دوستويفسكي الأدب المغربي الذي يظهر ولا يختفي

 

اهتزت رفوف  المكتبات المغربية عام 1945 فرحا بميلاد واحد من أعظم الكتّاب الذين سيكون لهم باع كبير في مجال الأدب في ما بعد، إنه ثعلب أربعاء الغرب محمد زفزاف الذي ظهر إلى حدود الثالث عشر من يوليوز من عام 2001، لكنه لم يختف أبدا. أوصد الوطن أبوابه مرات عديدة في وجه زفزاف، حيث أنه لم يحصل على أية جائزة أدبية ببلاده، أو بالأحرى تكريمه من لدن دور الثقافة طيلة حياته. عاش محمد زفزاف طفولة بئيسة اتسمت باليتم تارة (موت أبيه)، وبقلة ذات اليد تارة أخرى (الفقرالمذقع). كل هذه الأوضاع المزرية، مجتمعة، شكلت دافعا قويا أمام زفزاف كي يتم دراسته. حصل على شهادة الإجازة في الفلسفة، ليعمل بعدها مدرسا للغة العربية بإحدى إعداديات مدينة القنيطرة. بعد سنوات طوال من امتهان  التدريس، سيترك الجمل بما حمل، ويرحل لمدينة الدار البيضاء ليتفرغ للكتابة ويكمل ما تبقى من حياته في عزلة تامة مع صديقه «القلم» كما جاء على لسانه في أحد البرامج التلفزية.
أظهرت أعماله الأدبية واقعية منقطعة النظير، وقد أخذ الهامش بعوالمه المختلفة حصة الأسد من الثيمات التي عالجتها أعماله الأدبية، على مستوى القصة والرواية.

أعماله الأدبية:

تنوعت كتابات محمد زفزاف بين القصة والرواية.
الأعمال القصصية: «حوار في ليل متأخر»، «بيوت واطئة»، «الأقوى»، «الشجرة المقدسة»،» غجر في الغابة»، «ملك الجن».
الأعمال الروائية: «المرأة والوردة»، «أرصفة وجدران»، «قبور في الماء»، «الأفعى والبحر»، «بيضة الديك»، «محاولة عيش»، «الثعلب الذي يظهر ويختفي»،» الحي الخلفي»، «وأفواه واسعة».
غاص محمد زفزاف في نفوس أبناء الهامش وتناول الموضوعات المسكوت عنها أو المحرمة(الطابوهات). كان صوتا جهوريا لكل المهمشين والمضطهدين في هذا الوطن الحبيب. وقد اخترت رواية «الثعلب الذي يظهر ويختفي» كمدخل لاكتشاف مهارات محمد زفزاف الإبداعية ومدى علو كعبه في جنس الرواية الواقعية بشمال أفريقيا والعالم العربي ككل.

رواية «الثعلب الذي يظهر ويختفي»:

