رؤى وتصورات لمغرب.. ما بعد كورونا 8- سعيد خمري، باحث في العلوم السياسية :

الحاجة إلى مراجعات جريئة وشجاعة في توجهات الدولة الاقتصادية والاجتماعية 2/1

من المؤكد أن آثار جائحة كورونا على المغرب والمغاربة ، ستستغرق وقتًا حتى يتم استيعابها وفهمها وقبولها.. لكن مع طرح سؤال بأي حال ستعود “الحياة الطبيعية” الى مغرب ما بعد كورونا ؟.. سؤال يطرح نفسه على نقاشاتنا وأفكارنا وهواجسنا وانتظاراتنا .. ، يدفعنا الى البحث عن كيفية للتواصل قصد وضع معايير وقواعد جديدة في أسرع وقت وبأكبر قدر ممكن من الفعالية ، من أجل المحافظة على الانسان وحياته ،المحافظة على المسار الاقتصادي ، والمحافظة على مسار العودة الى الحياة …
اذن في ظل هذه الظروف الاستثنائية ، تطرح الاسئلة الاستثنائية ..
ماهي الدروس والعبر التي يمكن أن تستخلصها الدولة والمجتمع ؟
هل هذه الازمة أعادت الاعتبار للدولة؟.. هل هي فرصة حقيقية لمراجعة خياراتنا الاقتصادية وإجراء إصلاح سياسي شامل؟
هل الانفتاح على العالم الذي هو ضروري وحتمي يجب أن يتناسب مع أولوياتنا وسيادتنا الوطنية ؟…
هل المدخل لكل الإصلاحات الاقتصادية سياسي بالدرجة الأولى ؟..
كيف نبني اقتصادا وطنيا منتجا، تضامنيا يقوي القدرات الاقتصادية للبلاد، ويكون في خدمة الحاجيات الأساسية لأغلب المغاربة؟..
كيف نؤسس لمشروع سياسي مجتمعي مبني على تعاقد اجتماعي جديد ؟ …
اسئلة عديدة ، سنتناولها في سلسلة حوارات عن المغرب ما بعد كورونا

 

– مع هذه الجائحة، ومن منطلق، قد يبدو توقعا متشائما، وعبر الإجراءات التي اتخذت، يظهر أن النزعة الفردية وتقويض الحقوق الشخصية للأفراد أديا إلى تعاظم سلطة الحكومات ولجوئها إلى إجراءات مشددة لمحاصرة انتشار فيروس كورونا، مثل إجبار الناس على البقاء في المنازل وإغلاق المراكز التجارية وحظر التجمعات العامة وفرض سلوكيات وقائية معينة على المواطنين..ألا يظهر لكم بأن هذه الإجراءات، قد يكون من أثرها تزايد الطابع “الديكتاتوري” للحكومات وتوسيع سلطاتها بشكل قد يشكل خطرا على الديمقراطية حتى بعد انحسار الوباء؟
– الجواب يحتمل هنا النفي والتأكيد معا، وذلك بحسب طبيعة كل دولة ونظامها السياسي، ومدى تجذر الأعراف الديمقراطية وحقوق الإنسان لديها ولدى مجتمعاتها، فإذا كنا بصدد دولة ذات نظام سياسي ديمقراطي يحظى بالشرعية والمشروعية، وتوازن السلط، ومؤسساته ديمقراطية قوية وصلبة، برلمانات، حكومات، قضاء مستقل، مجالس منتخبة، مجتمع مدني فاعل، إعلام وازن وعلى قدر من الاستقلالية، وممارسات ديمقراطية مبنية على الحوارات والمشاورات والتفاوضات والتسويات المتبادلة، زد على ذلك إذا كان على قدر من النمو الاقتصادي المقبول، ومن تحقيق الحاجيات الاجتماعية للمواطنين..أظن أن الدول التي لها قدر من هذا الرصيد الديمقراطي والمؤسساتي، لن تكون أبدا مهددة بشكل كبير بشبح الديكتاتورية، وهي بالمناسبة – أي الديكتاتورية – أكثر ضرارا من الأوبئة، لأن هذه الأخيرة تظهر وتكون لها آثار اجتماعية كارثية، لكنها في آخر المطاف تزول بعد فترة، لكن النظم الديكتاتورية تستمر أكثر في الزمن، لأنها تزداد قوة وتصلبا بإيجاد مبررات استمرارها. قد يكون من تبعات الأوبئة على الدول بهذه المواصفات، إعادة النظر في علاقتها بالاقتصاد والمجتمع، وهذا يرتبط بطبيعة النظام الذي كان سائدا قبل الوباء: هل هو ذو نزعة اجتماعية على مستوى هياكله وسياساته؟ أم ذو طبيعة ليبرالية رأسمالية؟ أم هو مزيج من النظامين..؟ هذا هو التحول الممكن، في اعتقادي، بالنسبة للديمقراطيات العتيقة، وإن كان التفاوت بينها سيظل حاصلا.
أما عكس ذلك، أي الدول غير الديمقراطية، أو ما يمكن أن نسميه الدول الهشة ديمقراطيا، أو الحديثة العهد بالديمقراطية، وخصوصا إذا لم ترسِّخ في ممارساتها تقاليد وأعراف ديمقراطية، فإنه يمكن أن تنبعث فيها أوضاع ديكتاتورية أو استبدادية، وقد يكلفها ذلك زمنا طويلا لإعادة البناء الديمقراطي من جديد. ومع ذلك فقد علمتنا دروس التاريخ في تطور وتحول أنظمة الشعوب من وإلى الديمقراطية، أن ليس هناك قوانين ثابتة للتحولات يمكن القياس عليها، وذلك بحسب اختلاف الأحوال الاجتماعية والثقافية والإقليمية والدولية للأنظمة وللدول، إذ يمكن أن تعرف الديمقراطية “موجات” إيجابية، أو احتضارا، أو انتكاسات، او لحظات ارتجاعية للحكم الاستبدادي، ليس دائما بنفس المقدمات والأسباب.

