ديوان «غيم في يدي» للشاعرة عائشة جرو : فتنة الزهور والمدنية المشوهة

تكتب الشاعرة في ديوانها عن الجراح التي لا تندمل، عن الحزن المتواري خلف الضحكات، تكتب عن حرية مشتهاة، لذلك، كان اختيارها للعنوان موفقاً، فالغيم هو رمز العطاء والمنح دون مقابل، كما أنه رمز للخير والجمال والفضاء الشاسع دون حدود.
وهي تهدي ديوانها «غيم في يدي» إلى من قدموا لها يد العون للاستمرار في الحياة التي تزداد شراسة وقسوة، وإلى المعتقلين الذين يبنون من أعمارهم وطناً…
كما أنها تعلن، منذ البداية، وعلى لسان محمود درويش: «سنكون يوماً ما نريد»، مؤكدة أنه، رغم الجراح والدماء والفقر، ما يزال فينا قلب ينبض بحب الحياة، وسنكتب بدمنا مستقبلنا الآتي مع الشمس.
تبدأ الشاعرة ديوانها بقصيدة صادمة ومدهشة، تعبر عن جحود الناس (الأصدقاء) فالحياة لا ترحم، وعلى الإنسان أن يكون واعياً، ومنتبهاً لشرورها، تقول في قصيدة «جزاء»:
«استقيظ الميت
الذي وسدته حجري عمراً،
كان جائعاً
التهم فخذيَّ…». (ص7)
والقصيدة تذكرنا بالقصة التاريخية «جزاء سنمار»، حيث فعل الخير في هذا الزمن الصعب قد يقابله البعض بالأذى ونكران الجميل، والقصيدة تنبئ بما يحمله الديوان من مرارة وحسرة لما وصلت إليه حياة الناس: الفقر الذي يطرق الأبواب، الجشع وأكل لحم الغير، السجن لمن يطالب بمزيد من الهواء النقي…

