رائحة تضارب المصالح تفوح من «صفقة خريطة الفساد في الصحة» .. الهيئة الوطنية للنزاهة تجمد تنفيذ صفقة بـ2.49 مليون درهم وتفتح تحقيقا في ملابساتها

 

في تطور خطير يعيد إلى الواجهة النقاش حول تضارب المصالح الذي يتهدد الصفقات العمومية في ظل الحكومة الحالية، أعلنت الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها عن توقيف تنفيذ صفقة إنجاز “خريطة مخاطر الفساد في قطاع الصحة”، بعد بروز معطيات إعلامية تشير إلى احتمال وجود تقاطع غير مشروع بين المصالح الخاصة والعامة داخل العملية التعاقدية.
الهيئة أوضحت، في بلاغ رسمي توصلت به جريدة الاتحاد الاشتراكي، أن رئيسها أصدر قرارا يقضي بتعليق تسليم أمر الخدمة المتعلق ببدء تنفيذ المشروع، إلى حين البت في الموضوع من طرف اللجنة الوطنية للطلبيات العمومية، التي أحيل عليها الملف بجميع وثائقه وفقا للمقتضيات القانونية والتنظيمية الجاري بها العمل. هذا القرار، وإن اتخذ في صيغة احترازية، يعكس حجم الحرج الذي بات يطبع تدبير الصفقات العمومية في عدد من القطاعات الحساسة، حيث تتزايد المؤشرات على ضعف آليات التحصين من تضارب المصالح الذي قد يفرغ قواعد المنافسة من مضمونها ويقوض الثقة في المؤسسات.
وأضاف البلاغ أن الهيئة قررت فتح بحث معمق حول الادعاءات التي أثيرت بشأن الجهة التي فازت بالصفقة، مستندة إلى المقتضيات الدستورية وإلى المعايير الدولية الخاصة بالوقاية من تضارب المصالح. وأكدت أنها ستتعامل مع هذه القضية بالصرامة المطلوبة، في احترام تام لمبادئ الشفافية والمساواة وتكافؤ الفرص. ويبدو أن الهيئة تسعى، من خلال هذا الموقف، إلى تثبيت مبدأ المساءلة في كل ما يتعلق بتدبير المال العام، وإلى بعث رسالة واضحة بأن مكافحة الفساد لا يمكن أن تكون انتقائية أو خاضعة للمزاج السياسي.
القرار يأتي في وقت تتعالى فيه الأصوات المحذرة من تنامي ظاهرة تضارب المصالح داخل الأجهزة الحكومية والمؤسسات العمومية، في ظل ضعف المراقبة القبلية وتداخل المصالح الاقتصادية والسياسية، وهو ما يجعل كل صفقة أو طلب عروض محتمل أن يتحول إلى مجال نفوذ مغلق يلتقي فيه القرار الإداري بالمصلحة الخاصة. ولعل حساسية قطاع الصحة، الذي شملته الصفقة، تضاعف من أهمية هذا التحقيق، بالنظر إلى ما عرفه هذا القطاع من فضائح متكررة همت تدبير الأدوية والمستلزمات والمعدات الطبية وتوزيع الموارد البشرية، ما جعل منه أحد أكثر القطاعات عرضة للاتهامات بالرشوة وسوء التدبير.
وكانت الهيئة الوطنية للنزاهة قد أطلقت هذه الصفقة بقيمة 2.49 مليون درهم، بهدف إعداد خريطة وطنية لمخاطر الفساد في قطاع الصحة، ترتكز على تشخيص دقيق لبؤر الخلل في ثلاثة مجالات رئيسية: مسار المريض داخل المؤسسات الصحية، وسلسلة القيمة الخاصة بالأدوية والمستلزمات، ثم القطاع الصحي الخاص. وقد كان من المقرر أن تعتمد الدراسة على بحوث ميدانية واستبيانات ومقابلات تشمل 2500 مواطن و100 مهني صحي، فضلا عن مجموعات تركيز لتقوية المصداقية وضمان الحياد العلمي للنتائج.
وبينما تنتظر الهيئة نتائج التحقيق الذي فتحته، أكدت أنها ستطلع الرأي العام على القرار النهائي الذي سيتخذه مجلسها بعد التوصل برأي اللجنة الوطنية للطلبيات العمومية واستكمال التحريات الجارية. وأشارت إلى أن هذا القرار يندرج ضمن نهجها الصارم للحفاظ على مصداقية عملها وتعزيز الثقة في مسار محاربة الفساد، وترسيخ مبادئ النزاهة في تدبير المال العام والسياسات العمومية.
غير أن هذا الملف، رغم طابعه التقني، يفتح بابا واسعا للتساؤل حول مدى قدرة الحكومة على محاصرة تضارب المصالح في تدبير الصفقات العمومية، خصوصا في ظل التزايد الملحوظ لحالات الجمع بين مواقع القرار والمصالح الخاصة في قطاعات حيوية. فتعليق صفقة خريطة الفساد في قطاع الصحة ليس مجرد إجراء إداري، بل مؤشر على أزمة أعمق تمس منظومة النزاهة برمتها، وتؤكد أن محاربة الفساد لا يمكن أن تنجح ما لم تُحصَّن مؤسسات الدولة من اختراق المصالح المتشابكة التي تضعف الشفافية وتغذي الشبهات.


الكاتب : جلال كندالي

  

بتاريخ : 17/10/2025