ذاكرة المغرب: سفر عبر تراث لن يندثر -08- الإبل والدراعة والطبخ الصحراوي تراث صامد في وجه تحديات العصر

مع تسارع الزمن وتغير أنماط الحياة أصبح تراثنا وعاداتنا كمغاربة والتي ورثناها أبا عن جد، خصوصا عاداتنا في شهر رمضان، والتي حافظنا عليها لأجيال، تنقرض شيئا فشيئا بل أصبح بعضها ملكا مشاعا تترامى عليه أعين المتلصصين ولصوص التاريخ، فهل مع هيمنة الهاتف والانترنيت على يومياتنا سننسى وستنسى الأجيال القادمة هذا التراث وستهديه لقمة سائغة لكل جائع فقير ؟هل ستمر سنوات ستنسى بعدها كيف نستعد لليالي رمضان الطويلة، كيف نجهز أكلاتنا الخاصة به وبكل منطقة من مناطق بلادنا التي تختلف في عادتها وأطباقها ولكنها تتلاقى في انتمائها وفخرها وتتوحد تحت سماء مغرب واحد متماسك. هل سنحافظ على تلك «اللمة» المميزة التي تؤثث مساءاته؟ أم أن الهاتف المحمول أخذ على عاتقه مهمة حملنا بعيدا إلى ركن قصي نوزع فيه «لايكاتنا»بسخاء على كل غريب بعيد، بينما نشيح النظر عن أقرب القلوب إلينا؟ وهل ستفقد أسواقنا روائحها في غمرة ما تعرفه سنواتنا العجاف من غلاء فاحش؟ هل سنفقد رائحة ماء الزهر، وعبير الجلجلان وعطر التوابل المطحونة التي تملأ الأجواء في أسواقنا وقيسارياتنا، لتنفذ دون استئذان إلى أنوفنا وتعيدنا لننغمس في ذكرياتنا الجميلة المرتبطة باستعدادات الأسر والأمهات التي تبدأ قبل أسابيع كثيرة من الشهر الفضيل؟
هنا في هذه الحلقات نحاول التذكير ببعض تقاليدنا وبعض أطباقنا وعادتنا التي لا يزال من بينها المحتفظ بمكانته لدى المغاربة فيما بدأ البعض الآخر في الاندثار والتواري والتعرض لمحاولات السرقة والسطو مع سبق للإصرار والترصد…

 

