إلى جانب الأدب الغرائبي الذي شاع استعماله في الإستوغرافيا الفرنسية إلى حد التخمة ، تعزز الرصيد الوثائقي الفرنسي عن الأقطار غير المألوفة بمصنف جديد تحت يافطة «الأدب الحربي». يقصد بالأدب الحربي مجمل الإنتاجات الفكرية التي أبدعها محاربون أو مراسلون حربيون معتمدون من طرف جرائد ومجلات. ومن بين الأسماء البارزة التي تندرج ضمن هذا الإطار نذكر إميل نولي. لسنا هنا أمام اسم حقيقي، وإنما أمام اسم مستعار لقبطان فرنسي يدعى ديطانجي لقي حتفه في غمار الحرب العالمية الأولى. وقبل حادث الوفاة، كانت الأكاديمية الفرنسية قد وشحته بجائزتها الكبرى في الآداب سنة 1915.
إميل نولي ضابط في البحرية الفرنسية إلى جانب كونه كاتبا من طراز فريد، وملاحظا دقيقا، وواصفا نبيها في نقل أدق التفاصيل. يظهر هذا المنحى في كتبه الأربعة التي خلفها سواء حول الهند الصينية «المهبول هيان و»قارب بلاد النام»، أو حول المغرب «الغازي» و»رجال الحرب في المغرب». الكتاب الأخير عبارة عن مذكرة رحلة بما تتضمنه الكلمة من إيحاء في التصنيف.
يحتفي هذا الكتاب بمحاربي فرنسا بكافة مستوياتهم ودرجاتهم، ويقترب من حياة الجنود وأنشطتهم اليومية وحقيقتهم الانسانية. قبل صدور الكتاب ضُحى عهد الحماية والحجر على المغرب، تعرَّف القارئ الفرنسي على مضامينه في شكل مقالات نشرت في مجلة باريز، وكان وقتها إميل نولي يشغل صفة الليوتنان التي أهلته لإدارة فرقة القناصة السينغاليين.
تبدأ أولى صفحات كتاب “رجال الحرب في المغرب” بتصوير رحلة إنزال أفواج الجنود السينغاليين القادمين من السودان إلى ميناء الدار البيضاء سنة 1911، وينتقل إلى المواجهات التي تشابك فيها الجيش الفرنسي مع قبائل زمور وقبائل زعير. يتميز المغربي حسب نولي بسرعة حركته، وعدم ثباته في مكان بسبب اعتياده على حياة الترحال، وبالتالي، يفرض طريقته في الحرب على عدوه. يشبه هذا النمط من الحرب حرب العصابات. عن قبائل زعير ترك لنا نولي وصفا عن طبائع الحرب: “…منشقون شداد، مسلحون ببنادق وينشستر جيدة، ويملكون مهارة في استخدامها…”. ونعلم حينها مدى انشغال الرأي العام الفرنسي بمعرفة حياة الجنود في المغرب وأحوال ضباطهم.
لا يهتم نولي كثيرا بتصوير المشاهد والمناظر، بقدر ما يشرك المتتبع معه في لعبة تصوير اللحظات النفسية للجنود الأفارقة. ثمة مقاطع كثيرة من الكتاب يتوشح فيها نولي برداء المحلل النفساني الذي يدقق أكثر في جوانب تتعلق بطبائع الجنود: “…إنه شخص قصير القامة، ضامر الجسم، أسمر، قوي الظهر، لا تبدو عليه الأناقة ولكنه جذاب ببذلته الكاكي، غير أنه رجل صلب، لا يبالي بالتعب، ويعطي الانطباع بقوته الهادئة، وبعقله السليم وذكائه المتوقد…لا شيء يخمد همته، بما في ذلك بطء ترقيته، وغطرسة رؤسائه المنتشين بنجاحاتهم الشخصية، وقساوة المهمات الشاقة التي توكل إليه…ومثل نموذج الضابط الناجح في صفوفنا، فهو يملك ناصية فن قيادة وإرشاد كل فرد من جنوده…وإذا كانت لا تساوره أية أوهام بشأن الأمجاد التي سيحرزها عبر قيامه بهذه الحملة، فإنه يظل محافظا على التوازن الوراثي لملكاته، والتقدير الرفيع لواجباته المهنية. وهكذا يمضي في الطريق، مستعينا بعصاه، من دون أن يحتج، أو يتخلى عن هدوئه، أو يصرف نظره عن فصيلته…بينما لقي الآلاف من طينته حتفهم، بمختلف الطرق، وهم يدافعون عن مجد جنرالات الملك أو الامبراطور أو الجمهورية. وإذا كان السنيان قد طوى أسماءهم، فإن اسم صديقي هذا كذلك لن يتردد أبدا على شفاه الحشود. غير أن انتصارات الأمس واليوم، هو الذي أحرزها وسيحرزها…”.
