لنبدأ بلون الغلاف والعنوان، وبعد ذلك نحاور العمل، الذي سمى نفسه نصوصا نثرية، للفنان والشاعر والروائي المصطفى غزلاني.
كما يبدو، لمن بيديه الكتاب، أن لون غلاف هذا العمل لون طيني مشتق عن الأحمر. ونحن في متابعتنا لانهمامات هذا الرجل، أن الأرض، بما تحمله من كثافة رمزية- ثقافية  ومنحدر الطين في مختلف ألوانه، هي ما تشكل الموضوع  الجاذب لكيان هذا الفنان بامتياز.
أما بالنسبة للعنوان «راعون بلا أحصنة»، سنتوسل باللغة عساها تفتح لنا أفقا هيرمينوطيقيا لولوج عوالم هذا العمل:
هكذا فكلمة «راعون»، مأخوذة من مادة «ر- ا- ع»، ومنها راع والجمع راعون. والراعي في هذا السياق، هو الحافظ للأمانة، ومنه « والذين على أمانتهم راعون».
لكن العنوان يفيد أن هؤلاء «الراعون»، هم «بلا» أحصنة وليس «بدون» أحصنة. وما معنى نعتهم بهذه الكلمة الصغيرة: بلا، المثبتة في العنوان؟
اسم أحصنة مصدر لكلمة «حصن» ومنها «حصانة»، كما منها كذلك، «الحصان» الصالح للإلقاح. هذا من بين ما تقوله اللغة. ولكن: ما علاقة الرعاية بالحصان؟ وكيف يمكن تأويل «قوة شحنة» ما يأتينا مما هو مركب من ثلاثة أحرف «ب – ل – ا» متوسطا اسمي العنوان لينقال معه ما تفيد به هذه الكلمة: «بلا»؟
فنقول: إنه، مع الأسف، أن القيمين على الأمانة يمتطون أشباه أحصنة، لأنها اللا خيل، أو أشباه أحصنة، لأنها مصابة بالخصاء، هي غير صالحة للإخصاب، ما يجعل مصير السلالة هو الانقراض، من فوق هذه الأرض، بقوة الزمن ومكره.
وما معنى أن العنوان الرئيس، يذيل بعبارة كاشفة لهوية العمل، حيث تفيد أن ما «سيتحرر» أي أن ما ستشق له الطريق، ليحصل على حريته في ما هو يظهر منكتبا، هو مجرد «نصوص» و «نثرية» وهو مجرد تنبيه للمتلقي، بصفته كاتبا ثانيا لعين العمل، لما اعتادت أدبيات النقد على اعتباره مضادا له، وهو الشعر. وهو الأمر الذي يقتضي فتح نقاش بصدد ماهية كل من هذا الذي نتمثله بوصفه نثرا، وهذا الذي نسميه شعرا، من خارج الميتافيزيقا التي تُرجمت عن الإغريق، لتشرّع داخل صنافات قاطعة لأصناف الأقاويل، شرائطها ومبادئها.
غير أنه يمكن أن نسوّغ مشروعية هذا التوصيف، الوقوف على كلمة حمالة لدلالة مكثفة وردت في ما رسمه الصديق غزلاني، بوصفه إهداء، وهي كلمة «مُسارات» برفع الحرف الأول من عين الكلمة والتشديد على حرف السين الوارد فيها. وتزداد الدلالة كثافة ومرارة، لما يعتبر هذه المسارات هي في حالة « انتظار…بلا أفق».
وكأن هذا الصنف من الكتابة، «مسارات»، لا يهدف إلى القول بقدر ما إلى صد القول، إنها صراع عنيف، عنيد مع ما لا يجوز كتابته إلا باللمح. لهذا سيجد قارئ هذه النصوص نفسه، وجها لوجه مع اللا إفصاح، على حد ما ذهب إليه المعري في قوله: «نقول على المجاز وقد علمنا/ بأن الأمر ليس كما نقول». (الأدب والميتافيزيقا، عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال، ص 37).
وبما أن المسارات، هي من «السر»، نحن نعرف أن هذا الأخير أي السر، هو ما لا يستطيع المرء «تحريره»، سوى بلغة المجاز. من هنا، ضرورة الكتابة مع استغلال «خبث» اللغة، خاصة وأن «الصمت» ليس صمتا مادام هناك لفظ يومئ إلى وجوده. وتلك هي المفارقة. هذه النصوص إذن، هي مسارات بمعنى «محاولة» للإفصاح وليس للإفشاء،  أو قل هي بمثابة   كتابة بلغة إظهارية                        une sorte de monstration
وهي كذلك، لأنها تحاول مراوغة اللغة، من أجل كشف هذا الذي يريد أن يظل طي الكتمان أو الاختفاء.
ما يثير الانتباه، في أسلوب كتابة هذه النصوص، هو أنه يقوم في معظم ما انكتب، على عبارة جد قصيرة تتكون من فعل وفاعل. وهي بهذا الرسم تكون عبارة عن «عيون» تنظر إلى عيني القارئ، لتتخاطب تلك النصوص معه، «بكمية» مكثفة من القول. لذلك جاء الكلام كلاما إظهاريا باللمح أو الإماءة.
