عبد الرحيم شهيد:
نثمن المقاربة التشاركية التي دعا إليها جلالة الملك في مراجعة مدونة الأسرة في الإطار العام لتوطيد ركائز الدولة الاجتماعية
سلوك الحكومة يخلق توترات نحن في غنى عنها كما وقع سابقا ويقع اليوم لأسرة التدريس
الاتحاد الاشتراكي يسجل تنكر الحكومة للالتزامات العشر التي قطعتها على نفسها
السيد الرئيس؛
السيدات الوزيرات، السادة الوزراء؛
السيدات النائبات، السادة النواب؛
اسمحوا لي بداية، قبل مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2024 المعروض على أنظار المؤسسة البرلمانية، أن نعرب في المعارضة الاتحادية عن ارتياحنا الكبير للمبادرة القوية التي أعلن عنها جلالة الملك محمد السادس نصره الله في خطابه السامي بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء في سياق تعزيز المسار التنموي وترسيخ الجدية كمنظومة متكاملة من القيم الكفيلة باستكمال الإصلاحات الكبرى لبلادنا. ونحيي عاليا، في هذا الصدد، المبادرة الملكية لتنمية الواجهة الإفريقية الأطلسية من خلال الدعوة إلى إحداث إطار مؤسسي للدول الإفريقية الأطلسية، وإطلاق مبادرة دولية لتمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي. كما نعتز بالموقف الملكي الذي يضع البنيات التحتية لبلادنا رهن إشارة الدول المعنية، وحرص جلالته على تأهيل المجال الساحلي الأطلسي الوطني، وإقامة اقتصاد بحري متكامل من خلال تطوير التنقيب عن الموارد الطبيعية في البحر والاستثمار في الصيد البحري وتحلية مياه البحر لتشجيع الأنشطة الفلاحية ودعم الطاقات المتجددة.
ولا يسعنا إلا أن نبتهج لدعوة جلالة الملك إلى التفكير في تكوين أسطول بحري تجاري وطني، قوي وتنافسي، خاصة وأننا في الفريق الاشتراكي لم نستسغ سلوك الحكومة قبيل الخطاب الملكي السامي، إذ تبين أنها كانت بعيدة كل البعد عن الاستجابة لتدخلاتنا بخصوص الحاجة الماسة إلى أسطول بحري تجاري يشكل جسرا بحريا دائما للمغرب في علاقاته الدولية الجديدة.
من جهة أخرى، ننتهز هذه المناسبة لنعبر عن اعتزازنا بالمكتسبات الدبلوماسية الوطنية في مجال تحصين الوحدة الترابية، مسنودة بالإنجازات الميدانية التي حققتها بلادنا تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك، القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية. ونشيد بالقرار الأخير لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (القرار 2703)، والذي حدد مرة أخرى بوضوح، أطراف العملية السياسية التي يجب أن تتحمل مسؤوليتها السياسية والقانونية والأخلاقية في السعي إلى حل نهائي للنزاع الإقليمي حول الصحراء المغربية، بما فيها الطرف الجزائري. كما حدد هذا القرار صيغة اجتماعات المائدة المستديرة كصيغة وحيدة لإشراك كل الأطراف المعنية في العملية السياسية، والتي نعتبرها الصيغة الأنجع لإيجاد حل سياسي نهائي، واقعي وعملي ومستدام، على أساس المبادرة المغربية للحكم الذاتي، المبادرة الجادة وذات المصداقية على حد تعبير المنتظم الأممي.
ونشيد في الفريق الاشتراكي، في هذا الصدد، بالمجهودات التنموية الجبارة التي تعرفها أقاليمنا الصحراوية، وحرص بلادنا على نهج المقاربة السلمية ومواصلة المسار التنموي في الصحراء المغربية، رغم مناورات الخصوم والمحاولات الإرهابية اليائسة. ولعل آخرها حادثة السمارة التي لم تكن معزولة عن استفزازات متواصلة أوردها تقرير الأمين العام للأمم المتحدة بناء على معلومات المينورسو، مصدره الوحيد والرئيسي المعتمد رسميا، والتي توصلت ببلاغات القوات المسلحة الملكية عن حوادث إطلاق نار تعدت 500 حالة، إضافة إلى 18 حالة تحليق آليات مسيرة فوق مواقع وجوده، وهو ما يجعل الأمم المتحدة شاهدة على السلوك الاستفزازي والعدواني المتمادي من طرف خصوم بلادنا. ونشيد، في هذا الصدد، بمنطق الهدوء والتعقل الذي تبنته الدولة المغربية في تتبع تطورات الوضع، في وعي تام بأن الأهداف المعلنة لمثل هذا العدوان تتمثل في خلق جو من التوتر يصرف المغرب عن مواصلة مساره التنموي وتعزيز موقعه الريادي وتطوير علاقاته الإقليمية والدولية بفضل الحكمة والتبصر والمناعة الوطنية لبلادنا.