– هل تعتقد أن الشعوب ستمنح قدرا أكبر من الثقة والتقدير للدولة، بعد أن تدرك أنها المؤسسة الأكثر قدرة وفعالية على مواجهة الكوارث الكبرى من هذا النوع، وستخف حدة المطالبات بإبعاد الدولة عن التدخل في مجالات معينة كالاقتصاد، وربما يتنامى نوع من التقبل لتوسيع سلطات الدولة في تقييد حريات الأفراد في سبيل حماية المجتمع من أخطار تهدده؟
– بداية الثقة في الدولة تُبنى على المدى الطويل، أو يتم التأسيس لها في لحظات مفصلية في تاريخ النظم السياسية، ولا يمكن استجماعُها فقط في لحظة الأزمات، لأنها سرعان ما تتلاشى بعد انتهاء لحظة الخوف أو القلق حسب طبيعة الأزمة، والتي يمكن توظيفها سلبا أو إيجابا من قبل الفاعلين. والدولة كما هو معروف هي أم المؤسسات، أو مؤسسة المؤسسات، وهي المالكة للعنف المشروع للشرطة والعسكر والإدارة ورجال تنفيذ القوانين، لذلك يفترض في الدول الشرعية فرض القانون بالقوة إذا لزم الأمر، لكن بالقانون ومن أجل القانون، وبالقدر الملائم لتطبيق القانون، وفي احترام تام للقانون، هذا من ناحية. من ناحية أخرى، دولة القانون ستزيد ثقة المواطنين فيها، إذا كانت ممارستها وسياستها إبان الأزمة أكثر فاعلية، ولا يهم هنا مستوى التنمية الاقتصادية للدول، إذ قد تكون الدولة قانونية وديمقراطية ومتقدمة اقتصاديا، لكن قد يظهر تراخيها، أو عدم فعاليتها في مواجهة الأزمة. بطبيعة الحال ردود فعل المجتمعات هنا قد لا تذهب إلى حد التشكيك في مؤسسات الدولة القائمة، ولكن في اختياراتها وتوجهاتها، وفي هذه الحالة يمكن أن نتصور عدم استقرار بعض الحكومات، أو على الأقل تحوُّل ثقة المواطنين/الناخبين من تيار سياسي يقود الحكومة إلى آخر.
من ناحية ثالثة، يجب ألا نخلط بين تدخل الدولة في الاقتصاد مثلا، وبين تقييد حرية الأفراد من أجل حماية المجتمع من أخطار تهدده. لأن التدخل في الاقتصاد من حيث المبدأ هو اختيار استراتيجي وتعاقدي للدولة، وليس سلوكا لحظيا أو تلقائيا. والتدخل في الاقتصاد، لا يكون مقرونا بالضرورة بتقييد حريات الأفراد. علما بأن التقييد في حالات الأزمات والطوارئ الاستثنائية، كما هو معروف في القوانين والتجارب الدولية المقارنة، معمول به في إطار قواعد وشروط معينة. لذلك أن تكون الدولة أصلا قائمٌ توجهها على الاقتصاد المفتوح الليبرالي، وأن تعيد النظر في ذلك بحسب المتغيرات الدولية والإقليمية، فهذا متوقع حتى بالنسبة للأنظمة الليبرالية، مع استحضار أن الأمور لا تتم بهذه السهولة، فالرأسمال العالمي لا يجب أن نتصور تراجعه، وهو الذي مازال يحكم قبضته على اقتصاديات العالم، لكن مراجعات مهمة وهيكلية في التوجهات الاقتصادية والاجتماعية للدول، تبقى ممكنه الوقوع.