تعتبر الدراعة الزي الذي يميز رجال الصحراء عن غيرهم في مختلف ربوع المملكة، حيث لم تستطع الملابس الحديثة أن تزيحها من مكانتها المتميزة لدى الرجل الصحراوي الذي ارتبط بها ارتباطه بالأرض وبموروثه الثقافي وطريقة عيشه، ورغم زحف الحضارة وتغلغلها شيئا فشيئا في معيشه اليومي ويومياته إلا أنه بقي وفيا لها متشبثا بارتدائها الفخم في جميع المناسبات حتى ولو تبوأ أعلى المناصب. لقد ارتبطت الدراعة، يقول الباحث في التراث الحساني لحبيب عيديد، ارتباطا وثيقا ببادية الصحراء حتى أصبحت رمزا لها، والدراعة هي الثوب التقليدي للرجال، تميّز هذا الزي بالصمود في وجه التحديثات والعولمة، فظلّ يتحدّى كل المتغيّرات، ورغم التقدّم الحاصل في الأزياء ودور العرض، فإن الدراعة لا تزال هي زيّ الرجل الصحراوي الأوّل مهما بلغ تحضّره ومهما تبوّأ من مناصب، فلم تستطع البدل الرسمية والملابس الحديثة أن تزعزع مكانتها لما تضفيه على مرتديها من فخامة وأناقة.
ولا يجد الصحراوي أي مشكلة في القيـام بأكثر الأعمال تعقيدا وهو يرتدي ملابســه التقليديــة التي قد توحـــي بالتثاقل والتنافي مع الخفة والسلوك العملي ومتطلبات عصر السرعة.
ويرتدي الرجل الصحراوي أسفل “الدراعة” سروالا فضفاضا يقارب الشكل الحالي للسراويل التقليدية بشمال المملكة، ويخاط من سبعة أمتار تقريبا، يتدلى حزامه إلى أن يلامس الأرض، ويسمى “لَـگْـشَاطْ” ويصنع من الجلد الناعم به حلقة حديدية تسمى الحَــلْگَــة.
يكاد اللثام يكون أهم قطعة ضمن مكونات زي الرجل الصحراوي، الذي اعتاد أن يستعين باللثام لأغراض متعددة، أثناء حله وترحاله على السواء. فاللثام يعتبر بمثابة مظلة يستعين بها الرجل لوقاية رأسه من حرارة الشمس، وقد يستعمل اللثام كلحاف خفيف عند النوم زمن الصيف، أو منشفة عند غسل الوجه أو اليدين، هذا فضلا عن قيمته الإضافية والجمالية المصاحبة لارتداء الدراعة. ويضع الصحراوي على رأسه اللثام الأسود، الذي يخضع لتفسيرات متباينة فمنهم من يعتقد بأنه يرمز للحياء، أو للوقاية من حرارة الشمس وقساوة البيئة.
الدراعة يرتديها الرجل الصحراوي حتى هو وهو يمارس الألعاب الرياضية المختلفة التي تتميز بها الصحراء، ومنها تلك التي تمارس من فوق ظهور الجمال حيث لا تشكل عائقا أمامه للسعي الحثيث نحو الهدف أو لربح الخصم في لوحة متناغمة بديعة ونادرة، فالرجال الصحراويون يتقنون هذه الألعاب بكل رشاقة ومهارة، مما يعكس ارتباطهم العميق بتراثهم وتاريخهم، تتجلى هذه القيم في مختلف المنافسات، ولا سيما في لعبة “اللَّز، لَزْ لْبَلْ”، حيث تنطلق مجموعة من الإبل بسرعة متزايدة عبر مضمار رملي، بينما يتشبث الفرسان بأسنامها ويطلقون صيحات تشجيع لحثها على الركض. تعكس هذه الرياضة الشعبية مقومات القوة والشجاعة والصبر والتحدي التي تميز الإنسان الصحراوي، كما تسلط الضوء على ارتباطه الوثيق بالجمل.
أما لعبة “الثود”، فهي رياضة تقليدية تمارس على ظهور الإبل، إذ يمتطي كل لاعب جمله ويتبادل الكرة مع زملائه وسط أجواء تنافسية مليئة بالحماسة. وتعكس هذه اللعبة روح التضامن والتآزر بين الأصدقاء والجيران، حيث يجتمع الجميع في رحاب الرمال الذهبية، ليستمتعوا بلحظات رياضية مفعمة بالإثارة، دون أن تخرج عن إطار قيم الكرم والضيافة التي تميز الثقافة الصحراوية.
هذا النمط الرياضي هو شاهد حي على التماسك الاجتماعي والهوية الصحراوية المتجذرة، كما أنه إرث ثمين يعكس عمق الانتماء ويفتخر به أبناء الصحراء جيلا بعد جيل…
الاعتزاز بالجذور يتجسد أيضا في ارتباط أهل الصحراء بالإبل، وهي ليست مجرد وسيلة نقل أو مورد اقتصادي لأهل الصحراء، بل هي رمز للهوية والثقافة والتاريخ. فمنذ قرون، كانت الإبل رفيقة الصحراويين في رحلاتهم الطويلة عبر الرمال، تمنحهم الحليب واللحم، وتساعدهم في التنقل وتحمل أعباء السفر. بل إن مكانة الإبل تتجاوز الجانب العملي لتصبح جزءا من التراث والوجدان، حيث تتجسد في الأشعار والأمثال وحتى في المنافسات التقليدية مثل سباقات الهجن ومهرجانات الإبل، وهي أيضا مهر ثمين يقدمونه لزوجاتهم، في تعبير جلي عن المكانة والقيمة التي تحظى بها المرأة في المجتمع الصحراوي.
