بين موشيه زيمارمان وتيلر كوين
لن يكون السؤال صعبا. ولن يكون أيضا مثار تناذر واهتياج، من قبل الباحثين في علم الاجتماع السياسي. فالقضية أثمرت خلال الشهرين الأخيرين من عمر العام 2023، انشغالات جديدة في تسيير البنى الصراعية لمفهوم سلطة الاحتلال والقوة. إذ منذ انطلاق عملية المقاومة الفلسطينية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر الماضي، أعيدت صياغة أو تقييم «الصهيونية» كحركة يهودية، التي يعتبرها أنصارها « حركة تحرير وطنية لإعادة شعب مضطهد مقيم كأقليات في مجموعة متنوعة من الدول إلى وطن أجداده»، مؤلبة ضمير العالم ضدها، بعد تقليب تاريخ المعاناة (الاضطهاد) إلى ما يشبه محاكاة «الهولوكوست» الألماني بما تعززه آليات الفتك الإسرائيلية في قطاع غزة، وما ينتج عن هذا التقليب من جنوح إلى فرز حقائق مطمورة للتاريخ وملاحقته وتنميطه.
لقد تابعت، بشغف كبير، خلال أسبوع واحد من استمرار تفكك نظرية الصهيونية وانحسار تمدد هويتها القومية، رأيين قويين في منجز الفكر الغربي والإسرائيلي على السواء. الأول للمؤرخ الإسرائيلي موشيه زيمارمان، والثاني للمفكر الأمريكي تيلر كوين. وهما معا يجسدان وحدة ذاتية رمزية في الصراع التدميري الحالي الذي يتم تنفيذه في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
موشيه زيمارمان الذي يشغل كرسي مركز ريتشارد كوبنرمينيرفا للتاريخ الألماني في الجامعة العبرية في القدس، منذ العام 1986، هو من بين أهم الأكاديميين الإسرائيليين المهتمين بالتاريخ الاجتماعي لألمانيا في القرنين الثامن عشر والعشرين، بالإضافة إلى تاريخ اليهود الألمان ومعاداة السامية.وقد تمت محاكمة زيمرمان مرات عديدة لاتهامه بالتشهير في أعقاب التعليقات التي أدلى بها في عام 1995 بشأن المقارنات التي يعتقد أنه قد يتم إجراؤها بين المستوطنين في الخليل والشباب النازي، في أعقاب مذبحة الحرم الإبراهيمي لباروخ غولدشتاين،لكن الدعاوى القضائية المرفوعة ضده سقطت جميعها. يقول زيمارمان (في في مقابلة مع صحيفة «هآرتس» العبرية)، إن عملية «طوفان الأقصى» التي أطلقتها حركة حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر الماضي «كشفت فشل الإيديولوجية الصهيونية». وهو رأي نادر لصوت أكاديمي مرموق في صفوة النخب الفكرية الإسرائيلية. والأخطر في تفكير المؤرخ زيمارمان، أنه يعتبر حركة حماس قوة حاسمة، وأزاحت الستار عن وهم «إسرائيل التي لا تقهر»، مؤكدا أن «إسرائيل فقدت الأمن منذ 7 أكتوبر»، حيث «دمرت إحساس الإسرائيليين بالأمن».
يعيد الأكاديمي الإسرائيلي قراءة تاريخ الصهيونية، تأسيسا على الأهداف والوظائف التي تقوم عليها وتنهض بها. ويقول، «إنه إذا كان الهدف من تأسيس الصهونية هو تخليص اليهود في الشتات من الوضع الذي كانوا فيه (اضطهاد النازيين لليهود)»، فإن «هجوم حماس في 7 أكتوبر كان بمثابة نقطة تحول في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني»، وهو ما يفضي بداهة إلى “كشف فشل الإيديولوجية الصهيونية”..
هذا التوجه يدحض نظرية بنغوريون الذي كان يؤمن بأنه «من كان مؤمناً فيجب أن يعيش في إسرائيل، وكل يهودي يعيش خارجها فلا إله له»، وهو ما يشبه إلى حد بعيد زعوم الحق الإسرائيلي العقدي في أرض فلسطين، بما ينحو إلى مثالهم الشهير «بجلد الإبل الذي إذا عطش وجاع انكمش، وإذا شبع وارتوى تمدد».
