* أعددت هذه الشهادة في سياق الإعداد لكتاب احتفائي برفيق عمري، أستاذي وصاحبي لمدة تفوق خمسة عقود، الشاعر والمسرحي الدكتور محمد فراح. الكتاب الاحتفائي قيد الإعداد للطبع.
أنشر هذه الشهادة في سياق الظرفية الصحية الحرجة التي يجتازها أخي الغالي السي محمد فراح المنتصر حتما، وبإذن الله، على شرطه الراهن، مع كل مشاعر التقدير الرفيع لرفيقة عمره الفنانة والأديبة خديجة سوكدالي والأميرين الرائعين بسام وغسان أنار الله سبلهما:
تماما كما لو كنا، منذ البدء، على موعد لنوقّع خطوا مشتركا يدشن صداقة ستمتد ضمن مساحة تصل إلى أكثر من خمسة عقود، وإلى ما هو مواز لأحلامنا وأفكارنا حول الكتابة والحياة.
ربما هذا هو المدخل الملائم لأفلت من شساعة الذاكرة والتذكر، خاصة أن المرء حين يهم بكتابة شهادة عن صديق يصعب عليه التخلص من الحديث المتقاطع مع الذات لأن ثمة، في هذا النوع الأدبي، لعبة مرايا جاذبة. ولذلك سأكتفي باستحضار بعض اللحظات التي تكفي لرسم «بورتري» ملائم لهذا الصاحب الفريد، ولبعض مستويات حضوره كمبدع وباحث، وكمدبر ثقافي.
لتكن الاستعادةُ، لقاءَنا الأول:
في سنة 1972، انخرطت في دار الشباب بوشنتوف، قريبا جدا من بيتنا بدرب السلطان بمدينة الدار البيضاء.
كانت المكتبة موئلنا المشترك. هناك تبادلنا أولى الجمل تعليقا على ملخص كنت أنجزته لأحد المؤلفات الأدبية. وهناك انفتحنا مبكرا على الحضور المتوهج لاتحاد كتاب المغرب الذي كان يواصل مشروع النهوض بثقافتنا الوطنية. وفي هذا الإطار أتذكر بعض الأنشطة التي كان يحضنها ذلك الفضاء مثل بعض القراءات الشعرية التي كان ينظمها فرع اتحاد كتاب المغرب بالمدينة، بمشاركة عدد من الشعراء من بينهم كما أذكر محمد عنيبة الحمري وإدريس الملياني وأحمد هناوي… ثم هناك تلك المحاضرة الراسخة في البال، والتي كان قد قدمها المرحوم الدكتور عزيز بلال، حول تحديات الاقتصاد الوطني.
ثم هناك الأثر الجميل للجمعيات المسرحية المنتسبة آنذاك إلى دار الشباب بوشنتوف، أو إلى نظيراتها بحي سيدي معروف المجاور مثل فرقة «الشهاب» لمحمد التسولي، «الأخوة العربية» للمرحوم عبد العظيم الشناوي، «الباسم» ليوسف فاضل والمرحوم محمد السحماوي، «العروبة» للمرحوم محمد العلوي ولأبرز مبدعيها المرحوم حوري حسين قبل أن يستقل لاحقا بفرقته «مسرح الجمهور»…
في سنة 1973، كان أول عرض تقترحه عليَّ الخشبة هناك: مسرحية «البراعم» المعدّة عن رواية الأديب عبد الكريم غلاب «المعلم علي».
كان معِدّ النص هو محمد فراح، رئيس جمعية الرواد للثقافة والمسرح، الطالب آنذاك بالسنة الأولى بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، وكانت فريدة بورقية هي المخرجة التي أنجزت هذا العمل في سياق الدراسة بأحد معاهد الاتحاد السوفياتي آنذاك. وكان من الأصدقاء الأعزاء الذين اضطلعوا بمهمات التشخيص: نور الدين امهيمر، حسن رشيق، عبد الحي بنصالح، عبد الحق الخياط، سليم السعودي ومجيد عبد الرزاق…
بعدها مباشرة أطلعني محمد فراح على مسودة أول مشروع شعري من إبداعه بعنوان «تعابير الأعماق» ضمن نفس حماسي يحتفي بالقضية الفلسطينية أساسا، إلى جوار مخاطبات ونجاوى الهوى والشباب. ثم سأفاجأ به، في الموسم الموالي، يقترح عليّ المشاركة، مع فرقة الرواد، ممثلا في مسرحيته الجديدة «فجر الإسلام» بإخراج صديقنا عبد الحي بنصالح (الطالب بشعبة الفلسفة بكلية آداب الرباط آنذاك). كان عليّ أداء دور أحد الشيوخ المبشرين بالدعوة المحمدية مع أن سني لم يكن يتجاوز السادسة عشرة.
