ذاكرة المغرب: سفر عبر تراث لن يندثر -02- الأطباق المغربية تاريخ لا يُزوّر وإرث أصيل لا يُشارك

مع تسارع الزمن وتغير أنماط الحياة أصبح تراثنا وعاداتنا كمغاربة والتي ورثناها أبا عن جد، خصوصا عاداتنا في شهر رمضان، والتي حافظنا عليها لأجيال، تنقرض شيئا فشيئا بل أصبح بعضها ملكا مشاعا تترامى عليه أعين المتلصصين ولصوص التاريخ، فهل مع هيمنة الهاتف والانترنيت على يومياتنا سننسى وستنسى الأجيال القادمة هذا التراث وستهديه لقمة سائغة لكل جائع فقير ؟هل ستمر سنوات ستنسى بعدها كيف نستعد لليالي رمضان الطويلة، كيف نجهز أكلاتنا الخاصة به وبكل منطقة من مناطق بلادنا التي تختلف في عادتها وأطباقها ولكنها تتلاقى في انتمائها وفخرها وتتوحد تحت سماء مغرب واحد متماسك. هل سنحافظ على تلك «اللمة» المميزة التي تؤثث مساءاته؟ أم أن الهاتف المحمول أخذ على عاتقه مهمة حملنا بعيدا إلى ركن قصي نوزع فيه «لايكاتنا»بسخاء على كل غريب بعيد، بينما نشيح النظر عن أقرب القلوب إلينا؟ وهل ستفقد أسواقنا روائحها في غمرة ما تعرفه سنواتنا العجاف من غلاء فاحش؟ هل سنفقد رائحة ماء الزهر، وعبير الجلجلان وعطر التوابل المطحونة التي تملأ الأجواء في أسواقنا وقيسارياتنا، لتنفذ دون استئذان إلى أنوفنا وتعيدنا لننغمس في ذكرياتنا الجميلة المرتبطة باستعدادات الأسر والأمهات التي تبدأ قبل أسابيع كثيرة من الشهر الفضيل؟
هنا في هذه الحلقات نحاول التذكير ببعض تقاليدنا وبعض أطباقنا وعادتنا التي لا يزال من بينها المحتفظ بمكانته لدى المغاربة فيما بدأ البعض الآخر في الاندثار والتواري والتعرض لمحاولات السرقة والسطو مع سبق للإصرار والترصد…