واللافت في رأي موشيه زيمارمان، اعترافه بفشل الصهيونية، وارتداد أفكارها وعودة الخوف إليها، حيث اعتبر الصهيونية خارج الحل المثالي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مستنتجا بجرأة «إننا ذاهبون إلى وضع يعيش فيه الشعب اليهودي في حالة من انعدام الأمن التام، وهذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك.»، مادامت إسرائيل عاجزة عن ضمان أمن الشتات اليهودي، وهو ما يضعف «الحل الصهيوني» ويجعله منقوصا».
وإذا كان الإسرائيليون يثيرون هذا الشكل من النظر، في اعتبار الصراع الأبدي هو جزء من العقيدة الصهيونية، واستمرارها هو مهمة إلهية قبل أن تكون سياسية، فإن زيمارمان، يذهب إلى أكبر من ذلك وأكثر، إذ يشبه الأعمال التي يمارسها بنو جلدته، شبيهة تماما بالنازية ضد الفلسطينيين (الإبادة)، وهو ما يحتمل قيام الفلسطينيين بنفس الأفعال درءا لما يقاسونه «أن يفعل الفلسطينيون ذلك (بنا)».
الرأي الثاني جاء على لسان المفكر الأمريكي تيلر كوين، وهو أستاذ كرسي هولبرتإل.هاريس في قسم الاقتصاد بجامعة جورج ماسون الأمريكية، المدير المشارك لمدونة “الثورة الهامشية” على الإنترنت، وكاتب عمود «المشهد الاقتصادي» في صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، والذي يحتل المركز 72 في قائمة مجلة «فورين أفيرز» (شؤون خارجية) لأهم 100 مفكر عالمي. يرى كوين(في تحليل نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء) أن الدرس الأبلغ من هذه الحرب هو «أن القدرة على الردع لم تعد بنفس القوة التي كنا نتصورها، وإن الإصرار مع إيمان المرء بقضيته وتشبثه بالدفاع عنها يمكن أن يتفوق على القوة العسكرية الكاسحة للخصم».
ولا يتردد كوين في اعتبار الجيش الإسرائيلي يتمتع بالقوة والهيمنة العددية والآلية، أقوى بكثير مما تتمتع به حركة «حماس»، لكنه يستطرد أن هذا الواقع»لم يمنع قوة الجيش الإسرائيلي “حماس» من مواصلة ضرباتها داخل إسرائيل، لافتا في إطار مقارنته بين الصراع الإسرائيلي والفلسطيني والروسي والأوكراني، إلى أن «الولايات المتحدة التي تعتمد على الردع لدعم العديد من حلفائها»، «ستتقبل هذه النتيجة بسوء وللعالم أجمعه»، «لأن الردع ـ حسب نظره ـ يدعم النتائج السلمية والحفاظ على الوضع القائم..»
المسألة الأخرى التي يستقيها المفكر الأمريكي تيلر كوين، هي ما يسميه ب»المكاسب الهائلة التي يمكن تحقيقها في التكنولوجيا بسرعة»، حيث إنه «قبل عام، أو حتى أشهر قليلة، لم يكن أغلب الناس يدركون أن الذكاء الاصطناعي، وبخاصة منصة المحادثة الآلية شات جي.بي.تي4، سيؤدي إلى تحولات كبيرة متعددة الأبعاد بهذا الشكل. والآن؛ يتوقع الخبراء أن يتفوق الذكاء الاصطناعي على الإنسان في أغلب مجالات التفكير، خلال أقل من 10 سنوات. وهناك الكثير من الخبراء من يتوقع حدوث ذلك خلال أقل من 3 سنوات»، وهو ما يمنح قوة إضافية نوعية لتعاظم استعمال «الذكاء الاصطناعي» و»التكنولوجيا الحربية السريعة» في الحروب الجديدة. لكن كوين، لم يشر إلى أضرار هذا التمثل المروع لاستغلال التدمير الآلي تجاه الإنسان، وتناقض المنظومة الديمقراطية إزاء هذا التحول، في الوقت الذي تشكك الآليات الأممية بمختلف توجهاتها وأوضاعها الإدارية والتدبيرية، في نجاعة القوانين الدولية وقوة تنزيلها وإحلالها؟.
