رأيت السيف في يد من أحب أو رقصة الألم عند عبد الرفيع الجواهري

ولدت أشعار عبد الرفيع الجواهري في سن مبكرة، ولدت أشعاره ناضجة ولدت ولم تكن في حاجة إلى تدرج، وهذه سمة المبدعين الموهوبين

يحلو لي أن أعرف الشعر بهذه الطريقة :” الشعر اختلاس للفرح، حدس اللحظة، وإمساك بالمنفلت، هو إلقاء التحية على العالم وسط الإعصار. الشاعر كيميائي يحول الخسيس إلى معدن نفيس، والشاعر جسور يسبق إلى تسمية الأشياء، ويفتش عن الكلام، فكل شاعر حقيقي ٱدم جديد يتكشف له العالم باستمرار، باحثا له عن أسماء، عبر صقل اللغة وإزالة صدإ الاستعمال، إذ اللغة تتسخ بكثرة التداول كالقطعة النقدية” ( قصيدة النثر في مديح اللبس، محمد ٱيت لعميم).
الشعر في بدء أمره ارتبط بالغناء، فمنذ العهود السحيقة تغنى الشعراء بقصائدهم، او عمدت أصوات جميلة وألحان رائقة إلى تحويل القصائد إلى تحف خالدة. فمن المساند اللصيقة بالقول الشعري الغناء والموسيقى. لأن الكلام الشعري في بنيانه اعتمد الايقاعات الموسيقية. وإن الفرق بين الكلام العادي والكلام الشعري كالفرق بين المشي والرقص. قال حسان بن ثابت:
تغن بالشعر إن كنت قائله …إن الغناء لهذا الشعر مضمار.
من خلال هذا الملمح المميز للشعر، نرى أن ولوج التجربة الشعرية لعبد الرفيع الجواهري من باب الغناء قد رسخ اسمه في الساحة المغربية والعربية بشكل قوي، حتى أضحى أشهر كاتب للأغنية في المغرب. فما أن يذكر الجواهري حتى تنقشع أمامنا قصيدة “القمر الأحمر” و”راحلة” . وقد جاءت قبلها وبعدها قصائد أخرى مغناة، إلا أن هاتين القصيدتين غطتا على الكل. وكأنهما كانتا على موعد مع نهر الخلود.
ربما يعود هذا الدخول القوي إلى نضج التجربة الشعرية لديه في سن مبكرة ، فقد ولدت أشعاره ناضجة لم تكن في حاجة إلى تدرج، وهذه سمة المبدعين الموهوبين. بالإضافة إلى أن هاتين القصيدتين كانتا من نصيب ملحن مبدع عبد السلام عامر، ولصوتين غنائيين لهما حضور شامخ في الساحة الغنائية عبد الهادي بلخياط، ومحمد الحياني. وقد كان عمر الشاعر والملحن والمغني لايتجاوز العشرين سنة. وخلاصة القول إن المرحلة كانت هي عصر النهضة للإبداع المغربي، تضافرت فيها الكلمة واللحن والأداء، فأعطتنا جوهرتين بين جواهر الجواهري.
لقد قلنا إن التجربة ولدت ناضجة، وذلك أن الشاعر في سن مبكرة تمتع بحس رمزي كبير ينم عن قدرة عالية للتدليل على وعي بتحولات الذات.
إن اختياره عنوان « القمر الأحمر» يشي بهذا النمط من الإدراك للتحولات. غالبا ماكان يحضر القمر في التجارب الشعرية إيذانا بميلاد شيء جديد، أو تحول في النماذج. « ضوء القمر» قصيدة ألوسيوس برتراند رائد قصيدة النثر في فرنسا، و» حزن في ضوء القمر» للماغوط رائد قصيدة النثر في العالم العربي، كانتا إيذانا بهذا التحول الشعري. وها نحن مع « القمر الأحمر» للجواهري، بوصفه إعلانا عن تحول يقع داخل الذات، فقمر الدم هو ظاهرة سماوية غنية بالرمز الباطني الصوفي ،وهو علامة على التجدد والتحول الذاتي سواء على المستوى العاطفي أو الروحي. إن القمر الأحمر هو مرادف للحماية والنجاح والبشارة بالخير. وفي بعض الثقافات يعتبر القمر الأحمر لحظة مقدسة للدخول في علاقة مع الأرواح، والارتباط بالجذور الروحية.
نلحظ هذه المعاني تتداعى في القصيدة منذ أبياتها الأولى:
“خجولا أطل وراء الجبال …وجفن الدجى حوله يسهر
ورقراق ذاك العظيم …على شاطئيه ارتمى اللحن والمزهر
وفي موجه يستحم الخلود….وفي غوره ترسب الأعصر
خشوعا أطل كطيف نبي…وفي السفح أغنية تزهر
على الربوات استهام العبير …تعرى الجمال شدا الوتر”

