ديوان « بين حبيبات الرذاذ خلسة صفاء لمينة الأزهر

الاختلاس الشعري أو الخيال المائي

 

بعد أن منعتها غيمة من الرقص، تعود الشاعرة مينة الأزهر اليوم لتقتنص خلسة صفاء بين حبيبات الرذاذ، لكنه صفاء سرعان ما يتبدد كلما مرت سحابة سوداء يحرضها القلق. قلق الشاعر الذي لا يطمئن الى الثبات والذي يمنح الحياة للنص وللشاعر معا، ويمنحه طاقة مواجهة اللحظات الإسمنتية في الحياة كلما استبدت به الحيرة وصار المعنى غائما وغائبا.
تقول الشاعرة في نص»الحيرة»:
في مهب الحيرة، أبيتُ (ص62)
بت في مهب الحيرة
وبات كل شيء متناقضا (ص)64

التطهير الشعري

لا صوت يعلو فوق صوت ولون الماء، بدءا بالغلاف. إنه يهيمن على الديوان بدءا بدمعة وانتهاء بالبحر الذي تفيض فيه الروح. إننا نعبر من الأزرق الى الأزرق.. من النهر إلى السماء والعكس صحيح.. نغتسل من اليومي والموجع في ما يشبه الخضوع لعملية كاتارسيس شعري، نتطهر لتستعيد الحواس وظائفها وأولها الحواس الجمالية.
هل تنتمي أمينة الأزهر إلى شعراء البحر الذين تجمعهم سلالة الماء؟
هذا الماء الذي له قال عنه الفيلسوف الفرنسي فيكتور هيغو إنه «مليء بالمخالب»، عنصر روحاني صوفي يقود خطوات الشاعرة آناء الليل وأطراف النهار. له رمزية دينية وتاريخية ومثيولوجية وفلسفية وأدبية، الماء المقدس في جميع الأديان والحضارات، المرتبط بالخلق والجوهر الأوحد لكل الاشياء. قصائد عطشى كلما ارتوى حرفها، تفتح قلبها أكثر
لقد وهب الماء للديوان كريستالية مفرداته،فاللغة شفيفة شفافة تنأى عن الضبابية التي لا تخدم القول الشعري ولا الصور الثاوية خلف النصوص.
الاختلاس الشعري:

تخبرنا الشاعرة مينة الازهر، منذ أول صفحة في الديوان، بأنها تقترف فعل السرقة وبالتالي فكل قارئ، يعتبر شريكا في هذه الجريمة الشعرية:
تقول:
في لحظات مسروقة
من عمر الزمن
أستنجد
بالنهر.
وهي في هذه السرقة الموصوفة تحمل معها كل الأدوات الصوتية للجريمة، تنتقل مابين الهمس: (همسات ص22) (ص40) والمناجاة والتنهيدة والتمتمات( تمتمات مساء (ص68)، تمتمات(ص77) .
هذا التداخل بين الأصوات ينوّع موسيقى الديوان فتلامس الأذن بهدوء في انتظار أن تتحرر هذه الأصوات الهميسة. وهل يحررها غير النهر الذي ترى أن سحره يلغي وحشة حياتها المملة؟
تستنجد الشاعرة إذن بالنهر الشعري بما يمنحه من خيال يسعف في إعادة تركيب عناصر الحياة، كما قال الروائي ميغيل آنخيل أستورياس:
«ليس هناك أعذب وأجمل مما يمنحه الماء لنا من خيال، فهو يطفو بنا أينما نريد، حتى الى أمكنة الفردوس وحدائقه». إنه خيال الشاعرة الذي يتأمل التفاصيل الصغيرة، بدءا بالعنوان « حبيبات الرذاذ». إنها العين الثالثة التي ترى ما لا يُرى.
تقول في ص32:
في وحدتي
أنثر حروف شجني
بتفاصيلها المهلكة
بتفاصيلها الهادئة