ومن جهة أخرى، وحرصا منه على تقوية التماسك المجتمعي، نثمن المقاربة التشاركية التي دعا إليها جلالة الملك في مراجعة مدونة الأسرة في الإطار العام لتوطيد ركائز الدولة الاجتماعية. وإذ نعبر عن انخراطنا في العمل المؤسساتي الذي أطلقه جلالته، فإننا نستحضر المكتسبات التي راكمتها بلادنا بفضل الحركة النسائية التقدمية ونتوجه إلى المستقبل بأمل كبير في إنصاف المرأة وتعزيز حقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
على صعيد آخر، اسمحوا لي، والمناسبة هنا شرط، أن أتوقف عند ما يشهده الشعب الفلسطيني في الظرفية الراهنة من تدمير وتقتيل همجي على يد الحكومة الإسرائيلية اليمينية ضد مواطنات ومواطنين عزل وضد نساء وأطفال أبرياء، لنجدد تنديدنا الشديد بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والتنديد بكل المحاولات العمياء لتقويض الحل السلمي وتعطيل تفعيل القرارات الأممية ذات الصلة بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وذات السيادة.
ونعتز في الفريق الاشتراكي بمجهودات بلادنا تحت قيادة جلالة الملك، رئيس لجنة القدس، لدعم مساعدة الشعب الفلسطيني، ومبادراته الحكيمة في قمة السلام بالقاهرة والقمة العربية الإسلامية المشتركة غير العادية بالرياض من أجل وقف العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني وتوفير الأجواء المناسبة لاستئناف الحوار والتفاوض السلمي.
أيتها السيدات، أيها السادة،
يتزامن عرض الحكومة لمشروع قانون المالية برسم سنة 2024 مع مستجدات وطنية مهمة، لعل أبرزها زلزال الحوز، الذي شكل عنوانا بارزا عن اللحمة المغربية وعن الأمة المغربية القوية، أي «تمغربيت»، بدء من المبادرات الملكية القوية المبادرة بسرعة إلى التدخل في مناطق الزلزال لإسعاف المواطنين ونجدتهم، إلى التدخلات الناجعة للقوات المسلحة الملكية والدرك الملكي والوقاية المدنية والقوات المساعدة والإدارة الترابية والأمن الوطني والأطباء ومختلف الأجهزة الأمنية، ثم التضامن الشعبي القوي الذي نال إعجاب العالم. فحينما تحدث الكوارث والأمراض، وتحدث مثل هذه الصعوبات، يهرب الناس من هذه الأماكن. وحده في المغرب، حج المغاربة جميعا إلى منطقة الزلزال، نساء ورجالا، شيوخا وشبابا، ليتضامنوا وليكون إلى جانب دولتهم، ثم لاحقا المبادرات الملكية القوية لإعلان «الصندوق الوطني بتدبير الآثار المترتبة على الزلزال الذي عرفته المملكة «، وبعد ذلك إحداث وكالة تنمية الأطلس الكبير لتعمير وتأهيل هذه المنطقة. ومن بين المستجدات المهمة أيضا البشرى التي زفها إلى الشعب المغربي جلالة الملك في خطابه السامي بمناسبة افتتاح السنة التشريعية الحالية، والمتعلقة بانطلاق الدعم الاجتماعي المباشر خلال نهاية هذه السنة، الذي لن يقتصر على التعويضات العائلية فقط، بل سيشمل أيضا بعض الفئات الاجتماعية، التي تحتاج إلى المساعدة (دعم الأطفال في سن التمدرس، دعم الأطفال في وضعية إعاقة، دعم الأطفال حديثي الولادة، دعم الأسر الفقيرة والهشة، بدون أطفال في سن التمدرس، خاصة التي تعيل أفراد مسنين). وأملنا في الفريق الاشتراكي المعارضة الاتحادية، أن تعمل الحكومة على التنفيذ الأنجع لهذا البرنامج من خلال استهداف الفئات المستحقة وتجاوز كل ما من شأنه أن يضر بالعملية وفق الجدولة الزمنية المحددة، مع التأكيد على ضرورة احترام مبادئ التضامن والشفافية والإنصاف.