رائحة الأزهار تطغى على أزيز الظلم

تتضمن غالبية قصائد الديوان اسم زهرة أو شجرة، فنجد (النخيل، والصبار، والرمان، والياسمين، والزعفران، والقرنفل…) ويبدو أن الشاعرة تحاول تخفيف كمية الألم من خلال هذه النباتات التي تمدها بالقوة والصبر، والاستمرار في الحياة، وسط مكان يرتع فيه القتل والمرض والفقر، حيث لا بد من الفرار صوب حدائق الروح، وبساتين الطبيعية.
تعشق الشاعرة الطبيعة، لذلك، هي تكره المدن التي تصفها بأنها مكان مقفر، ومعاد، وفي قصيدة «أقصص رؤياي على الجب» تقول:
«اطمئن أبتي،
وهبتني عينيك الجنوب- شرقيتين،
لم أبدد واحاتهما في صحراء المدن،
صافيتان لم يلطخهما سخام الأرواح،
حين يرتطم نخيلهما بالسحاب،
تتفتت الناطحات الجاثمة على الزنابق،
يبزغ نور غير متوقع من تحتها،
أراه بقلبك الياسميني،
حينما يطير جلدك الأنصع، من صباح صيفي،
سرب حمام من مسامي،
ولا أقصص رؤياي إلا على الجب». (ص8)
فهي تخاطب والدهامطمئنة إياه أن وجودها في المدينة لا يجعلها مستلبة لها، بل إن عينيها اللتين ورثتهما عنه لم يتلطخا بسوادها ولا بسواد سكانها، فهما باسقتان كالنخيل الذي يزيح من دربه البنايات الشاهقة ليفسح المجال لنمو الزنابق، ونور الحرية الذي يولد من تحتها، أرى كل ذلك بقلبك الياسميني الذي يمنحني التنفس بحرية والطيران كحمام…والقصيدة تظهر تأثر الشاعرة بسورة يوسف عليه السلام، وأخذها بنصيحة يعقوب عليه السلام، ولن تقصص رؤياها على أحد باستثناء الجب العميق الذي يحفظ الأسرار.
أما قلب والدها الياسميني، فهو رمز للحب والحنان والدفء، فزهور الياسمين البيضاء ذات الرائحة النفاذة والزكية، تدلل على ذلك، فهي «تعانق النوافذ والأبواب وسياج الحدائق صعوداً جماليّاً، وهي عادةً تقيم علاقة حميمةً مع الليل،إذ تبعث رحيقها الروحي في الليل وتملأ أرجاء المكان لتدلّ العابرين على وجودها وألقها العابق بسحرٍ خفيٍّ، وهي أيضاً تعانق البيوت وتحتضنها في حنين الأم إلى جنينها الأول». (1)
كما أنها رمز للسلام والوئام والإقبال على الحياة. والأزهار، ولا شك، ضرورية، فهي كالبلسم تداوي جروح الإنسان، تقول في قصيدة «خارج الروح»:
«لا تطرق أبوابهم مطولا،
لن تفتح لك شجرة متفحمة،
أضرموا الخواء في غابات قلوبهم،
في المدينة القاسية، يغيب الحب، وترحل المودة، ولا يبقى غير الخواء والقحط الروحي. لا تجد الشاعرة غير شجرة الآس السامقة تحميها من نوائب الزمن، تقول في قصيدة «حنان»:
«عيون المظلات
تعد حبات المطر،
تحت شباكك الشائك المسور،
انحنت شجرة الآس العالية،
ضمتني،
خبأتني…». (ص18)
وشجرة الآس ينمو نصفها في الماء،والنصف الآخر خارج الماء، ورمزت بها الشاعرة للحنان والأمان، فهي تلجأ إليها عندما تشعر بالألم. كما تلجأ إلى الصبر والجلد تماما كشجرة الصبار، القادرة على الصمود بأجواء الحياة، وحتى عندما يؤذيها الخريف، فهي قادرة على النمو من جديد وطرح الثمار. تقول في قصيدة «وميض الصبار»:
«وإن هب خريفها حالكاً،
بين ركام أوراقه الكالحة،
زهرة صبار،
برتقالية وحيدة،
تندلع قصيدة،
فتشعلها بستاناً…». (ص21)
إن رؤية الشاعرة الذاتية إلى المدينة، ومشاعرها اتجاهها تنم عن كراهية لها، وهي كالسياب ترى المدينة وحشا قاسيا، بينما (القرية، الصحراء، الطبيعة) هي الأم الرؤوم التي تنقي ما يعلق بابنها من رجس وخطايا. وهكذا، فالطبيعة هي الفرح والسرور،إذ المكان يحدد الحالة النفسية للشاعر، ومن كثرة ما تكلم السياب عن قريته جيكور، فقد أدخلها التاريخ. أما بغداد، فهي الظلمة ومادية الجسد الفاني، مقابل جيكور الحب والطفولة والنور والعدل.
بغداد العدم والظلم والجوع والعطش، ومثلت المدينة للسياب: «ضياع العمر ومصدر الموت، فإن جيكور هي ولادة الحياة. فيها أحسّ بالسعادة، في حين، أحسّ بالنكد في المدينة، فكيف إذا نشر الطاغية عليها جناحيه وجلّلها بظلمه؟» (2)
وبقي السياب ناقما على المدينة،لا يمل الحديث عن قريته. وكذلك تفعل الشاعرة، التي ترى المدينة تلتهم الأشجار والزهور، مدمرة أعشاش الطيور، تقول في قصيدة «أنين الغابات»:
«تئن شجرة تحت قدمي،
ندبة على لحائها تسم جبيني،
وتنتحب عصافير
في مكان ما من ذاكرتي،
كلما عبرت شارعا،
كان قبل قليل غابة…». (ص66)
وعلى الرغم من أن المدينة هي رمز الحضارة، وهي البيئة التي تعيش فيها الثقافات، وتتفتح وتزهر، وتمنح صورة شاملة للمجتمع، وما يؤمن به من قيم وأخلاقيات، وحتى التاريخ، كما يقول أندريه نوشي، «ما زال يكتب بالمدن» (3)
