوان الرئيسي “ أودعت فيك سري “ فكان الضوء الكشاف الذي يعلو المنارة التي غُرست بأعلى الهرم، ليجذب القراء إليه كما تجذب الفراشات إلى الضوء.


الكاتب : عبد العالي أناني

  

بتاريخ : 03/09/2021