إن ما نحتاجه من الحكومة في تفعيل هذه البرامج هو الإرادة الحقيقية لبلوغ الأهداف المسطرة في الآجال الزمنية المحددة، وهي الإرادة التي توفرت لبلادنا كي تحقق إشعاعا دوليا قل نظيره حين نالت شرف تنظيم المملكة المغربية لكأس العالم برسم سنة 2030 بشراكة مع إسبانيا والبرتغال، ثم شرف تنظيم كأس إفريقيا 2025، وأيضا شرف تنظيم الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
أيتها السيدات، أيها السادة،
بالرجوع إلى مشروع قانون المالية لسنة 2024، نعيد مرة أخرى ملاحظاتنا التي نعتبرها صيحة في واد، وهي المتعلقة بالمنهجية التشاركية التي يجب على الحكومة أن تعتمدها بانفتاحها على مختلف الفاعلين السياسيين والمدنيين في بلورة الميزانيات التي تعتبر شأنا حكوميا، لكن أيضا شأنا مجتمعيا.
فعكس ما ورد في كلمة وزيرة الاقتصاد والمالية أثناء الجلسة البرلمانية المشتركة لتقديم المشروع، وتأكيدها حرص الحكومة على التعاون مع المؤسسة التشريعية، نسجل غياب أي مقاربة تشاركية في إعداد مشروع قانون المالية الحالي. والمفروض أن الأمر يتطلب إبداعا من طرف الحكومة في هذا الشأن من خلال فتح نقاشات مع الفرق البرلمانية ومشاورات سياسية موازية مع الأحزاب السياسية والهيئات النقابية والمدنية بشكل دائم ومتواصل.
فإلى جانب ضعف تواصل الحكومة مع المؤسسة البرلمانية، ومع الرأي العام الوطني حول القضايا الكبرى، نسجل أن المقاربة الحكومية في إعداد المشروع انفرادية تواصل سياسة التغول العددي التي تتجاهل بشكل تام التوافقات التي تحتاجها بلادنا في الظرفية الراهنة، مما يخلق توترات نحن في غنى عنها كما وقع سابقا ويقع اليوم لأسرة التدريس.
أما على مستوى الإطار المرجعي الذي حددته الحكومة في بلورة مشروع قانون المالية لسنة 2024، فإننا نسجل اكتفاءها بالتوجيهات الملكية السامية لخطاب العرش (29 يوليو 2023) والخطاب الافتتاحي للسنة التشريعية الحالية (13 أكتوبر 2023)، ولم تأخذ بعين الاعتبار العديد من التوجيهات الملكية الموجهة للحكومة في ولايتها الحالية. ونود أن نؤكد أن الخطاب الملكي المؤسس الذي جاء في بداية الولاية الحكومية، أي الخطاب الملكي السامي لافتتاح السنة التشريعية الأولى (08/10/2021)، كان واضحا في مجموعة من التوجيهات، وكنا نتمنى أن يحظى دائما هذا الخطاب بعنصر القوة داخل كل مشاريع قوانين المالية خلال الولاية الحكومية.
ولعل أهم التوجيهات الملكية السامية في هذا الإطار الدعوة إلى ضرورة إحداث منظومة وطنية متكاملة للمخزون الاستراتيجي للمواد الأساسية: المائية والغذائية والصحية والطاقية، وإذ نسجل المجهودات المبذولة في مجال الماء، فإننا نتساءل عن المخزون في المجال الطاقي والغذائي والدوائي، والذي أظهر أهميته بوضوح الزلزال الأخير.
ومن توجيهات جلالة الملك أيضا تفعيل الإصلاح الجبائي الشامل، وإصلاح المؤسسات والمقاولات العمومية. لكن إلى اليوم لم تباشر الحكومة الإصلاح الضريبي كما تبلور في مناظرة الصخيرات وتم تأصيله في القانون الإطار للجبايات، ولم تفعل الحكومة إصلاح المؤسسات والمقاولات العمومية.
ولذلك، نتساءل عن عدم إحداث أقطاب كبرى متقاربة مثلا في المجال الفلاحي تجكع العديد من المؤسسات: وكالة التنمية الفلاحية، المكاتب الجهوية للاستثمار الفلاحي، المكتب الوطني للاستشارة الفلاحية، المكتب الوطني للحبوب والقطاني، الشركة الوطنية لتسويق البذور، … وفي المجال الطاقي تجمع مؤسسات كثيرة: شركة الهندسة الطاقية، المكتب الوطني للهدروكاربورات والمعادن، الوكالة المغربية للطاقة المستدامة، … وغيرها. نفس الشيء بالنسبة للكثير من الوكالات، هل مازال اليوم دور محوري لوكالات التنمية على مستوى الجهات والأقاليم (الشرق، الجنوب، الشمال، …)، والتي لعبت أدوارا مهمة في المراحل السابقة ؟ ولذلك، لا بد من مباشرة هذه الإصلاح الذي سيكون مفيدا لبلادنا.