يقول الشاعر الإسباني غارسيا لوركا: «إن شعراء الماء هم الذين رأوا وتأملوا أشياء أهملتها حشود الأنهار الواسعة». ولهدا فليس غريبا أن تلتقط الشاعرة المهمل والمنسي على أبواب القلب أو المدينة. قد تبدأه همسا ، لكنها ستصرخ وسيعلو الصوت أكثر فأكثر.
حين توحد الهمس الشعري مع الماء، صار أقوى وبالتالي صارت الشاعرة قادرة على الصراخ والاحتجاج وركوب موج الرفض.
تقول في ص 19:
النهر يصرخ
فهل وصلكم صداه؟
هاهو بحر الشعر يتماهي وبحرَ أزما . فمتى يبدأ كل واحد منهما ومتى ينتهيان؟
وما الذي يحدث لشاعرتنا، حين «مرج البحرين يلتقيان».
تزور شاعرتنا حينها الأولياء والصالحين، تقرأ الوجوه ومعها مآسي وانكسارات العابرين والحزانى والمجاذيب والعوانس والأرامل المتعلقين بحبل الرجاء.
تقول في ص9 :
سلام على حلم تكسر في الظلام
سلام على ذاكرة
نسيت حكايات الجدات
سلام على أسوار
كانت تحيي الروح فينا
سلام على أضرحة
خبأت مآسي العابرين

التماهي مع المكان:

القارئ للديوان، يلاحظ أن أزما بأطلالها وأسوارها تلوح كباقي الوشم في ظاهر الديوان، أزما تسكن رئة الديوان، يتنفسها، يزفرها، ثم يعيدها في حركة لولبية لا تني تتوقف عن الدوران. أحيانا تحل الشاعرة في جسد المدينة وأحيانا تشرب المدينة ملامح الشاعرة. إنها تكتب بتماه مع المكان في ما يشبه حلول المتصوفة.
تعيد الشاعرة نسج المكان شعريا من جديد في محاولة لإيجاد الصورة المثالية التي ضيعتها أو تتوق إليها. لهذا تستوقفنا على طول صفحات الديوان، الطفلة مينة وهي تفتح النافذة، تلوِّح للماضي كثيرا وللصور التي غابت في الزحام.
أَزَمَا، المكان والزمان، الفلتر الذاتي لشخصية الشاعرة في المدينة، إنها كمن يضع عينا على الأرض الصلبة، والأخرى على أرض الذاكرة الرخوة التي تقاوم الخراب.
تقول في نص: «أنا وأزما»
يا أزما
قرحي وجرحك واحد
أنت مني وأنا منك (ص12)
ثم تعود في ص 20 في نص «متاهات» إلى أزما التي تشكو الظمأ.
نصوص تتصادى، تتحاور وتتجاور لكنها تفتح جرحا واحدا اسمه: أزما.

الذات، الأنا

تحتشد الذات بشكل لافت في الديوان، الذات المهزومة المنكسرة تقابلها االذات التواقة الى التحرر . كثيرا ما نصيخ السمع لأنينها ووجعها الشخصي والعام، لكن قليلا ما نرقص معها دون قيد فوق رمال شاطئ الحوزية.
الذات مهمومة بالآخر، والتي لا تقرأ جراحها إلا به ومعه ومن أجله، حتى ولو بدت سيئة لكنها سعيدة بنكء الجرح الجماعي لمجتمع معطوب القيم والافكار.
تقول الشاعرة:
سيئة أنا
لا أليق بهذا العالم
أنام على أوجاع الذكرى
أستيقظ بلا عنوان (15)

وتتساءل :
كيف تنمو وردة يتيمة
من قلب الحجر.
قد تنمو الوردة أحيانا من قلب الحجر، لكن بالحلم وفي الحلم. فما زال في العمر متسع للربيع. وقد تساءلت:

هل علي أن أسير في الحلم
وأي حلم أحتاج؟ ص64
وهل يحتاج الأمر إلى جواب؟
لقد تورطت الشاعرة في وهم الخلاص الشعري وانتهى الأمر، وما عليها إلا اقتراف الأمل والحلم، وتغليف الفراغ في أمنيات قديمة.
تقول:
مازال بوسعي أن أحلم
أن اغلف الفراغ
في أمنية قديمة..
أن أخيط
ذاكرتي الممزقة. (ص29)
كلنا ذاكرة ممزقة تحتاج إلى رتق، فليكن خيط شعر أو خيط دخان فالأمر عند الشاعر، سيان.


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 16/03/2022