مع تسارع الزمن وتغير أنماط الحياة أصبح تراثنا وعاداتنا كمغاربة والتي ورثناها أبا عن جد، خصوصا عاداتنا في شهر رمضان، والتي حافظنا عليها لأجيال، تنقرض شيئا فشيئا بل أصبح بعضها ملكا مشاعا تترامى عليه أعين المتلصصين ولصوص التاريخ، فهل مع هيمنة الهاتف والانترنيت على يومياتنا سننسى وستنسى الأجيال القادمة هذا التراث وستهديه لقمة سائغة لكل جائع فقير ؟هل ستمر سنوات ستنسى بعدها كيف نستعد لليالي رمضان الطويلة، كيف نجهز أكلاتنا الخاصة به وبكل منطقة من مناطق بلادنا التي تختلف في عادتها وأطباقها ولكنها تتلاقى في انتمائها وفخرها وتتوحد تحت سماء مغرب واحد متماسك. هل سنحافظ على تلك «اللمة» المميزة التي تؤثث مساءاته؟ أم أن الهاتف المحمول أخذ على عاتقه مهمة حملنا بعيدا إلى ركن قصي نوزع فيه «لايكاتنا»بسخاء على كل غريب بعيد، بينما نشيح النظر عن أقرب القلوب إلينا؟ وهل ستفقد أسواقنا روائحها في غمرة ما تعرفه سنواتنا العجاف من غلاء فاحش؟ هل سنفقد رائحة ماء الزهر، وعبير الجلجلان وعطر التوابل المطحونة التي تملأ الأجواء في أسواقنا وقيسارياتنا، لتنفذ دون استئذان إلى أنوفنا وتعيدنا لننغمس في ذكرياتنا الجميلة المرتبطة باستعدادات الأسر والأمهات التي تبدأ قبل أسابيع كثيرة من الشهر الفضيل؟
هنا في هذه الحلقات نحاول التذكير ببعض تقاليدنا وبعض أطباقنا وعادتنا التي لا يزال من بينها المحتفظ بمكانته لدى المغاربة فيما بدأ البعض الآخر في الاندثار والتواري والتعرض لمحاولات السرقة والسطو مع سبق للإصرار والترصد…
لا بد أن ينتاب الزائر للأقاليم الصحراوية المغربية شعور بالفخر والاعتزاز لما يلاحظه من تقدم وعمران بهذه المدن، خصوصا بمدينة العيون. جمال وحسن تنطق بهما البنايات المختلفة، وتناسق المساحات الخضراء، ورونق النافورات. فالتقدم التنموي والعمراني بهذه المدن التي أضحت نموذجا حيا للتحول الحضري والاقتصادي في المنطقة يعكس الرؤية الاستراتيجية للمغرب في تنمية هذه الأقاليم وتحويلها إلى مراكز حضرية متطورة. لكن ما يلفت الانتباه أكثر هو الإنسان الصحراوي الذي لا تغادر كلمة “مرحبا” شفتيه، في تجسيد كبير للكرم والترحاب. كما لا يمكن للزائر إلا أن يلاحظ أن مظاهر التقدم والعمران لم تنس أهلنا هناك تقاليدهم وثقافتهم الضاربة جذورها في أعماق كل شبر من صحرائنا المغربية. مظاهر نلاحظها في اللباس، والمأكل، والمشرب، وطريقة الاستقبال، والخيمة الصحراوية المتميزة، لقد تصادفت آخر رحلاتي إلى الصحراء المغربية مع أول يوم من أيام رمضان، وهذا ما دفعني لأن أسائل أهل الصحراء عن طقوس استقبالهم لهذا الشهر الكريم، وجاء الجواب من لحبيب عيديد الباحث في الثقافة الحسانية وعضو اتحاد كتاب المغرب الذي قدم لنا شرحا مفصلا عن مختلف مظاهر احتفالات المغاربة بأقاليمنا الصحراوية بشهر رمضان الكريم، وقال في هذا الصدد:” من المعلوم أن أهل الصحراء، كما كل مكونات المجتمع المغربي، اقتنعوا بالإسلام دينا وتفاعلوا معه بشكل تلقائي، ولا غرابة في ذلك لأنهم يعيشون في بيئة مشابهة للبيئة التي ظهر فيها الإسلام، وفروا للدين مكانة خاصة في حياتهم، وجعلوه عنوانا ورمزا لهويتهم، لذلك كان لرمضان وقعه عليهم، فحرصوا على عادات تبين أنهم في شهر استثنائي يتطلب برنامجا يجمع بين أداء الالتزام الديني وبين الترويح عن النفس.