ومن التوجيهات الملكية أيضا دعوة جلالة الملك الحكومة للقيام بإصلاح عميق للمندوبية السامية للتخطيط قصد جعلها آلية للمساعدة على التنسيق الاستراتيجي لسياسات التنمية، ومواكبة تنفيذ النموذج التنموي. لكن مع كامل الأسف لم تطرح الحكومة إلى اليوم أي تصور لهذا الإصلاح.
وفي السياق نفسه، نلاحظ أن المشروع لم يأخذ النموذج التنموي، كمنتوج وطني جماعي، الحيز الذي يليق به في المشروع، علما أن جلالة الملك دعا الحكومة منذ تنصيبها إلى بلورة وأجرأة النموذج المذكور، وعلما أنه شكل أحد المرتكزات الكبرى التي تأسس عليها البرنامج الحكومي.
كما نلاحظ تنكر المرجعية الحكومية للالتزامات العشر التي قطعتها الحكومة على نفسها.
الالتزام الأول: الرفع من وتيرة النمو إلى معدل 4 % خلال الولاية الحكومية، ونحن على مقربة من منتصف الولاية الحكومية يستحيل تحقيق الأمر.
الالتزام الثاني: إحداث مليون منصب شغل صافي على الأقل خلال الولاية الحكومية، وهو ما عجزت عنه الحكومة إلى اليوم بفعل ارتفاع البطالة وفقدان مناصب الشغل.
الالتزام الثالث: لا نجد أي أثر على حياة النساء اللواتي وعدتهن الحكومة برفع نسبة نشاطهن من 20 % إلى أكثر من 30 %.
الالتزام الرابع: ما زال إيقاع الحكومة بطيئا في تفعيل الحماية الاجتماعية واحترام الآجال المحددة لتنفيذ مختلف محاوره، وتفعيل مقتضيات الاتفاقيات الموقعة أمام جلالة الملك يوم 14 أبريل 2021، من أجل تدارك التأخر في تعميم التأمين الإجباري على المرض لدى التجار والمهنيين المستقلين، والمهنيين في الصناعة التقليدية، والفلاحين.
الالتزام الخامس: لا نعلم مصير إخراج مليون أسرة من الفقر والهشاش، في ظل ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية، وفي ظل التدابير الجبائية الواردة في هذا المشروع، والتي من شأنها توجيه المزيد من الضربات إلى القدرة الشرائية للفئات الفقيرة.
الالتزام السادس: وعود حماية وتوسيع الطبقة الوسطى أصبح مجرد سراب، لأن الحكومة تركتهم فريسة للغلاء المتزايد وارتفاع تكاليف الخدمات التربوية والصحية والحياتية.
الالتزام السابع: صعوبة تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية من 46,4 % إلى أقل من 39 % أمام التداعيات السلبية للجفاف وندرة المياه وضعف الاستثمار وتفشي البطالة في العديد من المناطق بالجهات الهشة (خنيفرة بني ملال، درعة تافيلالت، كلميم واد نون).
أمام التداعيات السلبية للجفاف وندرة المياه وضعف الاستثمار وتفشي البطالة كما يشهد على ذلك واقع (خنيفرة بني ملال، درعة تافيلالت، كلميم واد نون)، سنعفي أنفسنا من التساؤل عن الالتزام السابع بتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية من 46,4 % إلى أقل من 39%.
الالتزام الثامن: الوعد بتعبئة المنظومة التربوية لتحسين تصنيف بلادنا على الصعيد الدولي، لكن ما حققته الحكومة فعلا هو تعبئة هيئة التدريس للخروج إلى الشارع في غياب مقاربة تشاركية حقيقية تتأسس على حسن الإنصات وإبداع الحلول.
الالتزام التاسع: عجز الحكومة عن تعميم التعليم الأولي لفائدة كل الأطفال ابتداء من سن الرابعة، لعدم توفرها على أية استراتيجية أو مخطط حول الإصلاح المؤسساتي والبيداغوجي للتعليم الأولي وربطه بالتعليم الابتدائي.
الالتزام العاشر: غياب الإرادة السياسية الحقيقية لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية رغم إحداث الصندوق الخاص بها بمبلغ مليار درهم خلال الولاية الحكومية، والحكومة أعلم أن تفعيل القانون التنظيمي المتعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، يحتاج للموارد المالية، لكن يحتاج قبلها لإرادة سياسية حقيقية.
