ذاكرة المغرب: سفر عبر تراث لن يندثر -4- الجلابة المغربية ونقاب الموسلين المطرز

مع تسارع الزمن وتغير أنماط الحياة أصبح تراثنا وعاداتنا كمغاربة والتي ورثناها أبا عن جد، خصوصا عاداتنا في شهر رمضان، والتي حافظنا عليها لأجيال، تنقرض شيئا فشيئا بل أصبح بعضها ملكا مشاعا تترامى عليه أعين المتلصصين ولصوص التاريخ، فهل مع هيمنة الهاتف والانترنيت على يومياتنا سننسى وستنسى الأجيال القادمة هذا التراث وستهديه لقمة سائغة لكل جائع فقير ؟هل ستمر سنوات ستنسى بعدها كيف نستعد لليالي رمضان الطويلة، كيف نجهز أكلاتنا الخاصة به وبكل منطقة من مناطق بلادنا التي تختلف في عادتها وأطباقها ولكنها تتلاقى في انتمائها وفخرها وتتوحد تحت سماء مغرب واحد متماسك. هل سنحافظ على تلك «اللمة» المميزة التي تؤثث مساءاته؟ أم أن الهاتف المحمول أخذ على عاتقه مهمة حملنا بعيدا إلى ركن قصي نوزع فيه «لايكاتنا»بسخاء على كل غريب بعيد، بينما نشيح النظر عن أقرب القلوب إلينا؟ وهل ستفقد أسواقنا روائحها في غمرة ما تعرفه سنواتنا العجاف من غلاء فاحش؟ هل سنفقد رائحة ماء الزهر، وعبير الجلجلان وعطر التوابل المطحونة التي تملأ الأجواء في أسواقنا وقيسارياتنا، لتنفذ دون استئذان إلى أنوفنا وتعيدنا لننغمس في ذكرياتنا الجميلة المرتبطة باستعدادات الأسر والأمهات التي تبدأ قبل أسابيع كثيرة من الشهر الفضيل؟
هنا في هذه الحلقات نحاول التذكير ببعض تقاليدنا وبعض أطباقنا وعادتنا التي لا يزال من بينها المحتفظ بمكانته لدى المغاربة فيما بدأ البعض الآخر في الاندثار والتواري والتعرض لمحاولات السرقة والسطو مع سبق للإصرار والترصد…

