رؤية السرد: محكي الذات وتقاطعات مصائر الآخرين

قراءة في رواية «الحجر والبركة» للروائي عبد الرحيم جيران

“الحجر والبركة” رواية مغربية حاصلة على جائزة المغرب للكتاب لعام 2019، منشورات الفاصلة بمدينة طنجة، في طبعتها الثانية، للروائي والأكاديمي المغربي عبد الرحيم جيران، وقد صدر له أيضا :”عصا البلياردو” و” كرة الثلج”.
والرواية عبارة عن سيرة محكي لذات تعيش حالة انفصام وتشظٍ تاريخي وواقعي تسرد سيرتها من خلال حياة الآخرين، الحافلة بالأحداث التي رافقت انتقال السارد من مدينته الأصلية فاس إلى مدينة الدار البيضاء الكبرى، المدينة التي هاجر إليه مكرها واستقر بها وعاش فيها آخر أيامه.
يستمر السارد في تذويب الذات للكتابة عما يمور في ذاكرته المثخنة بالأسرار التي تحكي سيرته الخاصة، وهي حياة صاخبة تعطي الانطباع بسرعة إيقاع زمن السرد في الرواية، لما تحفل به من عناصر حيوية تزخر بالإمكانات المتعددة للسرد التي ينهجها الكاتب، من خلال فتحه أكثر من دائرة، تكون دوائر كثيرة، وتجعل من بداية الكتابة أمرا سهلا، خصوصا أنها تنظم عملية الحكي وتحفظ الترتيب المنطقي المتماسك لنظام فصول الرواية، وهي الحقيقة التي يفصح عنها عنوان الرواية ” الحجر والبركة”، إذ نجد أنفسنا أمام جملة اسمية تتكون من مبتدأ وخبر محذوف ومضاف إليه واسم معطوف، تبرز لنا ما يقوم به السرد إزاء الحكي، عندما يلقي حجرا في البركة، تنتج عنه دوائر كبيرة وتحرك المياه الراكدة، لتستقل كل دائرة عن الأخرى، فتبدأ الحكايات على شكل دوائر، هي بمثابة حركة دافعة، تنطلق من البداية، وتصل إلى نهاية”، 1 وبفضل هاته الإمكانية السردية، استطاع السارد نقل تجربته وسرد حياة آخرين في حياته الخاصة. وتنصهر هاته الحكايات التي سردها عن أقربائه (الحاجةـ الجدـ الخال آدم)، في حكاية واحدة، تشكل بؤرة مركزية ينطلق منها الحكي، وبهمة يسترجع السارد ذكريات الماضي البعيد، وهو على مشارف الموت، وأثناء انتقاله إلى المدينة الكبيرة يبهرنا بقدرته الكبيرة على سرد التفاصيل والجزئيات الصغيرة التي شكلت جزءا من حياته، وطبعت علاقته بالآخرين وتقاطعها مع مصائر الغير المختلفة.
يتميز إيقاع السرد في الرواية بالسرعة والانسيابية، وتكثيف المعنى العام للسيرة الذاتية لتحكي سيرة وطن مكلوم في فترات زمنية مترابطة. وتسريد سيرة ذات من ذاكرة الغير، بداية من حكاية علاقته بجدته التي كانت رمزا للحنان، قبل دخولها السجن بسبب عمل متهور، لينتقل للعيش مع خاله آدم في مدينة الدار البيضاء، وتبدأ مرحلة الانتكاسات التي ستعرفها حياته، وانتقاله من مرحلة الطفولة إلى المراهقة، عندما يتعرف أول مرة على النساء ويكتشف جهله بهن.
في الدائرة الثانية يتناول السارد حكاية علاقته بخاله آدم، وما تتميز به هذه الشخصية من مفارقات، وهي شخصية غامضة تكونت لديه بسبب ظروفه الصعبة التي مر بها منذ انتقاله إلى المدينة الكبيرة. هذه المدينة التي ساهمت في تغريب الإنسان وتشريده، وقد خصص السارد لوصف مدينة الدار البيضاء حيزا كبيرا في الرواية، وهو يظهر ارتباطه بأمكنتها وفضاءاتها الرحبة رغم ما يشعر به إزاءها، يقول مثلا:” فلم يكن من ملاذ سوى ما تبسطه أمامك كازابلانكا من أمكنة، هربت إليها ضاجا من نفسك، قبل أي شيء آخر، لم تكن الألسنة حول أمك هي التي تطاردك هذه المرة، بل شيء آخر غامض، لا هيئة له، ولا ظل، تستشعر وجوده، تلمسه في خفقة قلبك، وفي تردد خطواتك، لكن لا تعرف ما هو كنت تشعر ـ وأنت تذرع الشوارع، والساحات، والحدائق ـ أن المكان، كان ينكرك، كان يتسلل من عينيك مائعا، من غير أبعاد، أو صلابة، لا نستطيع القول إنك كنت لا تحس بالانتماء إليه، وإنما بالتوه، عدم الانتماء قريب من الغربة ينزع منه ألفة الأشياء، أما التوه فله خصلة أن يمنحك الشعور بالضياع في عالم تعرفه حق المعرفة..”2