أكيد أن ثمة خللا في العمل الحكومي أفرزته البنية الحكومية نفسها وافتقادها للكفاءة السياسية، ويكفي أن نذكر الحكومة بملاحظاتنا حول هندستها لحظة تشكيلها من أن التشتيت وفصل القطاعات الاستراتيجية المتجانسة بعضها عن بعض قد يؤثر على طبيعة العمل العمومي ويضعف الحكامة المؤسساتية، وأن طغيان التمثيلية التقنية على التمثيلية السياسية في تحمل تدبير القطاعات الحكومية ستكون له آثار سلبية، وأن هذا النوع من الهندسة الحكومية لا يلائم تحديات الظرفية الحالية.
والأكثر من ذلك أن ما عمق هذا الخلل هو موقف البحث عن الخلاص الفردي أو الربح الشخصي الذي يبحث عنه كل مكون من مكونات الحكومة على حدة، بشكل لا يسمح بتقوية الثقة في قدرتها على إيجاد الحلول وتحمل المسؤولية الدستورية والسياسة والاخلاقية. ولنا في التجاذبات الأخيرة حول صندوق التنمية القروية خير مثال.
أيتها السيدات، أيها السادة،
بالنسبة لفرضيات مشروع قانون المالية لسنة 2024، والتوقعات التي أعلنتها الحكومة بتحديد معدل النمو في 3,7 %، ومعدل عجز الميزانية في 4 %، ومعدل التضخم في 2,5 %، والمحصول الزراعي من الحبوب في 75 مليون قنطار، ومتوسط سعر غاز البوتان في 500 دولار أمريكي للطن، فإننا نتساءل هل تم اعتماد نفس منهجية السنتين السابقتين، وهل سنحقق التباعد الكبير بين المتوقع والمحقق، إذ لم تحقق الحكومة خلال السنتين السابقتين أي رقم أعلنته في ما يخص النمو والتضخم والعجز، وهو ما يعني أن هناك مشكلا في المنهجية أو أن الحكومة تحرص على التوازنات الرقمية التي تحاول تقديمها.
فعلى سبيل المثال، توقعت الحكومة سنة 2022 أن تكون نسبة النمو 3,2% بينما ظلت نسبة النمو في حدود 1,3 %، وأن تتحكم في نسبة التضخم في حدود 1,2 % في حين ارتفعت نسبة التضخم إلى 6,6 %. وفي سنة 2023، توقعت أن تكون نسبة النمو 4% بينما ستنتهي نسبة النمو إلى 3,4 %، وأن تظل نسبة التضخم في حدود 2 % في حين ستنتهي نسبة التضخم إلى 6 %.
إن فرضية الحكومة بخصوص مستويات التضخم بعيدة كل البعد عن الواقع المعيش للمغاربة، خاصة في ظل استقرار مجموعة من المواد الاستهلاكية في الارتفاع، بالإضافة إلى التدابير التي جئتم بها، والتي ستضر بالقدرة الشرائية للمواطن (الزيادة في الضريبة على القيمة المضافة بالنسبة للماء والكهرباء والنقل). وبالتالي فالحكومة لا تستشعر خطورة ما توقعته التقارير الدولية، وعلى رأسها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، من أن مواجهة التضخم ستكون سنة 2024 أولوية الأولويات بالنسبة للاقتصادات العالمية.
أضف إلى ذلك أنه استحضارا لأرقام الموارد والتحملات المسجلة في المشروع، وفي علاقة مباشرة بمستويات المديونية وضعف نسبة النمو، سيكون من الصعب أن تحقق الحكومة نسبة عجز للميزانية في حدود 4 % من الناتج الداخلي الخام.
ولذلك، نتساءل هل بهذه الطريقة ستحقق الحكومة ما التزمتم به «بالرفع من وتيرة النمو إلى معدل 4% خلال الخمس سنوات»؟ فنسبة النمو المفترضة برسم 2024 وتلك المحققة سنتي 2022 و2023، تبقى أقل بكثير من نسبة 4% كحد أدنى على مدى خمس سنوات، والتي وعد بها التصريح الحكومي أمام البرلمان. كما أننا نشكك في تحقيق معدل النمو 4,5 % المعلن في أفق انتهاء سنة 2023، بالنظر إلى أن الحكومة جعلته رهينا بالتحكم في النفقات وبتحصيل المداخيل: الموارد المتأتية من المؤسسات العمومية والتمويلات المبتكرة والمداخيل الجبائية، علما أننا في نهاية السنة تقريبا.
