رحلة الزمن.. رحلة الحياة

 

منذ سنوات جد بعيدة وعشاق المخرج الأمريكي الكبير تيرانس ماليك ينتظرون بشغف بالغ أن يخرج إلى النور ذلك الفيلم غير المسبوق، الذي عكف عليه مخرجه لما يزيد على أربعة عقود، منذ أن كان الفيلم مجرد فكرة تختمر في رأسه. ومع نهاية العام الماضي، وعلى نحو غير معتاد كثيرًا سينمائيًا، خاصة في مجال السينما التسجيلية، وعلى نحو غير مسبوق أيضًا من جانب ماليك، أطلق المخرج أخيرًا فيلمه المنتظر، لكن في نسختين، واحدة طويلة بعنوان «رحلة الزمن .. رحلة الحياة»، والأخرى قصيرة بعنوان، «رحلة الزمن: تجربة الأيماكس». النسخة الأولى يبلغ طولها ساعة ونصف الساعة تقريبًا بأداء صوتي للممثلة كيت بلانشيت (بطلة فيلمه الروائي السابق «فارس الكؤوس»)، والنسخة الثانية يبلغ زمنها نصف الأولى تقريبًا، وبصوت الممثل براد بيت.
المثير في أمر هذا الفيلم ومخرجه – بصرف النظر عن مشروعية التساؤل حول تلك العقود الأربعة وإن كان إنجاز هذا الفيلم يتطلبها أم لا – هو اختيار المخرج نفسه وبمحض إرادته أن يخرج الفيلم في نسختين، ومرد ذلك ليس خضوعًا لأية ضغوط من جانب السوق أو الموزعين أو خلافه. أي أن في الأمر تعمدا من جانب ماليك، بدليل استعانته ببراد بيت للنسخة القصيرة وكيت بلانشيت للنسخة الطويلة واختلاف عنواني النسختين بعض الشيء. كما لا نعرف أي نسخة سبقت الأخرى في الإنجاز، وذلك لنقف على سبب اختياره لصوتين للنسختين بدلا من الاكتفاء بصوت ممثل واحد. ولماذا النسختان من الأصل؟ وهل يمكننا أن نرى هذا كله في سياق بحث ماليك الوجودي الدؤوب وتساؤلاته الفلسفية التي لا تنتهي، والتي طبعت أفلامه الأخيرة؟
تُفضِّل بعض مدارس النقد تناول الفيلم من داخله، بصرف النظر عن الحياة والمسيرة الإبداعية لمخرجه وما سبقه أو لحقه من أعمال وأفلام، وضرورة عدم المقارنة بينها وبين الفيلم موضع النقد. في حين تحبذ أخرى تناول العمل السينمائي في سياق مسيرة حياة المخرج، وتبيان مدى الاشتباك أو التداخل بين المراحل الإبداعية المختلفة للمخرج أو مدى الانسلاخ عنها والتمرد عليها، وإبراز ما للفيلم من علاقة بما سبقه أو لحقه من إبداع للمخرج. ومع العودة إلى فيلم ماليك الأخير، نجد أنه يفرض علينا، نظرًا لطبيعته وتركيبته وأسلوبه وتقنياته، ضرورة الربط، ولو ذهنيًا، بينه وبين فيلمه السابق، وربما إلى ما هو أبعد من فيلمه السابق. لكننا سنتوقف تحديدًا مع فيلمه قبل الأخير، نظرًا للتشابه الشديد بينه وبين فيلمه الأخير، رغم أن فيلمه قبل الأخير روائي والأخير تسجيلي بحت. لكن لماذا هذا الربط، وإلى أي شيء سيؤدي؟
منذ أن انتابت ماليك فورة النشاط تلك بعد فترة كمون لسنوات طويلة – انتهى من فيلم روائي أخير ربما يعرض بكان أو فينيسيا هذا العام – راح جل نشاطه يتركز حول طرحه لكافة الهواجس المُلحة التي باتت تشغله في المراحل الأخيرة من حياته أو ربما منذ وقت طويل. تلك الهواجس التي بات ماليك يتطرق إليها بمختلف الأشكال والأساليب والأنواع مع كل عمل إبداعي جديد يقدمه. وقد برز هذا على وجه التحديد والتكثيف مع فيلميه «فارس الكؤوس» و»رحلة الزمن.. رحلة الحياة». مع الأخذ في الاعتبار أن الفارق بين العملين، ليس فقط في الطبيعة جنسي الفيلم، روائي وتسجيلي، وإنما في توسيع ماليك لدائرة تساؤلاته لتشمل في عمله الأخير الكون برمته. بمعنى، في فيلم «فارس الكؤوس»، على سبيل مثال، انطلقت وانصبت ودارت تساؤلات مالك الدينية والفلسفية والحياتية والتأملية على لسان بطل فيلمه «ريك» (كريستيان بال)، في حين في فيلمه التسجيلي استعاض مالك عن البطل الروائي بصوت كيت بلانشيت، في النسخة الطويلة التي شاهدناها. والسؤال، لماذا شعر ماليك بأن رسالته في «فارس الكؤوس» لم تصل أو ربما وصلت لكن على نحو غير جيد أو أراد التأكيد عليها أكثر في فيلمه التسجيلي؟ أم أنه أراد أن يصل بأسئلته لأقصى أغوارها؟