لحوم الإبل لا بد أن تؤثث موائد الصحراويين في رمضان وغيره، يتفنون في طبخها بل يسعون إلى تثمينها باعتبارها جزءا من تراثهم وثقافتهم العريقة، إلى جانب مواد أخرى، سواء المتعلقة بالمطبخ أو مواد التجميل، التي تشكل أحسن سفير للتراث الحساني، والتي تعمل تعاونيات منتشرة في ربوع الصحراء المغربية على تثمينها والسعي للمحافظة عليها.من هذه الوجبات المشهورة في الصحراء والتي يتناولها الصحراويون في السحور على وجه الخصوص نذكر وجبة بلغمان، المعروفة بفوائدها الصحية الكثيرة،  وسرعة تحضيرها التي لا تتعدى عشر دقائق؛ إذ يكفي تسخين دقيق الشعير المطحون، المعروف محليا بـ “المكلي”، ثم وضعه في إناء خاص يسمى “الكدحة” أو “الجيرة”، ويتم مزج المسحوق بالماء الساخن مع السكر وقليل من الملح حسب الذوق، قبل أن يضاف إليه “الدهن” أي السمن، والذي من الممكن تعوضيه بـ “لودْكْ”، وهو شحم سنام الإبل مذاب ومصفى، وفي حالات أخرى، يمكن أن يعوض بزيت الزيتون.
وحسب ما أفادنا به رئيس تعاونية “أهل الجيد”بالسمارة، حيمداها عبدة، في اتصال هاتفي، فإن الصحراويين يعدون وجبات عديدة من لحوم الإبل مثل “تيشطار”، و”تيدكيت” و”لودݣ”، ” و”لحميس” و”لخليع.”، وهي الوجبات التي تسعى تعاونيته إلى تثمينها، وتعتبر هذه التعاونية من أكبر وحدات تثمين لحوم الإبل في الأقاليم الجنوبية للمملكة، والتي تعمل على إنتاج مختلف المنتجات الغذائية والتجميلية المستخلصة من لحم الإبل ودهن سنام الجمل التي يطلق عليها اسم “الدروة”.
وعند سؤاله عن أحد المكونات التي يسميها أهل الصحراء بـ”الدسم” قال إن تعاونيته لا تختص في إنتاج هذا المنتوج ولكنه قدم لنا شروحات وافية حوله مؤكدا أنه عبارة عن زبدة الغنم (الماعز) التي يتم تذويبها على نار هادئة وتمريرها (تصفيتها) في ثوب أبيض معقم خاص بهذه المهمة، والذي يتم جلبه من الخارج، ثم تضاف إلى هذا الدهن أعشاب منسمة أو طبية، حسب الحاجة وبمعايير محددة، وهو يستخدم لمعالجة بعض أمراض الجهاز التنفسي أو الهضمي أو للأكل مرفوقا بالتمر، أما إذا تجاوز السنة وأكثر فإن الصحراويين يستخدمونه للدهن الخارجي فقط لمعالجة أمراض الروماتيزم أو غيرها .
تعاونية أهل الجيد التي تعد أكبر تعاونية في الأقاليم الجنوبية مختصة في تثمين لحم الإبل تم إحداثها سنة 2020، بدعم من وزارة الفلاحة والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وتمتد على مساحة 1500 متر مربع، ويعمل بها سبعة أعضاء و15 امرأة منحدرات من إقليم السمارة يقمن بتحضير أطباق مكونها الأساسي لحم الإبل .
ولتحضير “تيشطار”، تعمل نساء التعاونية على تقطيع لحم الإبل إلى شرائح دقيقة، قبل وضعها في الفرن لكي تجف.
أما في ما يتعلق بإعداد “لودݣ”، والذي يعتمد على سنام الإبل، فإنه يتم تقطيع السنام إلى مربعات صغيرة من الدهون تخضع في ما بعد لعمليات تقليدية للتذويب والتصفية، والتبريد.
وبالنسبة لـ “لحميس” فتقوم النساء بتجفيف القطع الصغيرة المتبقية بعد تذويب دهن الإبل على نار هادئة.
أما بالنسبة لـ “لخليع”، فيتم تقطيع اللحم بعد تجفيفه بالكامل، ويضاف الدهن المذاب والمقطر بدقة من سنام الجمل “لودݣ”.
التراث الصحراوي هو هوية نابضة بالحياة وبالأصالة وبثقافة أهل الصحراء، من الشاي والخيمة الصحراوية والدراعة والملحف والشعر الحساني إلى الإبل شريك أهل الصحراء في كل مناحي الحياة، وصولا إلى مختلف أنواع الرياضات وألعاب التسلية فضلا عن المطبخ الصحراوي الغني، كل ذلك يجتمع في حكاية أصيلة عن تراث مادي ولا مادي يجسد صمود الإنسان الصحراوي في وجه تحديات العصر والعولمة ويؤكد غنى التنوع المغربي وعمق جذوره، وضرورة الحفاظ عليه مسؤولية يتحملها الجميع لنقل مشعله بأمانة إلى الأجيال القادمة.

 


الكاتب : خديجة مشتري

  

بتاريخ : 26/03/2025