إن هذه الإطلالة الخجلى من وراء الجبال العاليات وسط ليل سهران لايريد أن ينجلي، وهذا الحضور المائي الهائل لوادي أبي رقراق الذي يستحم الخلود في أمواجه وترسو بقعره الأزمنة السحيقة، وهذه الإطلالة الخاشعة مثل طيف نبي تؤكد البعد النبوئي في تجربة الشاعر. كل هذه العناصر تؤشر على ماذهبنا إليه حول الدلالات الترميزية التي ينطوي عليها عنوان القصيدة. ثم هناك الإعلان عن الأغنية واللحن وشدو الوتر. فمنذ البداية يعلن عن هذا الاندغام بين الشعر والغناء، وتكاد هذه العلاقة تتواتر في شعر الجواهري، نرى ذلك أيضا في قصيدته “راحلة”، حيث ينهيها بقوله :
وأنت بعيدة
بعيدة
لمن يا إلهة فني
لمن سأغني
لمن سأغني
لقد دشن الشاعر تجربته الشعرية باللون الأحمر، والذي سنرى هيمنته المطلقة في جزء كبير من تجربته، حيث يتخذ اللون دلالات متحولة، معلنة إما عن الميلاد الجديد، أو عن الغياب والفقدان أو عن المشاهد الكارثية .
وهذا المساء
وحمرته من لظى وجنتيك
يحادثني الصمت في مقلتيك
ونظرتك الحلوة الذابلة
بأنك عن حينا راحلة.
وسيختم تجربته باللون الأزرق في ديوانه الأخير “الرابسوديا الزرقاء”، عنوان استوحاه من الموسيقى، وهو يعود إلى جورج غيرشوين المؤلف الموسيقي الأمريكي ، صاحب القطعة الموسيقية Rhapsody in Bleueرابسوديا بالأزرق التي ألفها عام 1924، ومزج فيها بين موسيقى الجاز والموسيقى الكلاسيكية. وكلمة Rhapsodie باليونانية القديمة تعني خياطة الأناشيد، وهي توليف موسيقي بأسلوب وشكل أكثر حرية .
إن اللون الأزرق كما يذهب إلى ذلك باستورو، عرف تحولات انطلاقا من دلالة الموت والرعب وعالم الاشباح إلى الدلالة على العوالم الروحانية التي تحيل إلى السماء والسمو.
الشاعر في “ الرابسوديا الزرقاء”، كأنه يخيط أناشيد تبدو متفرقة، منها ماله صلة بماضي قصائده المغناة، وأخرى تحمل همومه السياسية، ووجهات نظره حول التحولات التي عرفها المغرب وكان منخرطا فيها وشاهدا عليها. وأخرى تحتفي بمدن عاش فيها أو عبر منها ، الرباط، الدار البيضاء، تطوان، وكان الشاعر في هذا الديوان يريد أن يقدم حصيلة شخصيته وتنوع انشغالاته بين الفني والأدبي والسياسي والحقوقي والاجتماعي.
نستشف من بعض قصائده نوعا من المرارة والإحساس بالخيبة، لاسيما في قصيدته “رأيت السيف في يد من أحب” و”رماد” و”مرثية قبل الأوان”. ففي هذا المقطع من قصيدته “ رأيت السيف في يد من أحب” يختصر فيها مسارات وأحداثا تقطر مرارة واحساسا بالخذلان :

ماكان لي غير قلبي
حينما نبتت
في القلب وردتنا
خبأتها في هجير الوقت
ما ذبلت
والعصف من حولنا، والسيف، والنار تضطرم
كانت مراكبنا في مخلب الأنواء مبحرة والصخر يمضغها
والموج يلتطم
كانوا أنا …يا أنا وكنت هم
كانوا أنا أم أنني
كنت الذي في حبهم يتوهم؟
يا لسذاجتي !
حين انتبهت
رأيت السيف في يد من أحب.
رأيتهم يتقاسمون دمي
والثغر يبتسم
واليوم أين الصحب؟
يا لسذاجتي
نزل الستار
وأطفئ المصباح
لا ضوء لا حلم
ياليت لو علموا
أني هنا
فوق الجواد وفي يدي الأحلام لا تتفحم
إن يسرقوا سيفي
فما زال بين أصابعي
يصرخ القلم”