نفس التحليل ينصرف نحو فهم طباع الجنود البسطاء. ينتقل نولي في حركة دورانية متعاقبة من وصف طبائع العسكريين المحترفين والقناصة الأهليين والجنود البسطاء، أو لم تتأكد هذه الطبائع حقيقة في الحرب العالمية الأولى؟ أو لم تتأكد حقيقة أن الجندي الفرنسي يرضخ للإغواء أكثر ما يرضخ للتهديد في مجريات الحرب العالمية الأولى؟ حتى بشهادة أحد الضباط الأفارقة، السينغالي سامبا ديالو حينما أسرَّ إلى رئيسه أن “الفرنسيين قد خبروا طريقة الاستقطاب”.
يسرد إميل نولي حكاية المغربي عمَّار الذي كان يحارب ضد الفرنسيين، سرعان ما تم توظيفه في صفوف الكوم داخل الجيش الفرنسي إلى جانب رئيسه. وبما أنه تربى في الفوضى، يظهر نولي اندهاشه من طريقة تنظيم الجيش الفرنسي. صار عمَّار قناصا يعول عليه في جميع المعارك، نموذج لأداة الحرب التي يعول عليها. وحتى جماعات العاهرات، بنات الهوى خصص لهن نولي حيزا داخل كتابه، يَجُرْرن وراءهن قصصا حزينة، تدرجن من معاشرة الضابط إلى الرقيب، إلى الجندي وأخيرا إلى صغار الباعة. يختتم الكتاب بإشارات عن تضحيات وجهود المحاربين الفرنسيين الذين شاركوا في الحملة على المغرب سنة 1911.
خلفت الحوادث العسكرية التي شهدتها سنة 1907 صدى واسع في الرأي العام الفرنسي، وظهرت رسائل الليوتنان جاك روز فقيرة في متابعتها لتحرك الجيش الفرنسي في المغرب في غياب متابعات صحفية دقيقة لهذه الحوادث. غير أن سنة 1908 ستغير الوضع، سيعمد الصحفي دولاهاي إلى مواكبة حوادث تحرك الجيش الفرنسي في جريدة “رواية شاهد”، وسيقدم روجينال “انطباعاته حول الحملة” سنة 1909. بدوره سيتابع لادريت دولاشاريير الزوج سنة 1911 النتائج الأولى “للعمل العسكري في الشاوية”، دون أن ننسى ذكريات الكولونيل دو سانت- شابيل وكتاب القبطان بيريس.
مع حلول الحماية، سيحرر بيير خورات سنة 1913 كتابين، الأول بعنوان “في صفوف جنودنا بالمغرب” يُصور من خلاله تحرك الجنود المتوجهين من فاس نحو مكناس. والثاني بعنوان “مشاهد من التهدئة المغربية” ينقل بدقة فائقة تفاصيل الحملة العسكرية الفرنسية المتجهة نحو منطقة زعير سنة 1912. وكلاهما يزخران بتوصيفات عن نماذج من المحاربين، والأهالي والأعداء والمغامرين الذين يسيرون في ركاب الحملة العسكرية. وقد كانت أحداث فاس الدامية خلفت في ما مضى سرودا حربية مهمة في التأليف الفرنسي، ومنها كتاب ل. كابرون المعنون ب “في نجدة فاس”، وكتاب الكولونيل أزام الذي يتناول من خلاله تاريخ الحملة الفرنسية على مدينة فاس.
