ديوان «تراب تراب» لأبو بكر متاقي حياة ما قد بزغت هنا

مقولة قراءة الشعر هي كتابة ثانية له ليست دائما كليشيها، بل أحيانا تصير حقيقة ماثلة بقوة الشيء، وديوان الشعر الاخير «تراب تراب» لأبو بكر متاقي مثال على ذلك.
منذ البياض الأول، تطالعك الرهبة التي تتملكك عادة لدى دخولك الى أحد الاضرحة المؤسطرة، أو إلى كهف يعود إلى عصر الإنسان الأول. لا وجود لكتابات أو رموز، إنما توجد فقط إشارات الى حياة ما قد بزغت هنا، أو أقله قد مرت من هناك.
قراءة ديوان أبو بكر متاقي الفائز بجائزة جامعة المبدعين المغاربة، لا تترك لك فرصة التحذلق اللغوي، أو البحث عن منهج نقدي صارم، إنما تحيلك مباشرة على شريط قراءاتك الكبرى أو لعناتك العظيمة. بالفعل أنت تخوض في نهر يجري بصبيب عال، لكي تجاريه قراءة على الأقل ناهيك عن الكتابة، عليك التسلح ببنية قرائية عالية جدا. لا نستغرب أن نجد أنفسنا حائرين بين أصالة الشاعر داخل النصوص، وبين الإحالة على تجارب عربية وعالمية. بل الغريب هو أن يكون مجرى النهر مقطوعا من منابعه. متاقي يحمل إلينا الشعر بترسباته الاولى، يحمله إلينا خبزا كاملا.
عادة ما نخوض الكتابة النقدية أو حتى الانطباعية لنص من النصوص، بالقراءة، فالتأويل، فالمطابقة المحتملة بين التأويل وشاعره. لكن قليلة هي النصوص التي تحتاج لقراءة مفرغة من التأويل – كما يحتاج الخبير الى منطقة مفرغة من الهواء- تصطدم مباشرة بشاعرها. نصوص لا تريد الفكاك مع صانعها. تجبرك على استحضاره في كل مطلع ومقطع .. كأنها تفاخر به أو بث هو فيها إكسيره الخام، جاعلا من نفسه بيسوا الشعر المغربي، أو هكذا بدا لي و لا يزال يبدو. مبتعِدا حتى أُبعد ومبعَدا حتى أبتعد. كتب نصوصه وضمنها وحدته بصرخة موجهة ستنفجر حين تصيب الهدف.
إن بين متاقي وبين فرناندو بيسوا، كالذي بين الأخير وبين النفري، شبهة التلاقي في الطريق. بيسوا يعرف البداية، أما النفري فيعرف النهاية . النفري سمع الصوت البعيد القريب من غير مسافة . بيسوا أدرك أن صوته أقوى من جسده فصرفه الى أنداد. متاقي يلتقي مع بيسوا. هذا الأخير لاطمأنينته، فلسفية أما متاقي فقلقه صوفي.
ينطلق أبو بكر متاقي من فضاء لغوي هادر بالأصداء. لغته عالية جدا تنزل ومعها صوت تيار المياه، مياه الشعر. هل لي أن أستحضر سليم بركات الآن. إنه أحد الأصوات التي أسمعها وأنا أشاهد شلال متاقي الذي من الكلمات. مياه صافية بلورية، فما علاقتها بالتراب؟ إنه المنبع والمصب. بين تراب متاقي وبازلت بركات، تتشقق اللغة، نسمع انفجار الديناميت الشعري، نشتم دخانه النفاذ ونحس وجع الشاعر بكلماته التليدة، بنات كلماته الحبلى.
كلمات ثمينة كالذهب وجميلة كالوردة. فماذا صنعت بالذهب؟ ماذا فعلت بالوردة يا أبو بكر؟
ما من صخرة هنا إلا و روحي أثقل منها
لئن كان قدر سيزيف أن يواصل حمل ثقل صخرته المتدحرجة كل مرة أبد الدهر، فالشاعر قدره حمل روحه الأثقل. لنتأمل نيتشه على لسان ميلان كونديرا:
«لو قدر لكل ثانية من حياتنا أن تتكرر مرات لا حصر لها، لكنا معلقين على الأبدية مثلما علق اليسوع المسيح على صليبه». هذه الفكرة فظيعة ففي عالم العود الأبدي كل حركة تحمل ثقل مسؤولية لا تطاق، وهذا ما جعل نيتشه يقول : «إن فكرة العود الأبدي هي الحمل الأكثر ثقلا».
ماذا لو تكررت حياة الشاعر مرات لا حصر لها؟ كيف سيكون ثقل الألم الذي يكابده حينها؟ ما هو طعم شعره في تكراره ذاك؟ ما هي تلك المسؤولية التي ستقع عليه؟.
وأيضا إذا استعنا بالتأمل الكونديري، فكلما قل عدد الشعراء في هذا العالم، ازداد ثقل روح أحدهم نسبة للكل. والعكس بالعكس..
لنتساءل من جديد إذن: كم لدينا من شاعر بحجم أبو بكر متقي لنعي ثقل روحه بيننا؟


الكاتب : محمد حياري

  

بتاريخ : 04/03/2021