لم يكن الاستعداد لشهر رمضان زمن البداوة والترحال عند أهل الصحراء بإعداد ما لذ وطاب من المأكولات، بل يتم بتحضير كمية مناسبة من المكَـلي والتمر والسكر والشاي الذي يُـعدُّ من أكثر المشروبات التي يحرص أهل الصحراء على توفيرها بكميات تفوق الحاجة في بعض الأحيان.
في بداية رمضان يحرص الصحراويون على صلة الرحم، ومنهم من يستدعي أفرادا من أقاربه لقضاء شهر الصيام في جو العائلة، فتخيم الألفة بين الأفراد وبين الأسر، ويشعر الصائم في الصحراء فعلا بمعاني أخوة الدين، رمضان عند أهل الصحراء فرصة ثمينة لرأب الصدع بين الأسر والقبائل، والتربية على الأخوة والمحبة.
وبعد الانتهاء من مختلف الأشغال وأداء الفرائض الدينية يفتح المجال لألعاب تُلعب حصريا في الصحراء، ومنها لعبة السيكَـ وظامة، إلى جانب ألعاب حديثة كمرياس ودومينو وغيرها”.
وعن الوجبات التي تميز هذا الشهر قال لحبيب عيديد إن “حاضر المجتمع الصحراوي يتجسد في تنوع وغنى الوجبات الغذائية، وما يزيدها سحرا هو الأطباق الرمضانية المتنوعة والشهية التي تؤثث موائد الإفطار، إذ تحرص البيوت في جنوب المملكة على أن يكون حساء الحريرة وجبة رئيسية مرفوقة بـ”الشباكية” ومختلف الحلويات والعجائن والتمور والسمك والبيض مشكلة على المائدة لوحة فسيفسائية.
وتجتمع الأسر الصحراوية على المائدة ساعة الإفطار، في تناغم بين الأجيال وفي مزج فريد بين التقاليد الغذائية المرتبطة بمجتمع البداوة والترحال وبين متطلبات العصر”.
الشاي في الصحراء حكاية أخرى فكل طقوسه بما فيها طريقة تجهيزه والوقت الذي يتطلبه ذلك وأوانيه ومهارة معده الذي يتفنن في صبه في كأس صغيرة ثم يعيد صبه مرات ومرات من كأس إلى أخرى ومن الكأس إلى البراد إلى أن يجهز وتتكون تلك الرغوة التي تميزه، كل هذا الطقوس المصاحبة لجلسة الشاي تثير الانتباه ولا يمكن أن يتجاهلها الزائر الغريب عن المنطقة، يقول لحبيب عيديد:” لا يعتبر الشاي عند أهل الصحراء مشروبا تقليديا فحسب، بل ممارسة شعبية تعكس أصالة مجتمع بدوي يقدس الشاي في محراب “آدواخْ”. ويضرب إليه أكباد الإبل مِن مسافاتٍ بعيدة، وقد تمضي به السبل إلى أنْ يُقايضَ بِـ”شيخة لمراحْ” مقابل الحصول على شُعَيْراتٍ مِنَ الورْگة، تسد رمقَ آتْرِي الذي قد يطال كُلَّ مولَعٍ بشرب شاي صحراوي أصيل .
يتميز الشاي في ثقافة الصحراء بجيماته الثلاث، فالأولى جيم (الجماعة) إذ يُستحسنُ تناول الشاي مع مجموعة من الناس لتمتين الروابط العائلية والقبلية، والثانية جيم (الجر) بالنظر إلى ضرورة إطالة المدة الزمنية قصْد تحضير الشاي وإتاحة الفرصة للجماعة لمناقشة كافة شؤون الحياة بهدوء وروية، وأما الثالثة فجيم (الجمر) حيث يكون موقد الفحم في أقصى درجات الاشتعال استعدادا لتسخين أكواب الشاي .
وتبرز أهمية الشاي ومكانته داخل المجتمع المحلي، باعتباره عنوانا للكرم، فالإنسان الصحراوي يدعو ضيفه إلى منزله بقوله “يالاهْ نتييُّو” (هيا بنا نشرب الشاي)، إلا أن الأمر يتعلق في الغالب بوليمة كاملة تضم ما لذ وطاب من طعام وشراب.
يحرص أهل الصحراء على تناول الشاي ذي الجودة العالية، لاسيما في فترة العصر “أتاي ادحيمس”، الذي يساعد على الهضم بعد وجبة دسمة، وكذا إراحة النفس والأعصاب وفقا لمقولة محلية شهيرة “أتاي يگْـلعْ ادواخ”، أي أن الشاي يزيل آلام الرأس.
وتظل عادة احتساء كؤوس الشاي بلونها المذهب الذي تعلوه فقاعات ناصعة البياض، تأكيدا لتشبث الإنسان الصحراوي بأحد أبرز مظاهر هويته المحلية، التي تمثل بدورها أحد روافد الحضارة المغربية العريقة”.
يتبع…