نزولا نحو الجنوب المغربي خلَّف القبطان كورني مذكراته الحربية حول غزو الجنوب. صدى هذه الحملة سنجده في كتاب القبطان سيكالدي “مباهج” ولويس بوط المراسل الصحفي “في قلب المغرب” سنة 1913. يهمنا في المقام الأول، التوقف عند لويس بوط الجامعي الذي ساقه القدر إلى المغرب لقضاء عطلة. يعمد لويس بوط إلى تصوير مشاهد من تحرك الجيش الفرنسي من الدار البيضاء نحو بوعثمان لمجابهة قوات أحمد الهيبة: “…قبل بضع سنوات، كان بإمكاننا الظن بأن فرنسا كانت على حافة اليأس من مغامرتها. فقد تنازلت عن جميع مشاريعها وبدت فريسة للعجز. بل وصارت تقبل بكل صنوف الإذلال…وهندما حلت الحرب على المغرب. وهنا بدت الجهود البطولية للبعض بمثابة مزية للجميع. فالجنود المحترفون والمتطوعون الجدد سيقومون بواجبهم بكل تلقائية ونشاط. والمسلمون المغاربة، الذين كانوا بالأمس أعداءنا، صاروا من مساعدينا الأوفياء. وهكذا منحت حرب المغرب لفرنسا جيشا جديدا، وكشفت لها عن قوتها التي كادت أن تكفل بها في لحظة ما…”.
في أعقاب الحرب الكبرى تابع السرد الحربي اهتمامه بالمغرب. ظهر ذلك في عدة كتابات فرنسية مثل كتاب القبطان روني فانلاند تحت عنوان: “في المغرب تحت قيادة ليوطي”. يحكي هذا الكتاب عن وقائع احتلال خنيفرة وبلاد زيان. وأيضا يمكن الوقوف عند كتابات كل من هنري دوغار ولويس طوماس وجان لويس عند وقائع الغزو الفرنسي للجنوب المغربي، وخاصة كتاب جورج بابان في كتابه “عبر المعسكرات والمدن” الذي يتتبع وقائع الغزو الفرنسي لمنطقة واويزغيت في الأطلس الكبير.
الملاحظ أن الانتاج الحربي كثَّف حضوره خلال حرب الريف. يقف القارئ تبعا لذلك، مذكرات، يوميات محاربين وربورتاجات صحفية ومراسلات حربية…يبقى من أهمها كتاب موريس تيان الذي يتناول تفاصيل الجبهة الريفية من وجهة نظر فرنسية، وأيضا كتاب بيير بورد ضابط الصف في اللفيف الكولونيالي، ورسائل الليوتنان جوبير، ويوميات القبطان داميدو والقبطان روغير…دون أن نغفل عن مؤلف الليوتنان كولونيل لور الذي يقدم فيه بتفصيل كبير يوميات الزحف، وينتقل إلى معالجة المسألة العسكرية، والمسائل السياسية والديبلوماسية.
في أعقاب الحرب الريفية التي شدت بالانتباه من حيث القيمة العسكرية، صدر كتاب الصحفي هوبير جاك المعنون “المغامرة الريفية وخباياها” سنة 1927، وقد حظي حينه بمواكبة اعلامية مهمة، مثله مثل كتابات هنري كليريس وبييرو باران. وحتى اللفيف الأجنبي نجحد له صدى في الاستوغرافيا الحربية، حيث حظي بمتابعة جورج مانو في كتاب “الرؤوس المحروقة” و”مغارة الصحراء” و”على ثخوم المغرب المتمرد”. وجورج مانو كان قد جاب ربوع المغرب كجندي ضمن صفوف اللفيف الأجنبي، قبل أن يصير صحافيا، ما جعل متابعته تحظى بالتقدير في الانتاج الحربي الفرنسي. كما أن الكومندان بيشكوف خلف حينها كتابا عن اللفيف تحت عنوان “اللفيف الأجنبي بالمغرب”. وكلاهما يصنفان ضمن الكتابات التي تناولت اللفيف الأجنبي من الداخل.
(نعتذر عن عدم إدراج المراجع بسبب طولها)