بعض مسرح الهواة كان يسمح لفتى يتلبس بدور أكبر منه، مثلما كانت ثقة فراح والرواد تكفي.
من ثم واصل الصديق كتابة مسرحياته بمعدل واحدة في السنة كنت حاضرا فيها:
«أنشودة لفلسطين»، تركيب مسرحي لأشعار محمود درويش (1975)، «الديدان والبذور» (1976)، «الطاووس في غابة الزنوج» (1977). وخلال هذه العروض كانت الفرقة قد تعززت بأسماء جديدة أبرزها أصدقائي الأعزاء صلاح بوسريف ومحمد بوعنان وعبد الفتاح بهجاجي…
مرة واحدة فقط، في ما أذكر، اخترقنا قاعدة أداء نصوص محمد فراح عبر إنجاز مسرحية «زنقة من الزناقي» سنة 1975، وهي لصديقنا نور الدين امهيمر (أستاذ اللغة الفرنسية آنذاك). إلا أن هذا المنحى سيتطور لاحقا بعد تقديم نصين من تأليفي: «التوازن» سنة 1979 (بإخراج نور الدين امهيمر)، و»الورقة الأخيرة في حياة المسمى الطاهر» (بإخراج محمد المغاري وصاحب هذه الشهادة).
في سنة 1981، صدر الديوان الأول «السيف والأكفان البيضاء» لمحمد فراح ضمن منشورات الرواد. وقد تشرفت، باسم فرقتنا، بكتابة مقدمة هذا الكتاب، الباكورة الأولى لسلسلة من الإصدارات الشعرية والكتابات المسرحية التي ستكرس مُبدِعَها لاحقا اسما حاضرا بتميز في المشهد الثقافي في الدار البيضاء، وعلى الصعيد الوطني.
ثم واصلنا الخطو الموقّع كالفرح. فلقد كان صاحبي خلاقا في إدارة جمعيتنا، وكذلك كان خلال توليه مسؤولية رئاسة مجلس دار الشباب المتكون من رؤساء الجمعيات والأندية المقيمة بالدار، والذي كان قد أرسى أساسه الأول المحامي الكبير المرحوم محمد درعام، وكان يومها طالبا بكلية الحقوق آنذاك. أشير هنا إلى أن الظرف الثقافي كان متميزا بسعي جمعيات الدار ومحيطها البيضاوي لتأسيس عمل جمعوي يشبه تلك المرحلة تماما، بل يتجاوزها من أجل عمل يضيء عتبات الوقت.
في ذلك السياق شجعني صاحبي محمد فراح على تحمل رئاسة الرواد، ثم على خلافته على رأس المجلس لاحقا. وهي الفترة ذاتها التي أطلقنا فيها فكرة الأسبوع الثقافي السنوي لجمعيتنا بدعم الناقد سعيد يقطين الذي كان يتولى، يومها، مهمة الكاتب العام للجمعية، وبمشاركة العديد من الأسماء الإبداعية مثل الراحلين محمد زفزاف وحوري حسين ومحمد القطيب التناني وغيرهم من أصدقائنا النقاد والمبدعين الأحياء أطال الله عمرهم.
في تلك المرحلة بالضبط كنا، على المستوى الشخصي، نتهيأ معا لتأسيس أسرتينا، وذلك ما كان. بحيث كنت شاهدا بمنزلة «وزير» في حفل زواجه بالأخت خديجة سوكدالي، رفيقة دربه في الإبداع والحياة، ومؤلفة كتاب «المسرح التعليمي» وعدد من المسرحيات والأناشيد الخاصة بالأطفال.
وكما في الخاص والعام فالصاحب رفيق أسفار ممتع، لا فقط في مجال الأفكار والإبداعات، بل في الأمكنة. معا قمنا بجولات مغربية كان ضمنها حضور وقائع مهرجانات مسرح الهواة بالدار البيضاء (1975)، وجدة (1977) وفاس (1978)… ومعا فتحنا الأندلس مرتين، رفقة الرواد، سنتي 1980 و1981.
وفق هذه الشراكة دائما تقاطعت خطانا متقاربة حينا، متباعدة حينا آخر، بحسب ظروف العمل والكتابة واختياراتها دون أن يتغير شيء في معنى الصداقة الممتدة بيننا إلى اليوم.