وعلاوة على ذلك، لا يمكن لنسب النمو المتوقعة لسنة 2024 والمحققة بالنسبة للسنتين السالفتين، بأي شكل من الأشكال، أن تستوعب الوافدين سنويا على سوق الشغل، خاصة أمام المعطيات التي تقدمها المندوبية السامية للتخطيط حول النشاط والشغل والبطالة في النصف الأول من سنة 2023، والتي تفيد، مقارنة مع الفصل الأول من سنة 2022، فقدان 280.000 منصب شغل، منها 229.000 منصب بالوسط القروي (الذين سينتقلون إلى المدن وضواحيها) و51.000 منصب بالوسط الحضري. كما تسجل نفس المعطيات تزايد عدد العاطلين بحوالي 83.000 شخص، منها 67.000 بالوسط الحضري و16.000 بالوسط القروي، وارتفاع حجم البطالة التي همت 1.549.000 شخص، وانتقال معدل البطالة من12,1 % إلى 12,9 % على المستوى الوطني.
إنها أرقام الواقع العنيد التي تتناقض مع كل الخطاب الوردي الذي نستمع إليه على لسان أعضاء الحكومة والأغلبية البرلمانية. للحكومة واقعها الافتراضي ولأحزابها المتحالفة واقعها الذي تخيلته على شكل أحلام وردية خلال الحملة الانتخابية، لكن للشعب المغربي الأصيل الواقع الذي لا يرتفع، والذي يعيشه يوميا بالصبر الازم والتضامن الواجب ومحبة الوطن الدائمة. وما نبهنا إليه في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية خلال الحملة الانتخابية من مغبة رفع الشعارات والوعود الحالمة تتأكد تداعياته السلبية اليوم على أرض الواقع.
أيتها السيدات، أيها السادة،
إننا في المعارضة الاتحادية قلقون من إيقاع العمل الحكومي في تدبير العديد من الملفات الاجتماعية الكبرى، وعلى رأسها ملف الحماية الاجتماعية، وهو ما يجعلنا نسائلكم بخصوص الأهداف والأرقام المعلن عنها في البداية والتي كنا نتوقع تحقيقها: هل تحققت أم لا بالنسبة لسنوات 2021 و2022 و2023؟
هل تم الوفاء فعلا بالتزام تعميم التغطية الصحية الإجبارية على 22 مليون مستفيد إضافي من التأمين الأساسي على المرض؟ وهل تم دمج الفئات الخاضعة للمساهمة المهنية الموحدة بالأرقام التي تم الإعلان عليها في الاتفاقيات الموقعة أمام جلالة الملك؟ فهناك قطاعات لم تكن قادرة على تحقيق الأرقام التي تم الإعلان عنها بالسنبة للفئات المستهدفة كما هو الشأن بالنسبة للفلاحين على سبيل المثال.
إننا نتساءل، في هذا الملف الاستراتيجي، عن الأرقام المحققة بالنسبة لتحويل المسجلين في نظام «راميد» إلى النظام الجديد، وما هي المشاكل المترتبة على ذلك لنستطيع الإجابة عنها معالجتها. ونتساءل أيضا عن تمويل وديمومة تمويل هذا الورش الكبير والذي يتطلب في أفق 2025 تخصيص مبلغ إجمالي سنوي مقداره 51 مليار درهم، منها 23 مليار سيتم تمويلها من الميزانية العامة للدولة.
ملف آخر بنفس الوزن والأهمية يطرح أكثر من علامات استفهام في كيفية تدبيره من طرف الحكومة، ويتعلق الأمر بملف هيئة التدريس. فبعد أن استبشرنا خيرا في البداية أن الحكومة لها رغبة في مأسسة الحوار الاجتماعي وأنها تعطي إشارات للالتزام بوعودها، لكن ما وقع اليوم يدل على أن المواطن المغربي له ذاكرة قوية ولا ينسى بسهولة الوعود التي تقدمت بها أحزاب التحالف الحكومي.