«الثعلب الذي يظهر ويختفي» رواية كتبها الأديب محمد زفزاف سنة 1989 ، وقد  نشرت بالدار البيضاء عن» منشورات أوراق» من نفس العام، وقد تم نشرها بدولة العراق عام 2004 عن منشورات الجمل. وقد ورد العنوان جملة فعلية متكونة من العبارات التالية:» الثعلب»، حيوان يتميز بالدهاء والمكر. «يظهر»، بمعنى يتجلى ويبرز. أما «يختفي»، بمعنى يزول ويتلاشى. ومن خلال هذا التفكيك نفترض أن أحداث الرواية ستدور رحاها حول شخص بصفة ثعلب يمزج بين الدهاء والمكر ،يظهر تارة، ويختفي تارة أخرى.
– «مدينة الصويرة  كالمرأة والمرأة هي القفل والمفتاح معا». ص 5
بهذه العبارة ابتدأ محمد زفزاف روايته مبينا لنا الفضاء الفسيح الذي سيكون معقلا لثعلبه الذي سنتتبع خطاه ، خطوة تلو الأخرى، حتى نقتفي أثره، ونعرف ماذا أراد زفزاف أن يظهره لنا وراء ثعلبه هذا.
إن رواية «الثعلب الذي يظهر ويختفي» في مجملها غوص في دواخل الذات البشرية، حاول الكاتب من خلالها سبر أغوار علي (الشخصية الرئيسية) ليخرج لنا بنتيجة مفادها أن داخل كل إنسان ثعلب، أو بلغة أخرى: أن داخل كل منا جانب حيواني يتحكم فيه بين الحين والآخر.
في هذا السياق، يقول الكاتب: «كل حياة الإنسان ازدواجية، والذي لا يعيشها هو الأحمق. مأساة تتكرر باستمرار، ولماذا لا أقول ملهاة، وطبيعة الحياة مأساة وملهاة في نفس الوقت». الصفحة 7. انطلاقا من هذه العبارات، كان الكاتب قد بدأ بجر ذهن القارئ إلى الفكرة الرئيسية التي يحاول الدفاع عنها وبيانها( الإزدواجية). إن الإنسان حسب زفزاف كائن يعيش حيوات متعددة، حياة في العلن يكون فيها نعجة بريئة يسري عليها ما يسري على باقي القطيع، وحياة أخرى يكون فيها الإنسان ثعلبا لأخيه الإنسان. أما في أحايين أخرى، فتجتمع في الإنسان كلتا الصفتين: ثعلب ونعجة. وهذا ما اجتمع في «علي» من صفات متناقضة أيما تناقض. أن تتصف بالبراءة وتحشر نفسك بين القطيع تارة، وتفكر في المكر والخداع تارة أخرى، فهذا أعلى درجات التناقض.
لم تكن شخصية «علي» شخصية اعتباطية، ولم يكن اختيارها بتلك الأوصاف من طرف الكاتب بمحض الصدفة، وإنما هي تنم عن مدى اهتمام الأديب بسيكولوجية الإنسان المغربي على وجه الخصوص، والإنسان بالمفهوم الكوني الذي يعاني من هذا الفصام. إن شخصية «علي» مدخل رئيس إلى أعماق الذات البشرية والإبحار داخل ثناياها، وإبراز كل تناقضاتها. في هذا السياق يصف محمد زفزاف هذا التناقض بدقة متناهية بالصفحة 38 على لسان «علي»:
– «عندما استيقظت لم تكن لدي أية رغبة في الأكل إطلاقاً. كان الوقت وقت الغروب وأنا لا أحبه. إنه يذكرني بنهاية الكون. كل شيء يرقد لتستأنف المهزلة. المهزلة الكبرى العظيمة. السيرك الكبير حيث تجتمع الطبائع التي تكرر نفسها عبر التاريخ، الحب، الحقد، العدل، الظلم، النفاق، السرقة، المعاملة الحسنة المغلفة بنوايا خلفية قد تكون صادقة أولاً. والآن ها هو المساء مرة أخرى. كل شيء حدث اليوم لكني كنت غائباً عنه. وفي الواقع ، حتى لو كانت مستيقظاً فإني في أغلب الأحيان أكون غائباً. كم من الأشياء تحصل لكنها تتكرر في هذا الزمن أو ذاك.
هذا هو المساء وهذه نهاية أشياء بالنسبة لهم، وبداية أشياء بالنسبة لي. ولكن بدونهم، لن تكون هذه الأشياء هي أشيائي. فهم الذين يشعرونني بأنها لي. إنها لعبة جميلة وقديمة. جزء من المهزلة الكبرى، جزء من المهلة، جزء من السيرك. وكان علي أن أتقمص دوراً في هذا السيرك. أنا لا أعرف الدب ولا أعرف الأسد ولا أعرف النمر. أعرف جيداً الحمار والبغل.