– هل تتوقع اختفاء الاستقطابات والمشاحنات السياسية أو تراجع حدتها على الأقل مستقبلا، خصوصا وأن كارثة إنسانية كبرى مثل الأوبئة جدير بها أن تعلم الناس التضامن والتعاون ونبذ الخلافات في مواجهة عدو شبحي مجهول يشمل خطره البشرية بأكملها؟
– في السياسة دائما لا يمكن التوقع على سبيل الجزم، لكن هناك علم الاستشراف الذي ظهرت نواته الأولى في الأربعينيات من القرن الماضي، ثم أخذ في التطور في مرحلة الستينيات والسبعينيات، وبدا أكثر حضورا في الثمانينيات والتسعينات من نفس القرن، وهو من الناحية المعرفية يدخل في خانة العلوم الاجتماعية والإنسانية، لكنه ينهل من العلوم الحقة والتقنية، خصوصا ما توفره من مناهج وتقنيات للتحليل الكمي والنوعي، وترعاه مؤسسات علمية دولية كبرى. نحن هنا والآن، مازلنا بعيدين عن تملك، أو على الأقل الاستئناس بأدوات ومناهج وأدبيات هذا العلم الفتي، لا كذوات عارفة، ولا كمؤسسات دولتية حاضنة، مع الإشارة إلى أن هذا العلم أصبح يفرض نفسه ليس فقط على الباحثين في العلوم الاجتماعية بصفة عامة، ولكن أيضا على الدول من أجل الاستشراف والتخطيط للمستقبل. بالعودة إلى سؤالك، إن كان المقصود به المستوى الداخلي للدول من هذه السلوكيات، فمع كثير من التحفظ، يمكن توقع تراجع التجاذبات السياسية الداخلية في فترة الأزمة، ويمكن أن تسري بعض مظاهر التضامن والتعاون – وهذا مطلوب – وتأجيل الخلافات وليس نبذها، لأن الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تحركها في آخر المطاف مصالح، قد تكون مادية أو رمزية معنوية، وتكون هذه المصالح مغلفة بالسياسة والإيديولوجيا، لذلك سرعان ما تظهر وتطفو على السطح بعد انتهاء الأزمات، وكما قلت في البداية فإن التوافقات المجتمعية الكبرى، في إطار النظم الديمقراطية والقائمة على توازن القوى، هو الذي يحصِّن الدول من الانفجارات المجتمعية. وبناء على ما سبق فإن الاختلاف هو أمر عاد وصحي للمجتمعات، لكن يجب أن يكون مؤطرا بنظام ديمقراطي حصين، يضمن حقوق الجميع، ويمنع المساس بحقوق طرف لصالح طرف آخر. أما النقاش حول الوضع ما بعد الأزمة، وحول الاختيارات الكبرى، أو المراجعات والحوار المجتمعي حولها، فهذا هدف مرغوب.


الكاتب : أجرى الحوار: ادريس البعقيلي

  

بتاريخ : 18/05/2020