«ديوان عبد الرحمان الأيسي الكدورتي» في أيادٍ «أمينة»

أمينة أوشلح تقاسمنا إرث جدها بسخاء

 

«هذا الكتاب جاء إليّ وفرض نفسه علي، ووجدتني تائهة بين خيوطه العنكبوتية».
كالحب لا يأتي إلا فجأة، جاء «ديوان عبد الرحمان الآيسي الكدورتي: بين الجد والحفيدة» بين يدي الأستاذة الباحثة والحقوقية أمينة أوشلح.
هكذا وبعد أربعين سنة على رحيل الجد، تستيقظ الحكاية وتنبث من رحيق «المعسول» في قطرته 18.
حقيبة خضراء خضرة قبب الزوايا والأولياء، ربما تنم عن رمزية اللون الأخضر في الدين الإسلامي، الذي تضلع في بحوره الجد عبد الرحمان الآيسي الكدورتي الذي كان يدرّس في بعض المدارس العتيقة بسوس العالمة، سوس التي صنعت مجدا غير يسير من تاريخ المغرب الأدبي والاجتماعي والسياسي لكنه، للأسف، ظل طي الإهمال والضياع إلا في ما ندر.
تاريخ وذاكرة يسكنان حقيبة، نامت في أكثر من رفٍّ وجالت بين الأب والابن قبل أن تستقر في بيت البنت : كتب في الفقه والأدب..مُزَقٌ ومخطوطات..قصائد مبتورة.. رسائل من الأدباء والفقهاء والطلبة، خطب الجمعة والأعياد ..فتاوى وعقود، آراء وشهادات تنصيب للقضاء والتدريس… وماضاع كان أكثر تكفلت به نساء البلدة بعد أن «كلفهن ابن الشاعر المقيم في سلا بالعناية بمنزله في البلدة فتخلصن من كل الأوراق التي بدت لهن ممزقة الأطراف، أو تلك التي أكلت الأرضة معظمها، أو تلك التي بدت لهن تافهة – حسب عقليتهن وذهنيتهن- لا قيمة لها مقارنة بالكتب المسفرة الجميلة شكلا والكبيرة حجما، وذلك أثناء تنظيفهن لمكتبته أو عند نقلهن للكتب من الدولاب لإرسالها لابنته( والدة المؤلفة).
حقيبة يسكنها تاريخٌ وتاريخٌ تصنعه حقيبة، وما على الحفيدة إلا تنفض عنهما الغبار وتعيدهما الى دائرة الضوء في محاولة لنظم «العقد الفريد» الذي يربط الحفيدة بالجد، ومعها التاريخ بالهوية، هويتنا الجمعية.
هي رحلة ستقود الحفيدة أمينة أوشلح لتصل حاضرها بماضيها، حاضر بعاصمة المملكة، حيث أنوار الألفية الثالثة و»حداثتها» المعطوبة إلى ماضٍ يثوي في أقاصي الجنوب المنسي، حيث العزلة تصنع الأشياء الناضجة، كما صنعت شاعرا اسمه عبد الرحمان الأيسي الكدورتي،هو جدها لأمها، شاعر مغمور كان على الحفيدة أن تأخذ بيد مخطوطاته «العنقاء» لتنبعث من رمادها وتتوهج في الغياب.
هنا تافراوت، نهاية الإسفلت وبداية الرحلة الصعبة الى مسقط الرأس» كدورت».. الواحة الخضراء بتينها وزيتونها، و»العناقيد تدلت كثريات الذهب» كما غنت فيروز. هنا نفائس الكنز الذي قادها من باب المريسة بسلا إلى «أفلا إغير» التي تبعد عن تافروات بثلاثين كيلومترا.
انطلقت أمينة أوشلح في رحلتها هاته ينعشها رذاذ الذاكرة، ويحدوها الوفاء لروح الوالدة «زينب نايت سليمان التي حافظت على هذا الإرث الأدبي، ولروح الوالد قاسم بن عبد الواحد الذي أصر على أن تسلك ابنته طريق العلم والبحث، وهاهي تنقب وتبحث وتحقق وتدقق، تجمع المتناثر وتُلحم الممزق وتوصل المبتور، ليخرج الديوان خالصا كسبيكة من ذهب.
يتكون الديوان من:
قصائد شعرية للجد ولأصدقائه مكتوبة على هوامش الكتب ليطلع عليها من يقرأها
2- رسائل موجهة إليه أو بعثها إلى أصدقائه الفقهاء والعلماء وأعيدت إليه بجواب.
3- تعليقات وفتاوى وخطب دينية وعقود.
في تدقيقها وتحقيقها، ركزت الباحثة على الأشعار والرسائل التي تدخل في الشق الادبي مع استبعاد المشكوك في نسبته للجد، وكل ما لا يدخل في التيمات الثلاث السابق ذكرها، ليتم في المحصلة الوقوف على 938 بيتا( 42 نصا شعريا تتوزع مواضيعها وأغراضها).