والمثير في هذا التوجه لدى الأكاديمي الأمريكي، هو الانحياز المكشوف للآلية العسكرية الإسرائيلية والغربية المدعمة، وتجاهله للتفوق التكتيكي الميداني للمقاومة الفلسطينية، رغم حصارها وتجويعها وتزييفها إعلاميا وأيديولوجيا، وهو أمر لا يؤطر تسويغه المعرفي بالأوضاع وعلاقة ذلك بنفسية «المقاومة»، وتحررها من منطق قوة «العدد والعدة»، إلى ما يصفه كوين بميسم «الإيمان»، الذي يتفوق على كل شيء.
لكن الجدير بالاهتمام، أن يؤسس كوين منطقه العقلاني والعلمي، من كون»الحوكمة غير مهمة حتى يثبت العكس»، مستدلا بما شهدته ردهات الجامعات الأمريكية مؤخرا، وما استفاضته به ساحاتها منجدل «معاداة السامية» وارتباط ذلك كله بمفهومي «الحرم الجامعي» و»الحرية الأكاديمية»، إلى ما يسري على التعليم الجامعي الأمريكي وسلامة الطلاب وضمان تعزيز ثقافة التبادل الثقافي وما على ذلك.
وقال كوين في هذا المضمار، إن كل ذلك «يمثّل كارثة لصورة التعليم الجامعي الأمريكي. فما يحدث في الجامعات الأمريكية حالياً يعني، على الأقل، أن أداءها سيئ».
القولان يجدان أثرهما في الإقبال المفتوح على التعدد الفكري، وانتعاش دورة الصراع الحضاري من جديد، بعد أفول مؤقت فرضته الزمنية السياسية الدولية، طيلة حقبتين كارثيتين، أو أكثر، من أفغانستان إلى العراق ، ثم فصل الربيع العربي الأسود. وتنفعل هذه القابليات النقاشية المستديمة، رغما عن أنف «الإسلاموفوبيا» المستعرة والمتواطئة مع متلازمة «النظرية الإسرائيلية» ـ معاداة السامية ـ.
إنها دورة لا تهم موشيه زيمارمان وتيلر كوين فقط، لأنهما أشبعاها قضما واحتدادا، بعد نفض الغبار عما سبق وأن عكسه سابقاهما، صامويل هنتنغتون وفرانسيس فوكوياما، في اعتبار تقييد الأنظمة المؤثرة في صراع الحضارات، بما يلزم لتأسيس النظام العالمي الخامس،الشاهد على تمكين الإمبراطوريات الصناعية الكبرى؛ من الانتقال بالعالم إلى التبعية وتقييد الأحلام وتسطير الوجود؟، فالعالم الجديد الذي تتروعه مفاجآت ما بعد الحرب على غزة، لن يتمكن من ادخار ما تختزله مفكرات علماء الاجتماع والسياسة وتحليلاتهم في علوم المنطق والرياضيات والفيزياء، لأن القضية المركزية في التفكير الأممي الجديد ستنهض لا محالة على تصنيف «قوة القيم» و»الأخلاق المرجعية» و»تقديس المقاومة» ضدا على «الردع الفاشستي» و»التدمير الوحشي» و»التهجير والقتل»، دون أن يعني ذلك طبعا، وفي الوجهة المعاكسة، أن يكون لطفرة «الذكاء الاصطناعي» يد آثمة في هذه الجرائم، وسياق امتدادي لحصر البشرية في ما ينتظرها ويقض من مضاجعها. فالأمل ألا تصمت الشعوب عما يلحق بمنظوماتها الحكمية،وأن تستعيد زخمها الثوري لقيادة العدالة والكرامة والمساواة إلى الوجهة السليمة.