واللافت أن المفكرين والكتّاب في العصور القديمة والحديثة، اعتبروا المدينة موطنا للفساد، ووحشا ينهش الناس، واعتبروا المادية الصلفة وجهها. وهذا ما جعل بعضهم يهرب منها، ويبني في خياله المدينة المرغوبة كجمهورية أفلاطون، وحتى قصة ربنسون كروزو للويس كارل كانت في عمقها هروبا من العالم المادي والقلق إلى حياة المغامرة في البراري والغابات.
ومن الشعراء الذين هاجموا المدينة الشاعر صلاح عبد الصبور الذي رأى إن الريف هو الحرية، «حيث الإنسان لا يحلّ مكانه أحد، ليس مجرّد رقم كما هو الحال في المدينة. وهو حيوية وبكارة وتفجّر وأناس طيبون يصنعون الحب».(4) لهذا، يحرص على قيم الريف من أن تسحقها المدنية.
وترفض الشاعرة المدينة التي تعتبرها رمزا للظلم والفقر، ففيها يعيش الأطفال دون مستقبل، وهي ساحة صراع، يأكل فيها القوي الضعيف، ولا تقيم وزنا للمشاعر الإنسانية، وتفتخر بأنها ابنة الصحراء التي تهب المدن الخاوية ثمار النخيل لعلها تكتسب بعضا من أخلاق الصحراء. تقول في قصيدة «فاكهة الصحراء»:
«لم تلدني مدينة
لأضع يدي في جيب معطفي،
وأوزع على أطفال بلا غد
أحرفاً ملونة…
وأكثر ما تظهر فيه الشاعرة نقمتها على المدينة هوقصيدة «وردة تتعرى»، حيث تصف أحوال الناس،تقول:
«…
أرى شخوصاً فارين مذعورين من أجسادهم
يتمتمون كلاماً من سفر غير مفهوم…». (ص60)
والمدينة مليئة بالجوعى، والقطط المشردة، والكلاب الضالة، وفيها،ينتشر الخوف والرعب، وتتبدى كلوحة سريالية، ففيها:
«… تماثيل صاحية، كائنات تكاد تكون حية،
نساء ورجال، تتعقبهم أنصافهم السفلى،
تخرج لسانها…». (ص60)
فالشاعرة عندما تصف المدينة وسكانها، فإنها تصف نفسها ومشاعرها، فالسكان شاردو الفكر، مشغولو البال، محدقون في اللاشيء، متعبون، يعانون الوحدة والعزلة والغربة والضياع والتشيؤ في زحام لا ينتهي،والتجهموالعبوس وغياب الضحكات.
صور المدينة خرجت من واقع الحياة، فالشاعرة تحس بالغربة والاغتراب والقطيعة مع المجتمع، ومواقف سكانها تتصف بالتغير والتلون عكس القرية أو الصحراء اللتين تتصفان بالوضوح.
هذه الصورة السوداوية يمكن أن تكون ولدت نتيجة معاناة الشاعرة في بحثها عن التكامل الاجتماعي وشعورها «بالوحدة والغربة والضياع، الذي لا يعني مجرد انقطاع العلاقات العاطفية بين البشر، بقدر ما يعكس وجه المدنية». (5)
فالعلاقات في المدينة اصطناعية قائمة على المصلحة والمجاملات النفعية، وكل شخص يحاول أن يوقع الآخر في الحفرة، وحتى العلاقات الأسرية تفتتت.
وإذا كانت الطبيعية ما زالت رمزا للجمال والخلود والنقاء والأمن والحنان، فالمدينة (تمرّ في مرحلة «تيه حضاري» بسبب مرحلة الموت الحضاري. وقد جعلت هذه المرحلة «التيه» الإنسان العربي، وبالتالي، المدينة العربية بدون هوية واضحة، فأصبحت محط تساؤل أبنائها». (6)
فأين الأمان والاستقرار؟ أين دفء المحبة؟ لا شيء في المدينة غير المصالح المادية التي تقتل الروح. لا شيء غير:
«…غربان جاثمة على انكسار المصابيح،
رائحة موت، وغبار بارود يغشى كبرياء الأشجار،
لهاث هلع الظلام من أحلام وردة،
كل ذلك لا يحجب عن شرفتي
ضوء وردة تتعرى أمام دمع الندى».(ص 61)
ورغم كل شيء، ما زالت الشاعرة قادرة على رؤية الأمل والجمال، فروحها لم تتلوث بأوساخ المدينة، وتبدي إعجابها بالريف، وإذا ضاقت بها الحياة في المدينة، فإن حقول الزعفران تشدها إليها، إذ لها ذكريات، تقول في قصيدة «حقول الزعفران»:
«ما زالت خابية ذاكرتي،
تعتق مرايا الواحة العميقة،
حيث اختفت فلاَّحة الورد
في زهر «أحرويها» الأسود،
….
فالحب والفرح والأمان تراها الشاعرة في فلاّحة بثوبها الشعبي المطرز بالألوان (في الجنوب الشرقي المغربي)…
وإذا كان الديوان ممتلئا بألفاظ الحزن والوجع والمرارة،فهو متخم أيضا بأنواع الأشجار والزهور التي أضفت رائحة الحرية والآمال في غد أفضل، ورغم غروب الشموس، ما يزال وجه «رزان» (ابنة الشاعرة) يبتسم مما يعيد الشمس من جديد، ويولد الشروق…
وبهذا، تكون قصائد الديوان ثمارا من الشعر الوجداني الذي يتدفق فراتا، ويترك أثره العذب في نفسية المتلقي. كما أن الشاعرة تمتلك الأدوات لتبوح بشكل جمالي بما يقلقها في الواقع المزري، وجاءت القصائد مفعمة بالرموز الصاخبة والضاجة بالدلالة ووفرة المعاني، وقد عملت على استنطاق الطبيعية التي هي على علاقة متشابكة مع الإنسان، فكانت القصائد معبرة عن العلاقة الجدلية بين الشعر والطبيعة، ومن ثم معبرة عن الحياة الزاخرة بالمعاني والدلالات.


الكاتب : أمين دراوشة

  

بتاريخ : 06/05/2019