مجموعة من الفئات، بعد مرور ما يقرب من نصف الولاية الحكومية، لم تعد مطمئنة على تنفيذ الالتزامات، ومنها: رد الاعتبار لمهنة التدريس بالرفع من الحد الأدنى للأجرة الصافية الشهرية إلى 7.500 درهم، بزيادة 2.500 درهم. فهل رد الاعتبار يكون بإخراج الأساتذة إلى الشارع بدل تعزيز الحوار وتنفيذ الالتزامات؟
لم تتنكر الحكومة فقط لهذا الالتزام، بل تنكرت للعديد من الوعود التي لم تعد للأسف الشديد أرضية للسياسات المالية الحكومية وأصبحت الحكومة نموذجا لهدر الزمن السياسي في تنفيذ الالتزامات:
أين «مدخول الكرامة» لفائدة المسنين (فوق 65 سنة) الذي وعدت الحكومة بالشروع في صرفه في الربع الأخير من 2022 على شكل تحويل نقدي تدريجي يمول من صندوق التماسك الاجتماعي يبدأ بمبلغ شهري 400 درهم في 2022 ويخضع للزيادة في 2023 و2024 ليصل إلى 1.000 درهم في 2026؟
أين هو الدعم المخصص للأشخاص في وضعية إعاقة الذي وعدت الحكومة بصرفه ابتداء من 2022 بمنح ميزانية سنوية قدرها 500 مليون درهم للجمعيات العاملة في المجال وفق دفتر تحملات تحدده الدولة لتقديم خدمات معينة؟
أين المراقبة الطبية الإجبارية المجانية لجميع النساء الحوامل، وطبيب الأسرة، والبطاقة الطبية الذكية، ودور الحضانة، والجواز التعليمي الرقمي، وشهادة المدرس الرقمي، وفضاءات تشغيل الشباب، وشبابيك «دار الأسرة»، وتأهيل وتطوير 200 مركز قروي، وإنشاء السدود ومحطات تحلية ماء البحر، وغيرها.
لا شيء تحقق مع كامل الأسف ونحن على مقربة من منتصف الولاية الحكومية.
أيتها السيدات، أيها السادة،
ونحن نناقش مشروع قانون المالية، نتساءل عن عدم استضافة الإعلام العمومي لأي مسؤول حكومي أو فاعل برلماني أو حزبي أو نقابي، ولا نقبل أن يظل الإعلام العمومي حكرا على بعض الأسماء وأن يتم قتل النقاش السياسي بهذه الطريقة، وعلى الحكومة أن تتحمل مسؤوليتها كاملة في هذا الصدد لتحرير الإعلام العمومي من الرؤية السائدة.
بالنسبة للصحة، هناك مجهود كبير ملحوظ، لكن هناك حقيقة أخرى في الواقع، ولا يمكن أن نقول كل هذا الكلام الوردي عن الصحة، والمواطن لا يجد له أثرا في المستعجلات، أو وجود العديد من المستوصفات والمراكز الصحية دون موارد بشرية من أطر طبية وممرضين. وغير مقبول اليوم ألا نتغلب علة الصعوبات المرتبطة بتوفير الموارد البشرية الضرورية، ونحن نبذل مجهودا كبيرا ومهما على مستوى البنيات التحتية الصحية.
وبالنسبة للفلاحة، ما زلنا في حاجة لتقييم المخطط الأخضر، ونعيد التأكيد مرة أخرى أنه بدون تقييم المخطط الأخضر بنجاحاته الباهرة، سيظل الجيل الأخضر مجرد صدى، لأنه سيظل رهينة لنفس الفئات المستفيدة في غياب استفادة الفلاحين الصغار. والمستقبل لن يكون بهذه الطريقة. وبالنسبة للرياضة، ننتهز هذه الفرصة لنهنئ الجامعة الملكية لكرة القدم على المجهود الكبير الذي بذلته، ونؤكد أن ما قالته الرسالة الملكية الموجهة للمناظرة الوطنية حول الرياضة بالصخيرات، لم تنفذه في محاوره الخمسة إلا هذه الجامعة. لذلك، نسائل الحكومة عن الجامعات الرياضية الأخرى، عن جامعة ألعاب القوى وضياع الرصيد الذي حققه المغاربة في السابق حتى أصبحنا نشارك في المنتديات الدولية دون تحقيق النتائج السالفة. نفس الأمر يتعلق بجامعات رياضة سباق الدراجات ورياضة الملاكمة. والسؤال العريض هنا: ماذا أعددنا للألعاب الأولمبية بباريس سنة 2024؟ ومن سكون مسؤولا عن المشاركة فيها؟ وأين هي اللجنة الأولمبية؟
أيتها السيدات، أيها السادة،
من موقعنا في المعارضة المسؤولة والمبادرة، حرصنا على التفاعل البناء مع مشروع قانون المالية لسنة 2024 سواء بالدراسة المعمقة لمختلف وثائقه ومقتضياته، وبالمناقشة المستفيضة لمواده وبنوده داخل لجنة المالية والتنمية الاقتصادية نهارا وليلا، وبالتالي، تقدمنا بما مجموعه 160 تعديلا على المشروع المعروض على أنظارنا، أي حوالي 40 % من مجموع التعديلات المقدمة البالغ عددها 411 تعديلا، والقسط الأوفر في عدد ما تقدمت به المعارضة.