في الحواري الخلفية للمدن العتيقة المغربية، وفي أزقتها الضيقة حيث بالكاد يمر الناس فرادى وجماعات، يعمل أشخاص داخل دكاكين صغيرة معتمة أو قليلة الإضاءة، لا ينيرها سوى ضوء النهار، على خياطة وتفصيل الزي التقليدي المغربي: الجلابة. هذه القطعة التي لا تخلو منها خزانات المغربيات، إذ يلبسنها في المناسبات والأعياد والحفلات، وفي الأيام العادية.
مرت الجلابة المغربية بمختلف التحولات التي قد تشهدها قطعة ملابس عبر التاريخ، فبعد أن كانت تقترن بنقاب الموسلين الشفاف، المطرز بأساليب الطرز الرباطي أو الفاسي أو غيرها، تميزت بألوانها المختلفة، والتي طغت عليها التدرجات الهادئة من البيج، والبني الغامق، والأخضر الداكن، وألوان أخرى لا تثير كثيرا الانتباه، بل تعكس نوعا من الوقار والبساطة التي كانت سائدة في ذلك الزمن.( يذكر المؤرخون أن المغربيات ارتدين الجلباب منذ القرن التاسع عشر كما أن الحركة الوطنية استعملته لمعاكسة الاستعمار باعتباره رمزا للهوية الوطنية ووسيلة من وسائل مقاومة المستعمر)، فقد ارتبطت الجلابة آنذاك بمظهر متحفظ وأنيق، يعكس مكانة المرأة واحترامها للتقاليد. ورغم أن النساء تخلين بشكل تدريجي عن ارتداء الجلابة مقترنة بنقابها – مفضلات بعض الأزياء السوداء الدخيلة على ثقافتنا- إلا أن بعضهن لا يزلن يحافظن على ارتداء هذا النقاب الأنيق الشفاف الذي يغطي الوجه وينساب ليغطي العنق وأعلى الصدر، خصوصا بالمدن العتيقة.
مع مرور السنوات، شهدت الجلابة تحولا ملحوظا، سواء من حيث الألوان التي أصبحت أكثر جرأة وإشراقا، أو من حيث التصاميم التي باتت تواكب العصر، مع الاحتفاظ بروحها التقليدية، فالجلابة ليست مجرد لباس تقليدي يرتبط بمشاوير النساء اليومية، يرتدينها عند ذهابهن إلى السوق أو الحمام أو الزيارات العائلية بل هي قطعة أساسية في خزانة ملابس المرأة المغربية، للمناسبات والأعياد وفي شهر رمضان حيث يتفنن الخياطون التقليديون في تنويع خاماتها وقصاتها، وتتفنن النساء في ارتدائها وتنسيق ألوانها مع الشالات والمناديل التي توضع على الرأس، وهو ما يعكس تطور الذوق العام، والتوازن بين الأصالة والمعاصرة.
من بين المدن المغربية التي تعرف بالخياطة التقليدية للجلابات الرجالية والنسائية، مدينة أزمور حيث تصطف الدكاكين المتخصصة في خياطة وتفصيل الملابس التقليدية مثل ثكنات صغيرة تضم “جنديا”/خياطا واحدا أو اثنين همهم المحافظة على خياطة تقليدية باليد من الانقراض والاندثار، ورغم أن الكثير من هؤلاء الخياطين يعملون جهدهم لمسايرة التطور والتحول الحضاري مثل القصات المبتكرة التي تساير الموضة السائدة إلا أنهم يحرصون على المحافظة على الأصالة المغربية المتجذرة، ” عملنا وحياكتنا نقوم بها باليد ولا ندخل الماكينة إلى عملنا، ” يقول أحد الخياطين، “فجلابة أو قفطان مصنوع من ألفه إلى يائه باليد يعتبر قطعة فنية لا تضاهى، ولا يمكن مقارنتها بجلابة تدخلت الآلة في صنعها، والمهارة والإتقان يظهران في الغرز والعقايد والسفيفة والصم، وهناك خياطات بأسماء كثيرة ومتنوعة كالراندة والبرشمان والقتيب وأنواع كثيرة من زواق المعلم التي تختار الزبونة كل واحدة حسب ذوقها وإمكانياتها المادية، من هنا فثمن الجلابة التقليدية المصنوعة يدويا مرتفع مقارنة بالجلابة العادية”.
قبل شهر رمضان وقبيل عيد الفطر تتسابق النساء المغربيات لخياطة جلباب جديد زاهي الألوان ومختلف الأنواع سواء من ناحية الأثواب الكثيرة المتوفرة أو أنواع الخياطات، لكن الأسواق والقيساريات عجت اليوم بالجلاليب الجاهزة التي يفضل البعض اقتناءها لثمنها المنخفض أو لربح الوقت، ورغم اختلاف الأذواق إلا أن هذه القطعة من الهندام المغربي المتنوع لا تزال المفضلة عند المغربيات بل إن صيتها وصل بعض الدول المجاورة لنا التي تحاول الاستيلاء على ملكيتها ونسبها إلى ثقافتها التي لا تمت لها بصلة. فالجلباب المغربي يتميز بقصاته الفريدة التي تطورت عبر العصور، مع حفاظه على بصمته التراثية المغربية التي تميزه عن باقي الألبسة التقليدية في المنطقة. الجلباب المغربي جزء أصيل من التراث المغربي. وتبرز الحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى حماية الهوية الثقافية للألبسة التقليدية المغربية، خاصة في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي قد تطمس الاختلافات وتفتح الباب مشرعا أمام لصوص الثقافة والتراث.
الجلابة يلبسها الرجال أيضا مع اختلاف في الخامات، في عدد الغد سنتعرف على أسرار ومراحل تحويل قطعة صوف خام إلى جلابة مغربية فاخرة، يلبسها الرجال في ليالي الشتاء الطويلة ويتباهون بها في المناسبات الوطنية والعائلية، وأيام الجمعة والأعياد، ويخصصون لها في خزانات ملابسهم المكان الأحسن والأجمل في انتظار مناسبة سعيدة أو دعوة باذخة…

 

.

 


الكاتب : خديجة مشتري

  

بتاريخ : 18/03/2025