أطباقنا المغربية تاريخ قائم الذات، طبخنا عرس بهيج في فم كل ذواق، نكهاته موجة رقراقة تغرق فيها الحواس طوعا وحبا واشتياقا، مكوناته مستخلصة من أرض طيبة معطاء، أشجار تمتد جذورها في الأعماق، نباتات عطرية وخضر طازجة وفواكه وكل ما تشتهيه الأنفس، مطبخنا المغربي قصة من قصص ألف ليلة وليلة لا تنتهي واحدة حتى تبدأ الأخرى، يرويها طهاة مغاربة مهرة، رجالا ونساء، أمهات وجدات، توارثوا تفاصيلها منذ سالف العصر والأوان، وحفظوا أسرار طبخها في قلوبهم وبين ثنايا الفؤاد، لكن عصر الأنترنيت فعل الأفاعيل، وفتح الباب مشرعا أما لصوص همهم نسب كل ما هو جميل لهم وهو منهم براء، وهذه بعض المنصات والمواقع مثل موقع «ويكيبيديا» ينشر الافتراءات ويعمم الأكاذيب، تحت سبق الإصرار والترصد، وأصبح التدليس شيمة يتغطى بها كل مرتعش أفاق، فهذه الحريرة،مثلا، حساء رمضان المغربي الصرف، صار بفعل فاعل أرثا مع دول أخرى، رغم أن أكثرهم لم يكن يعرفه ولم يسبق له أن زار موائدهم ولا صب في أوانيهم، ولكنهم يصرون على نسبه إليهم، أو اقتسام نسبه، دون حياء و لا خجل..
تاريخيا، كان أول مصدر تاريخي ذكر الحريرة المغربية في عصر بني مرين قبل سنة 750ه، وذكره الرحالة المغربي ذائع الصيت ابن بطوطة في كتابه «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، وهو الكتاب الذي جمع فيه عصارة ما رآه وشهده في أسفاره ورحلاته التي زار فيها مغارب الأرض ومشارقها وتعرف على أقوام وحضارات وأجناس من إفريقيا والهند وبلاد الروس والترك. وفي تدوينة للطباخ المغربي الهواري الحسين الذي كان قد أخذ على نفسه مهمة التعريف بتاريخ الطبخ المغربي كتب « ابن بطوطة يصف الهند وطعام سكانها ( ووصفه طويل مشوق نقتطف منه هذه الجملة المفيدة ) «أن فطورهم يشبه نوعا ما فطور سكان المغرب بالحريرة وهذا تشبيه أورده المؤلف في سياق حديثه عن أطعمة أهل الهند ( وعليه يفطرون كل يوم، وهو عندهم كالحريرة ببلاد المغرب )، كما جاء في الجزء الثاني من كتاب «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار».للرحالة المغربي ابن بطوطة الذي عاصر حقبة بني مرين والسلطان المريني أبو عنان صاحب الأمجاد المعروفة».
«وابن بطوطة هو محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة، ولد في 24 فبراير 1304 – 1377م بطنجة) (703 – 779هـ) هو رحالة ومؤرخ وقاض من قبيلة لواتة، لقب بـأمير الرحالين المسلمين. خرج من طنجة سنة 725 هـ فطاف بلاد المغرب ومصر والحبشة والشام والحجاز وتهامة ونجد والعراق وبلاد فارس واليمن وعمان والبحرين وتركستان وما وراء النهر وبعض الهند والصين الجاوة وبلاد التتار وأواسط إفريقيا. واتصل بكثير من الملوك والأمراء فمدحهم – وكان ينظم الشعر – واستعان بهباتهم على أسفاره، والكنية «ابن بطّوطة» هي كنية أطلقها الفَرَنجة على محمد بن عبد الله الطنجي، وتابَعَهم أكثر الناس.
عاد إلى المغرب الأقصى، فانقطع إلى السلطان أبي عنان (من ملوك بني مرين). وأملى أخبار رحلته على محمد بن جزي الكلبي بمدينة فاس سنة 756 هـ وسماها «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، ترجمت إلى اللغات البرتغالية والفرنسية والإنجليزية، ونشرت بها، وترجم فصول منها إلى الألمانية ونشرت أيضا. كان يحسن التركية والفارسية. استغرقت رحلته 27 سنة (1325-1352م) وتوفي في طنجة سنة 779 هـ/1377م حيث يوجد ضريحه بالمدينة القديمة. تلقبه جامعة كامبريدج في كتبها وأطالسها بـأمير الرحالة المسلمين الوطنيين.» مقتطف من مدونة الشاف الهواري الحسين.
الحريرة ليست سوى صفحة واحدة من كتاب طبخ كثير الصفحات والفقرات والأسطر بل موسوعة شاملة كاملة، تشمل أطباق ذائعة الصيت بوأت الطبخ المغربي المكانة المرموقة بين الأمم بشهادة طهاة عالميين، أطباق يحاول البعض السطو عليها بكل برودة أعصاب، والحريرة التي ذكرناها هنا كأبسط مثال تتسيد مائدة رمضا داخل كل الأسر المغربية هي ليست إرثا مشتركا، وهي تظل جزءا لا يمكن فصله عن الموروث المغربي، وتاريخها يعود إلى عصر بني مرين أو ربما قبله كما يروي ابن بطوطة في كتاب أسفاره، كما أن أوانيها الخزفية المصنوعة من الطين المغربي والمزخرفة بأنامل الصناع المغاربة الموهوبين في مدن فاس وآسفي وغيرها، والمغارف الخشبية المصنوعة من شجرة البرتقال، وبهاراتها وقوامها المميز، كلها تجتمع لتكون طقسا مغربيا خاصا وخالصا وقيمة ثقافية تتعدى كونها أكلة عادية بل تجربة حقيقية مرتبطة بهوية شعب وأرض.


الكاتب : خديجة مشتري

  

بتاريخ : 17/03/2025