كل المخطوطات كتبت بالخط المغربي الأندلسي وبالحبر الأسود والقلم القصبي الذي كانت يستعمل أنذاك داخل الكتاكيب القرآنية والمدارس العتيقة المنتشرة بسوس العالمة، إلا أن لحفيدة الباحثة وجدت بعض الصعوبة في قراءة عدد من النصوص التي تكثر فيها التصحيحات والتشطيبات والإعادات لكونها كانت مسودات أولى للقصائد أو كتبها الجد في آخر مراحل حياته قبيل فقدانه للبصر، وهو ما يحيل على الجهد المضني الذي بذلته الباحثة وهي تدقق وتحقق أبيات القصائد التي قد يعاد ترتيبها مرات عديدة، وقد يضاف إليها في هوامش مخطوطات أخر. مهمة ضاعف من صعوبتها، التحقق من نسبة المكتوب الى الجد عبد الرحمان الأيسي الكدورتي، وهو ما دفعها الى اعتماد الموقع منها توقيعا صحيحا أو المشار إليه في أكثر من مكان. وهنا اعتمدت أمينة أوشلح في مسلكها التحققي 4 مسارات:
1 – مخطوطات تنتهي بتوقيع الجد كاملا (الاسم الشخصي ثم اسم الأب فالجد، فالعائلة، فالمنطقة والبلدة)
قصائد بدون توقيع تكررت في نسخ عديدة مع تشطيبات وإضافات مع العثور على نسخة أخيرة منها منقحة ومرسلة لبعض أدباء سوس، وهو تقليد دأب عليه الفقهاء والأدباء من إطلاع بعضهم البعض على ما كتبوه ربما خوفا من اندثار الأثر.
قصائد بدون توقيع في نسخة واحدة مشارا إليها في أشعاره أو رسائله
قصائد بدون إمضاء في نسخ متعددة تتضمن قصائدٌ أخرى، أشطرا منها.
جعل العائق الجغرافي بالإقامة في جبال سوس، انفتاح الجد عبد الرحمان الأيسي الكدورتي على ما يعتمل في الحقل الادبي من مستجدات، أمرا محدودا لهذا لم يتسع شعره لغير الأغراض التقليدية التي عج بها الشعر العربي القديم ، إلا أن الباحثة حاولت تقسيمها الى:
1-التعبير الوطني: وضمنه 288 بيتا في 7 قصائد( منها قصيدتان بعثهما الى السلطان مولاي حفيظ وثلاث قصائد بعثها الى الملك محمد بن يوسف يشكو فيها معاناة سكان بلدته من جور المستعمر) ثم واحدة لباشا المدينة في وصف الأحوال وتغير الزمان.
2- الشعر الديني: وضمنه 240 بيتا. يحتل هذا الغرض الحيز الأكبر مما كتب في سوس بشكل عام، نظرا للثقافة الدينية التي كان ينهل منها جل الأدباء والفقهاء، إلا أن قصائد الجد تداخلت فيها كل الاغراض وإن كان خواتمها دينية بحتة .
3- المدح: يحتل المرتبة الثالثة من عدد الأبيات: 146 بيتا في 10 قصائد وفيها مدح للعلماء والفقهاء وذوي النفوذ، لكن بعيدا عن كل مدح تكسبي، بل مدح فيه إعجاب واعتراف بفضائل وخصال الممدوح الذاتية والدينية.
4- الرثاء: ب133 بيتا وجاء في 6 قصائد نظم أغلبها في رثاء الفقهاء والعلماء والقائد المدني.
5 الإخوانيات: وهي وسيلة للتواصل مع الاصدقاء والشيوخ وطلبة العلم المقربين إليه، دينيا وووجدانيا وفكريا( 107 أبيات في 3 قصائد)
6- الوصف والغزل: قصيدة واحدة في الغزل و2 في الوصف، وغالبا ما جاء كتمهيد لأغراض أخرى:
يقول: غنت الورقاء فوق الفنن فأثارت كاهنا من شجن.
تستعيد الباحثة أمينة أوشلح هذا المعطى بكثير من التساؤلات حول الاسباب التي جعلت الجد يحجم عن الكتابة في هذا الغرض بالذات، ولعل حيرته بين أحكام الهوى وأحكام الشرع وثقافته الدينية المحافظة هي ما جعله يقف أمام باب «النسيب» دون أن يطرق غرفه المخملية ويشرب من دنان العشق.
وفي كل ما كتب الجد، لم تحد اللغة عن قاموس الأدب العربي الجاهلي والاسلامي دون أن تتقاطع أو تتماس مع المدارس الأدبية، جديدها وقديمها، لكنها تنبري سهلة مطواعة وهي تنقاد لسلطة الواقع ومعاناة الشاعر أو محيطه في جدلية مستمرة تبلور الحدث في الزمان والمكان. قصائد لا تنغلق على ذاتها أو تكتفي بوحدة الموضوع، بل نجد لها تصاديات وتناصا في قصائد أخرى متفرقة، وهو تصاد قد يحدث تراكما معرفيا كما قد يكون إلغاء لسابقه أو بديلا عنه.
قصائد لملمت شتاتها الحفيدة، كما تُلَملَم الدرر النفيسة بكل عناية فائقة، لتحافظ على قيمتها، وهو ما يتحقق وتحقق ما دامت في «أياد أمينة».
بقي أن نشير الى أن الكتاب «ديوان عبد الرحمان الأيسي الكدورتي: بين الجد والحفيدة» يقع الكتاب في 350 صفحة، بتصدير الأستاذ عباس الجيراري، وتقديم شهادة الدكتور الحسين آفا، وتصميم الغلاف من طرف الشاعر عزيز أزغاي.


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 27/05/2022