ولكن بما أن الناس يحتقرونهما. فإني فضلت أن أكون ثعلباً هذا المساء، خصوصاً وأن القطيع قد أنهك طيلة اليوم كله. وما أكثر ما قرأت عن أحابيل الثعلب في الكتب المدرسية وما أكثر ما سمعت عنه وأنا صغير. كان القطيع يسير جماعات جماعات في الأزقة الضيقة، وبعض النعاج المصابة بجرب كانت تجر أقدامها وحيدة قرب الجدران، وهي تمضغ همومها اليومية، وتفكر في همومها القادمة، وكيف ستجد حلاً لمشاكلها، ومن يدري فقد يداهمها الموت ليضع حداً لكل شيء.
مفهوم أن النعاج لا تنتهي أبداً، ما أن تنتهي واحدة حتى تبدأ الأخرى، وحتى لو لم تكن لها القوة القادرة العليا والخفية لها يد في خلق هذه الهموم، إن النعاج تخلقها لنفسها ولغيرها. ورأفة بهؤلاء النعاج التي لم تأخذ درساً من نهاية وانقراض القطعان السابقة، عبر سنوات خلت، فإن تلك القوة القادرة العليا والخفية، خلقت شيئاً اسمه الموت. إنه الحكمة الصادقة.الدرس الأزلي، الذي لا زال يلقن لكل النعاج لكن دون جدوى. وها هي الآن تسير حولي بعد أن قضمت عشب غيرها اليومي، دون أن تشعر بذرة واحدة من الندم.
وتذكرت قول الشاعر العربي: «إنما العاجز من لا يستبد». ومع ذلك فقد أصررت على أن أبقى ثعلباَ هذا المساء وألا ألعب دور النعجة. لكن لا أحد منهم انتبه إلى خطمي أو إلى ذيلي، وأنني في أية لحظة يمكن أن أفترس واحدا منهم. لكنهم دائماً يظلون في غفلة مطأطئي الرؤوس أو رافعيها. يمشون بين الأزقة جماعات جماعات في بطء، وقليل منهم من كان يهرول. كانوا يتلامسون بالمناكب. وكانت أعناق بعضهم تشرئب لتلامس أعناق آخرين. إنه المساء».
إن هذه الأسطر هي مركز الرواية، إنها نوع من المسخ، ليس مسخا كافكاويا، وإنما مسخ زفزافي صرف. إنه الحث على التحول من النعجة إلى الثعلب. هل الرواية تجسيد لمقولة توماس هوبس الخالدة: «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان»؟، أم أنها نوع من الميكيافيلية؟
ناهيك عن مواضيع أخرى جسدتها الرواية لا تقل وزنا عن ثيمة المؤلف الرئيسية من قبيل: وضعية المرأة بالمجتمع، ومكانة رجال التعليم بالمغرب، إضافة إلى وقوف المؤلف على طابو الجنس والدين والسياسة بالمجتمع المغربي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
الرواية في مجملها غوص في دروب الذات البشرية وتصوير دقيق للهامش بشخصياته (علي- فاطمة- إبراهيم- مكسيم وخطيبته- بريجيت – عزالدين – عمر – عبده) وأمكنته (الصويرة، الزقاق، الفندق،حي تغارت، الشاليه، مقهى الكوميديا، الديابات)، وأزمنته (المساءات، الصباحات). لقد وظف زفزاف أسلوب الوصف في تعامله مع كل مكونات الرواية من أحداث وأمكنة وأزمنة وشخصيات. لقد وصف كل شيء بدقة متناهية (وصف الهيبيين والهيبيات، ووصف طريقة أكلهم ومسكنهم)، دون أن ننسى وصف الشخصية الرئيسية ومحاولاته المتكررة للتخلص من الثعلب الذي يظهر به والذي لا ولن يختفي، كونه جزءا من كل إنسان، لا يستطيع الفكاك منه.
بعد كل هذه الجولات في مختلف مراحل العرض، نصل في هذه الخاتمة إلى التأكيد على أن رواية «الثعلب الذي يظهر ويختفي» رواية من خالدات الأدب المغربي جسدت واقعية قل نظيرها، وقد أظهرت أولا وقبل كل شيء موسوعية الأديب محمد زفزاف وشساعة اطلاعه على الأعمال الفلسفية والأدبية والسيكولوجية. لم نعرف هذه المعطيات من سيرته الذاتية كونه كان طالبا مجازا في شعبة الفلسفة، وإنما أظهرت أعماله الأدبية ذلك. ونحن نقرأ عبارة «أصررت أن أبقى ثعلبا هذا المساء  وألا ألعب دور النعجة» نتذكر دفاع الفيسلوف فريديرك نيتشه عن الإنسان الأعلى، والنقد الذي قدمه للقطيع في خالدة «هكذا تكلم زرادشت». أليس «علي» نموذج الإنسان الأعلى  الذي كان نيتشه يدافع عنه؟، كما أظن أن اسم «علي» لم يأت اعتباطيا، وإنما دليلا على العلو والرفعة.
ومنه، نتبين أن الأديب محمد زفزاف استطاع التسلل إلى أعماق شخصياته وسبر أغوارهم، مدافعا عن فكرة «القوة» بكل الطرق، وقد نجح في ذلك.


الكاتب : عزالدين بوروى

  

بتاريخ : 03/06/2022