Il s’agit seulement de faire signe, ou d’être en chemin vers ailleurs, vers le sens de l’errance ou la destination…
أو قل هو كلام ذو جاذبية تحثّ القارئ على «أن يمشي، يمتطي المكان دون صوب»، يجد نفسه تابعا خطو الكلام  وكأنه في دروب موصدة، فقط هو مشاء «دون صوب».
في بعض اللحظات من الكتابة، يخيل إليك أنك تقف وجها لوجه مع كتابة شذرية، تأتيك معها «شعلة فكر» كالوميض، عسى أن تتمكن من متابعة السير فقط، من دون أن تلوي على «معنى» ما، وذلك لأن النصوص نفسها تشير إلى أن الكاتب، هو عينه، في المتاه، هو فقط «مشاء» بدون صوب. فقط هنا «نوتة» تحملكما «إلى أبعد البقاع».
يذكرني ما استوقفني من كلام، في ما صادفته عند الشاعر تراكل، وهو ما يفيد أن « الروح على هذه الأرض تستشعر نفسها غريبة: روح تمشي من دون أن «تكون» وهي كذلك لأنها « لم تسكن بعد» على هذه الأرض، وهي في هذه الحالة في «لا مكان»، هي فقط في فضاء، بمعنى في المتساوي من الخلاء.
روح مشاءة فقط. رحالة دون إقامة. من هنا فهي تعيش «شيئا» من الغربة أو الاغتراب.
ومما شذر من كلام هذه النصوص، نحاول تركيب ما يلي:
عازف الأكورديون لا ينتظر مبعوثا.
غير معني بالأثر حوله.
إنه الآن وحيد لا يقاسم إلا الأكورديون رئته.
كالأعمى: يتحسس ضوء العتمة. يمشي. المسافة عدم.
يتابع الخطو. لا شيء خلف. لا شيء أمام.
هو الآن يتقدم اتجاه اللاعالم.
لا يعبأ إلا بإيقاع الوجود لا بأشيائه.
يتقدم لئلا يُسحب منه أديم الوطن.
الوجود عدم دون المشي فيه أو إليه.

ها نحن أمام كتابة «تصويرية» شخوصها دون ملامح، فقط هناك نعوت: العازف، الرجل الذي يمشي، الواقف على الجسر، الجالس، الصديق، غير أن «نقطتهم» هي المشي، مهما تعددت العوالم. المشي وحيدا باغتراب، لا علاقة لهذا الوضع باليأس أو البؤس، فقط الأنا في الطريق صوب «ما نرمم به صدع الغرف الداخلية أو على الأقل ننيرها». فقط هو يمشي مغتربا، لأن «الحياة تركت النور خلفها». وهو ما يجعل المشاء دوما في موضع «البين بين» ، لكي لا يجرفه تيار القطيع. متوحد مع ذاته، يعيش قلقه الوجودي، في زمن توارى في «الصديق» أو أمسى من الندرة.  يقول: عن أي صديق أبحث، عمن يجيد نشيد الكلام أم من يجيد صلاة السكات؟ لا جدوى من صداقة ملمسها الوحيد الكلام.
لا نخشى إلا على ما نحب.
لا نحب إلا ما ينتمي إلى وطننا الخاص.
بالكاد نتعلم كيف نختار الأشياء التي نحب.
أستسمحك صديقي إن حاولت استضافتك للحوار، بحيث أن كل قراءة هي في الأصل حوار، فقط بالتركيز على «عيون» من هذه النصوص، وإعادة نسجها، وكأنها كتابة شذرية لكي لا أقول شعرية، وإن جاء توصيفك لها باعتبارها نصوصا نثرية. لكن المهم بالنسبة لي، هو أن ثمة قولا مشعا يضيء بحسبان، وبحيث كانت اللغة لغة وميض أو لمح. ونفسر ذلك بكون الأمر لا يتعلق بمجرد تمنع إرادي عن البوح، بقدر ما أن الأمر يفهم على أساس أن ما يتنطع عن «الانقيال» يرتبط بماهية الحقيقة، بما هي حقيقة الوجود، هاته التي تتميز بالانكشاف «بكمية» ما لأنها تهاب أن تظهر «عارية»، بدون «لباس» ومنه « اللبس» و «شبهة» القول.
والآن السؤال: ما العمل أمام هذا الوضع الذي هيمن فيه « الراعون بلا أحصنة»؟ يحرثون ولا يحصدون. لكن الحرث والحصاد يقومان على ما تم زرعه، هل هم يزرعون بالفعل؟ أم أنهم يمثلون؟
إنهم يعيشون «الدوخة الكبرى»، معتبرين الأرض «عاهرة». والحقيقة هي أنهم» نسوا من أي جهات الأرض يستعيدون القنديل». ينشدون سياسة التيه والإنهاك المُتيّه، متوهمين أنهم «حراس المعبد وخير الأقوام».
وأنت تتابع قول هذه النصوص، تنتهي إلى قناعة تفيد أن الفكر المتقد فكر مشع، بلوري، يجعل الكتابة «نارية»، بها ومعها، يشق دروب مساراته و «مُساراته» ماشيا، سارقا، مكررا «فعلة» بروميثوس، الشعلة التي تركتها الحياة خلفها. هذه النار هي التي لا يكل الفكر عن تقاسمها ليصاب القارئ بكمية من شظاياها المحرقة.
*باحث في الفلسفة