وقد أفلح في تشريح بنية المجتمع المغربي عن طريق الانتقال بين الماضي والحاضر، من خلال سرد حكايات آخرين ارتبط بهم وعاشرهم، وكان لحياتهم تأثير كبير عليه، ومع مرور الزمن سيكتشف أنه يحيا حياتهم، ويتطبع بطباعهم التي غرسوها فيه، عن طريق التطبع، ومع تقدمه في السن سيكتشف الحقيقة، الي كانت خفية عليه، وسيجد إجابات لأسئلته الحارقة حول أسرار عائلته وتصوره عن النساء وعلاقته العاطفية بهن.
يلجأ السارد للكتابة عن حياته من خلال استرجاع ما ترسب في الذاكرة من وقائع وأحداث، للهروب من حالة الانفصام التي تعتريه تفقده الصلة عن العالم الخارجي. فيتبين لنا أننا إزاء شخصيتين، في شخصية سليمان الثنائي بن شعيب بن الحاجة بطل الرواية، الشخصية الواقعية التي تعيش حياة الحاضر بانتكاساته وآماله الخائبة، والشخصية الخيالية التي تجترح الماضي بذكرياته وآلامه وأحزانه.
يعيش البطل حالة من التوتر الناتج عن الرغبة في كتابة كل شيء قبل أن يداهمه شبح الموت، لكن جسده لا يطاوعه لفعل ذلك، يطل على الحياة من الخارج بنفسه التعيسة فيرى نفسه غير مقبل عليها، فيقرر الهروب بنفسه ويستنجد بزوجته رباب لتناوله مشروبا ينسيه مرارة فقدان الشغف بالحياة. ثم يبدأ الكتابة، لكنها تقترن لديه بالعجز عن التعبير في الكثير من الأحيان، وبفضل هذا العجز تصبح الكتابة وسيلة لتحرير الذات وارتياد عوالم أرحب للإبداع، والتعبير عن المعاناة والمكابدة اليومية مع هذه الذاكرة المتعبة والمثقلة بهموم الماضي وشظايا الانفصام التاريخي لمرحلتين عاشها السارد من خلال حياة الآخرين.
لقد جعلنا الكاتب نتوغل في سيرة حياته المليئة بالأحداث التي رافقت انتقاله من مدينته الأصلية فاس إلى مدينة الدار البيضاء، ومعايشة تفاصيل حياته الخاصة مع زوجته رباب وظروف كتابته روايته الأخيرة. ومرضه ومحاولته التأقلم مع نمط عيشه الجديد رغم أنه يعيش حياة هنيئة في آخر أيام حياته، لكنه يريد وضع بصمة قبل رحيله، من خلال رغبته في إنهاء روايته، رغم ظروفه الصحية الصعبة التي تتدهور يوما بعد يوم. ويظهر ذلك من خلال وصفه كيف يسقط الأشياء من على الطاولة، يبين عجزه وضعفه وعدم انسجامه مع حياته الجديدة رغم العناية الكبيرة التي يتلقاها من زوجته.
يميز الكاتب في الرواية بين زمنين، محكي الفعل الزمان الواقعي ومحكي الزمان النفسي لأبطال روايته، الأول كان يمر بسرعة، وكانت الوقائع والأحداث تنبثق من قمقم الذاكرة، وتتوالى موغلة في التعريف بالسيرة الذاتية لكاتبها، بينما الثاني ينشغل فيها المرء، وتطول معاناته به، ثم يرجع بخياله لتذكر سيرته عندما كان أستاذا تعرف على زميلاته في التدريس، وتسعفه ذاكرته، لتذكر أسماءهن كلهن، وما رافقها من علاقات وارتباطات مع ماريا وصابرينا، وبتلك الطريقة سيتعرف على الثقافة الإسبانية وجذورها الثقافية في المغرب.
في الدائرة الثانية عشرة وهي الأخيرة يصف الكاتب معاناته مع المرض الذي منعه من تتمة روايته “رمية نرد”، وقرب شبح الموت منه، وأنها مسألة أيام فقط ليلفظ أنفاسه الأخيرة، وتحل نهايته، لكن الكاتب تمرد على واقعه، محاولا التخلص من رقابة زوجته رباب المتشددة خوفا على تدهور صحته جراء الإفراط في الكتابة. حاول المقاومة بالقليل الذي تبقى له، وكسب رهان تتمة روايته بأي ثمن. حيث أحضرت له زوجته مسجلة وأشرطة صوتية، ليسرد سيرته الذاتية شفهيا من غير أن يشغل نفسه بتعب الكتابة. ثم في الأخير يأتي موت الكاتب رغم عدم إنهائه لسيرته الذاتية، “رمية نرد”، وتذكره لحبه الأول في هذيانه، وسرده وصيته الأخيرة لزوجته بإهداء كتبه ومكتبته والتبرع بها للمؤسسات الثقافية في مدينته.