واعتبارا لكوننا قوة اقتراحية، بادرنا إلى بلورة مقتضيات جديدة تهم 74 مادة تتضمن بدائل حقيقية وقابلة للتنفيذ، إضافة إلى 86 تعديلا على المقتضيات التي جاء بها المشروع. وقد همت تعديلات المعارضة الاتحادية الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطن، ودعم الطبقات الفقيرة والمتوسطة بما مجموعه 83 تعديلا، وتعزيز الحكامة العمومية في المنظومة الجبائية وتبسيط المساطر وصيانة حقوق المرتفقين بما مجموعه 31 تعديلا، والحفاظ على الصحة العمومية وحماية المستهلك ب 21 تعديلا، ودعم الشغل، وتشجيع المقاولات الصغرى والمتوسطة والمقاول الذاتي بما مجموعه 13 تعديلا، ودعم المجتمع المدني وتعزيز التنمية الثقافية والرياضية ب 12 تعديلا.
ومع على الرغم من كل هذا المجهود النوعي والكمي، لم تجد الحكومة حرجا في تجاهل مقترحاتنا البناءة حيث رفضت كل التعديلات دونما مبررات مقبولة، ولم تتفاعل بالإيجاب إلا مع تعديلين يتيمين وملاءمتهما، بعد اضطرار الحكومة للتراجع عن الزيادات التي جاءت بها في رفع الضريبة على القيمة المضافة لاستهلاك الماء واستعمال النقل.
ولذلك، نستغرب منطق حكومتكم في رفض اقتراحاتنا الرامية إلى تعبئة موارد مالية إضافية للدولة وفي نفس الآن حماية صحة المواطن والأجيال الناشئة، ورفض رفع الضريبة على المنتوجات المستوردة من أجل حماية المنتوج الوطني، ورفض تحسين مداخيل الطبقة المتوسطة من خلال الرفع في الأجور وتخفيض الضريبة على الدخل وتحمل نسبة من نفقات الخدمات الصحية والتربوية، ودعم السكن الخاص بها، وغيرها.
فأي منطق هذا الذي تعتمدونه وأنتم ترفعون شعار الدولة الاجتماعية، ألا تجدون أدنى حرج للزيادة في الضريبة على القيمة المضافة لاستهلاك الكهرباء وتغذية الرضع وصغار الأطفال والأجهزة الكهربائية للاستعمال المنزلي والهواتف الذكية وغيرها. فكل ما تقترحونه عنوانه الأساسي «الزيادة»، في رسوم الاستيراد، في الضريبة الداخلية على الاستهلاك، في الضريبة على القيمة المضافة، في المديونية، في نفقات التسيير، في عجز الميزانية، ومن شأن ذلك أن يضعف القدرة الشرائية للمواطن، ويخنق الطبقة المتوسطة، ويجهز على ما تبقى من مطبخ المغاربة.
أيتها السيدات، أيها السادة،
سنذكركم اليوم بما قلناه لكم في هذه القاعة أثناء مناقشة البرنامج الحكومي، قلنا لكم آنذاك أننا سنكون معارضة مسؤولة، واعية ويقظة، سنكون مسؤولين بمبادراتنا ورقابتنا الجادة، وأننا واعون بأن حقل الخصام واضح: مع الفقر، مع التقهقر الاقتصادي والاجتماعي، مع الفكر اللاعقلاني والتقليد الأعمى، مع طغيان المنطق المالي وانحراف السياسات العمومية. واليوم نؤكد لكم بترافعنا وتصويتنا ضد مشروع قانون المالية لسنة 2024 ما سبق أن قلناه لأننا أوفياء لمبادئنا الاشتراكية الديمقراطية، ولأننا منسجمون مع ذواتنا في كل ما يرتبط بالدفاع عن القوات الشعبية، وعن المكتسبات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للمغاربة.
نذكركم ونحن في منتصف الولاية الحكومية، والحكومة لا تجد حرجا في الوعود الانتخابية الكاذبة، ولا تجد حرجا في بيع الأوهام، ولا تجد حرجا في عدم تنفيذ التزامات البرنامج الحكومي.
لذلك، لا نجد أدنى حرج في المعارضة الاتحادية لكي نصوت ضد مشروع قانون المالية لسنة 2024، ضد مشروع خجول يكرس استمرار السياسات الليبرالية ولا يوازي الطموح التنموي لبلادنا، وضد مشروع خارج الزمن السياسي ومفتقد للجرأة والإبداع والنفس الإصلاحي القوي التي تتطلبه المرحلة.