على ضوء هذه الاستعادات، يطيب لي أن أوجز فكرة أولى عن الرصيد الإبداعي المتنوع لمحمد فراح:
مسرحيا، كانت نصوصه تسير باتجاهات متقاطعة: استلهام التراث العربي الإسلامي، احتفاء باللغة العربية بنفس شعري، احتضان لقضايا الإنسان التواق الى الحرية والكرامة، بدءا من القضية الفلسطينية وقضية وحدتنا الترابية، وانتهاء بكل قضايا التحرر في العالم… وضمن ذلك كانت الشخصيات تتوزع بين المواطنين البسطاء الغرباء المنفيين الذين يواجهون جحيم العيش اليومي، وارتباكات الحاضر الصعب، بجوار أسماء من التراث العربي والعالمي التي تقترح تركيبا مجازيا لمحنة الإنسان المعاصر مثل الحجاج بن يوسف الثقفي والخنساء ويوسف بن تاشفين وفاوست وسنمار وغيرهم. نقرأ ذلك في جميع مسرحياته، وضمنها ما صدر في كتب مثل «حنظلة والموازين المختلة» (2017)، «تماضر ومعزوفات اللاجئين» و»عرس الحجارة» (2019)، «حرث الريح» (2020)، «فاوست يخسر لعبة الشطرنج» (2022) ثم «الصرخة الأخيرة» (2023).
شعريا، أعتبر محمد فراح، سليل التجربة الشعرية كما تطورت بدايةَ السبعينيات.
كان في البدء مسكونا بأشعار فدوى طوقان ومحمود درويش وأحمد دحبور… ثم تطور متنه لينخرط في تجربة القصيدة المغربية الحديثة مع الإبقاء على مراودة الشعر العمودي، من حين لآخر، ودون أن يتخلى عن جنوحه الغنائي وهواه الرومانسي. بعد ذلك نضج المتن ليعرف تطورات في الأسلوب، وفي تناول القضايا كما يرصد ذلك ديواناه الصادران حديثا: «كحلم يقبل الغمام» (2020) و»أحلام في مآقي الأرق» (2021). ضمن الإطار ذاته ساهم محمد فراح في إثراء تجربة الشعر الغنائي، والشعر المكرس للأطفال كما في مجموعته «أناشيد البراعم» (2006).
أشير هنا إلى تنويع آخر عزز مساره الإبداعي.يتعلق الأمر بالإسهام في إثراء التجربة النقدية عبر إصدار كتب حول الشعر والمسرح بأثر أكاديمي: «المسرح المغربي بين أسئلة الكتابة الإبداعية والممارسة النقدية» (2000)، «الخطاب المسرحي وإشكالية التلقي» (2006)، «الخطاب المسرحي وإشكالية القراءة» (2018)، «الأدب وجماليات التلقي (2019)، «دراسات نقدية في المسرح المغربي» ثم «جماليات المعنى الشعري» (2023)، مثلما كان قد خاض، سنة 1983، تجربة الكتابة للسينما من خلال إنجاز سيناريو وحوار فيلم «الورطة» بإخراج مصطفى الخياط.
وبعد،
هذه فقط بعض المسالك من سِفْر الصداقة كما نسجناه معا، وكما أرساه رئيسنا الدكتور الحاج محمد فراح في الإبداع والحياة. وأشهد أنه كان، على امتداد العمر والتجارب، رفيقا طيب المحتد بيد كريمة وبقلب مفتوح، بسعة السماء، على كل المصاريع لمشاريع وأفكار سمحت لنا بتشكيل أسرة واحدة نرعاها بما يكفي من الالتزام والوفاء، و بما يلزم من طاقة الإيمان بالمستقبل.
بهذا المعنى كان هذا الصاحب مدرسة بما يعنيه هذا الفضاء السامي من دلالات رفيعة حيث الأخلاق متجاورة مع صفاء السريرة ونبل المسلك وعفة اللسان. وبهذا المعنى كذلك ظل صاحبي قريبا من أحد معاني الصداقة بالشكل الذي حدده أرسطو، في القرن الرابع قبل الميلاد، مميزا بين ثلاثة أنواع هي صداقة المنفعة وصداقة اللذة، ثم صداقة الفضيلة التي لا ترتبط بربح ما، أو بمتعة زائلة كما في النوعين الأولين، ولكن بالمشترك القيمي الإنساني.
لذلك يطيب لي أن أؤكد، بملء الاعتزاز والفخر، أننا حين نعبر الطريق السالك أو الموحش نكون دائما في حاجة إلى بعض القناديل التي تضيء العتمات.
محمد فراح كان، بالنسبة إليّ، أحد تلك القناديل.