تستعيد هذه القصيدة الطعنة، لحظة الخذلان، واستمرارية المقاومة.
فوراء جملة “رأيت السيف في يد من أحب” تختبئ القصة المشهورة التي أبدع في التعبير عنها شكسبير، بجملة ظلت خالدة، صرخ من خلالها يوليوس قيصر لما رأى صديقه بروتس يشارك مع القتلة، فقال قولته المؤلمة “حتى أنت يا بروتس، فليمت القيصر الٱن” . فالطعنات لا تقتل،لكن الطعنة القاتلة هي التي تأتي من حبيب أو من قريب . تقتل الروح وليس الجسد، وقد عبر جبران خليل جبران عن هذه اللحظة القاسية القاتلة حين قال :”عندما أصابت الرصاصة قلبي لم أمت. لكنني مت لما رأيت مطلقها”. إن طعنة الخيانة هي التي تكون قاتلة. ومع ذلك فالجواهري في القصيدة لم يعلن الهزيمة، بل حاول أن ينقذ ما تبقى بالإصرار على المقاومة، فإن يسرقوا سيفه، فقلمه مازال قادرا على الصراخ، وبالفعل فما أطلقه من سهام قاتلة عبر “ نافذته” كان أقوى من سيفه المسروق.
إذا كان الجواهري قد خص مدينة مسقط الرأس فاس بديوان شعري تحت عنوان “ كأني أفيق”، فإن مدينة مهوى القلب مراكش حضرت في مرات عدة شعريا ونثريا، خصها بكتاب “جامع الفنا الصور والظلال”، ومن خلال قصيدة “مراكش،” وهي قصيدة نارية تتشح باللون الأحمر وتتفجر دماء، وكأنها مرثية لمدينة خالدة تخلى عنها أهلها. قصيدة ذات نفس ملحمي، يتصاعد فيها هذا النفس حتى ليكاد يكتم الأنفاس، فهو على غرار الماغوط الذي كتب “سأخون وطني” للتدليل على وطنيته الصادقة وليس المغشوشة، قدم المدينة مثل امرأة مغتصبة:
ولماذا حين أفكر فيك أرى امرأة مغتصبة
تبكي في صمت ؟
قطرات المطر تسقط فيها على جسد ينزف شمسا، في عينيها يختبئ غزال خائف ، تتحول الأغنية فيها إلى حزن، مطرها كأنه جمر يحيل جسد المدينة الصحراوي إلى جحيم. مدينة بعينين حزينتين، يصير فيها الدمع نشيدا. شجر الصفصاف ينتصب حجرا حيث تحولت أشجارها إلى غابات من الإسمنت . الكتبية التي تشبه سفينة حجرية غارقة تشرب أحزان الساحة. بعد ذلك يدعو الشاعر المدينة ليحتسي معها تحت الكتبية كأسا، مترعة بأحزان الفرح وأفراح الأحزان. مدينة يصطخب الهدير في أحشائها. دقات الطبول والأكل يختلط فيها الولدان والنساء والرجال والسقاؤون والحواة والرواة يقتاتون الجوع، جوع يغني، والجرح يغني والاقدام العارية ترقص، حمدان يلاعب الثعبان والقرد، ساحة جامع الفنا محفل الأصوات، أصوات مراكش، بداخلها صرخات وجمرات.
في المدينة هناك يد غدر تحمل خنجرا لتطعن المدينة فيفيض الدم الأحمر، ويغطي الأحجار والجدران والأسوا، مدينة تمشي وهي تنزف باسمة وتتبعها الطعنات . رغم هذه الرؤية الكارثية للمدينة، والتي هي في العمق نقد مبطن للمسؤولين عن تدبيرها، فإن الشاعر يترك الباب مواربا لعل شيئا ينبعث في الأفق ، فالمدينة مثل ديك القصيدة:
لا تحسبوا أن رقصي بينكم طربا …فالطير يرقص مذبوحا من الألم
إن صورة المدينة عبر تاريخها، كانت تتشكل عبر نقد غيور، عبر توجيه لدغات لمدبري شأنها، فمنذ القديم كنا على موعد مع شعراء ألمحوا لهذه القضية، يمكن ان نذكر بهذا الصدد بيتين لشاعر في الزمن الموحدي قالهما في عهد عبد المومن بن علي حين ساد القحط والجفاف بالمدينة، وقد عرف هذا الخليفة بالتعذيب العنيف على الخطإ الطفيف:
يطوف السحاب بمراكش …طواف الحجيج بالبيت الحرام
يريد النزول فلا يستطيع …لسفك الدماء وأكل الحرام.
ويقول الشاعر عبد العزيز الملزوزي الذي عاش انهيار الدولة الموحدية وصعود بني مرين، وقد مرض في مراكش بالحمى، ودخل عليه الأمير أبو مالك وقد وجد راحة ، فقال له كيف رأيت مراكش:
لمراكش فضل على كل بلدة…وما أبصرت عيني لها من مشابه
وما هي إلا جنة قد تزخرفت …ولكنها حفت لنا بالمكاره

* ناقذ ومترجم وأستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بمراكش


الكاتب : محمد ٱيت لعميم *

  

بتاريخ : 04/10/2024