أسلوب السرد
في الرواية:

من خلال تتبعنا لضمير السرد في الرواية، نجد السارد يخاطب خله، والذي يمثل الشخصية الثانية من نفسه: شخصية سليمان الثنائي وتتفرع إلى شخصيتان: سليمان الواقعي وسليمان المثالي، وبهذا يكون في الرواية شخصية أخرى تنبض بالحياة غير كاتب الرواية، ابتكرها الكاتب لإبلاغ القارئ بحقيقة الأحداث، حقيقة كتابته لرواية “رمية نرد”، وحقيقة حبه الأول للطالبة “نجية بلمعلم” و هو ما يسمى ب ” قصدية التواصل”، 3 وبهذا يتجلى حضور السارد ليخاطب نفسه كأنه يخاطب أحد أصدقائه.
وقد كتبت الرواية بأسلوب أدبي تخيلي، يقوم على اللغة البسيطة مع بعض الكلمات من المعجم اللغوي الحديث للغة العربية، وعلى ابتداع وخلق شخصيات روائية تؤدي الأدوار المنوطة بها، داخل السرد. الأنا الواحدة (سليمان الثنائي) في مقابل الحيوات الأخرى، ذات المصائر المتقاطعة، على أن شخصية سليمان التي ابتدعها الروائي لتنوب عنه في تقديم الأحداث، تتميز بانفلاتها وتمردها وحكيها للأشياء والتصريح بها رغم حساسيتها، معبرة عن نفسها بحرية مطلقة، وتتميز هذه الشخصية بتقلبها ومزاجها الحاد بحسب التغييرات الطارئة على نموها ونضجها والتجربة التي عاشتها في مختلف الأمكنة التي زارتها. وقد عمد السارد إلى تقسيم سيرة البطل إلى دوائر، تمكن من الحكي عن منعرجات الذات، للخروج من خيبته ومحنته من الكتابة، أما شخصية “نجية بلمعلم” فقد أراد لها السارد أن تكون رفيقة دربه وحبه الأول، تصاحبه في الحياة، وهي تمثل بالنسبة له مصدر الإلهام والإبداع، هي شخصية حقيقية في حياة البطل، سبب له موتها غصة كبيرة، عانى خلالها ويلات الفراق، حتى قبيل وفاته بقليل تذكرها وتكتم على حبه لها أمام زوجته رباب، وبوفاته انتهت الرواية كأنه يستعجل الكتابة، ليتخلص من كل شيء قبيل وفاته، ليرتاح لعد أن أفضى بكل شيء، لكنه ظل متكتما على شعوره اتجاه نجية وحبه الأول، فأخفاه عن زوجته إلى حين وفاته، ليضع بذلك نقطة نهاية لحياته وللرواية.

1 ـ الحجر والبركة،( رواية) ص:13.
2 الحجر والبركة، مأخوذ من تصدير الكتاب
3 مصطلح نحته د. محمد مفتاح للدلالة على علاقة الراوي بالمخاطبين المفترضين ينظر دراسته :” ’دينامية النص تنظير وإنجاز: الطبعة الأولى 1987،المركز الثقافي العربي، بدون تاريخ،.


الكاتب : الحسين أيت بها

  

بتاريخ : 14/09/2022