نجدنا هنا، ومع كل فقرة تقريبًا، إزاء طرح العديد من الأسئلة أو التساؤلات المفتوحة، والتي نعجز كثيرًا عن الإجابة عنها. ومرد هذا بطبيعة الحال إلى ماليك ذاته، فقد اتخذ لنفسه في مراحله الأخيرة أو رأى أن صيغة طرح الأسئلة هي المناسبة والملائمة أكثر لعرض وجهة أو جهات نظره أو أنه لا يملك الإجابة على أي من تلك الأسئلة على نحو يقيني، ولذا اكتفى بصناعة عدة أفلام يطرح فيها على نفسه أولا، وعلى جمهوره ثانيًا، تلك الأسئلة الملحة، التي تكررت كثيرًا في فيلمه السابق، وها هي تتكرر ثانية في فيلمه الأخير. هل عجز مالك طوال تلك السنوات عن إيجاد ولو إجابة واحدة شافية عن أي سؤال من تلك الأسئلة؟ أم أن تلك باتت هي طريقته التي يرغب من خلالها في إشراك نفسه والمشاهد في تأمل ماهية تلك الأسئلة، والتفاعل معها، وخروج كل فرد منا بطريقة ما، بإجابة تخصه تتفق وحياته وخبرته؟
على ألسنة «كريستيان بال وكيت بلانشيت وناتالي بورتمان» طرحت العديد من الأسئلة الخاصة بـ «ريك»، حول وجوده وهويته وماضيه وحاضره ومستقبله وعمله وعلاقاته العاطفية إلى آخره، وكلها بطبيعية الحال أسئلة استعارية تتجاوز ما هو ذاتي وتتخطاه لما هو وجودي شامل. وفي «رحلة الزمن .. رحلة الحياة»، وحتى من خلال عنوان الفيلم الشديد المباشرة والصرامة، آثر ماليك أن يطرح هذه التساؤلات على الكون مباشرة. أي أنه خرج بها من نطاق التساؤل الوجودي للفرد إلى حيث الكون ذاته. وذلك على نحو تسجيلي صريح لا لبس فيه، يرصد فيه رحلة الكون منذ بداية وجوده، ودبيب الحياة في مخلوقاته المختلفة والمتباينة الحجم والنوع، الباقية منها والمنقرضة، وعلى رأسها بالطبع الإنسان، بأطواره المختلفة على امتداد رحلته الحياتية، مع اختلاف مجتمعاته وبيئاته وطبائعه وأعرافه وسلوكياته وأديانه إلى آخره.
إن ماليك القادم من حقل الفلسفة، الدارس والمحاضر والعالم المتبحر فيها، يدع الفلسفة جانبًا بكل تعقيداتها ويشركنا في طرح مجموعة من الأسئلة الشديدة البساطة، والتي تكاد تقترب من السذاجة لفرط بساطتها، لكنها تقذف بنا مباشرة في أعماق ما رمت إليه جل المذاهب الفلسفية قاطبة. وفي حين خاطبت تلك المذاهب العديد من الجهات بغية الحصول على إجاباتها، توجه مالك إلى ما لم يستنطق بعد، وهو كوكبنا. ولذا، نجد كيت بلانشيت طوال الفيلم لا تكف على نحو تكراري، يكاد يكون مملا، عن طرح وإعادة طرح الأسئلة التالية: «من أنتِ؟ من أنتِ يا واهبة الحياة؟ من أنتِ يا مانحة الضياء؟ يا من تمنحين دون أن تسألي؟ يا من تخلقين ثم تدمرين ثم تعيدين الخلق والتدمير؟ لماذا تلزمين الصمت؟ لما لا تتكلمين؟ هل تخليتِ عنا؟ هل هجرتنا وتركتنا؟» إلى آخر تلك الأسئلة التي دائمًا ما تسبقها أو يعقبها كلمة «أمي» أو «أماه» على نحو رجائي استعطافي.
وبينما تصل إلى آذاننا تلك الأسئلة من حين لآخر على امتداد الفيلم، ويرافقنا بين الحين والحين مقطوعات بديعة مختارة بعناية لبيتهوفن وماهلر، تنهل أعيننا من المقاطع التسجيلية النادرة وشبه النادرة والمكررة والعادية، وحتى المأخوذة من فيلمه «شجرة الحياة»، ربما لكل بقعة من بقاع كوكبنا، وربما كل مخلوق وجد على ظهره منذ بدء الخليقة، باختصار، من المجرات إلى الجزيئات. ويتوازى مع تلك المشاهد مونتاجيًا مقاطع أو لقطات أخرى مصورة بكاميرا يدوية أو أخرى أرشيفية يستعرض من خلالها ماليك المجتمعات البشرية على اختلافها وتنوعها، وعبر فترات زمنية متفاوتة. وهذه وتلك تشكلان، في تضافرهما معًا، رحلة الخلق التي مر بها كوننا ومفرداته منذ ولادة النجوم، ومنذ بدء رحلة التطور البشري ومجتمعاتنا إلى يومنا هذا. والفيلم في النهاية عبارة عن كشف وتسليط للضوء على الكون وأسراره وألغازه من ناحية، ومن ناحية أخرى إزاحة الستار عن روعته وبهائه وقسوته وعنفوانه، ومن ناحية أعمق تساؤل فلسفي يضرب في صميم أعماق الوجود.
تلك الرؤية المنحازة بعض الشيء لفيلم ماليك تأتي من داخل رؤيتنا لسياق الفيلم، ومن داخل الخيارات الفنية والشكلية والتقنيات السينمائية التي تخيرها ماليك في النهاية لتصبغ فيلمه وسينماه، وتحمل لنا رؤاه الفنية وتساؤلاته الوجودية والفلسفية. لكن بالقطع من الصعب إغفال أنه، مع كل ما سبق، ومع تحييد أو تنحية كل تلك العناصر جانبًا، والنظر إلى الفيلم بمحض عين مجردة وخارج سياق الأفلام السابقة عليه واسم تيرانس ماليك، نجدنا إزاء تساؤل كبير، هل هذا هو ما أمضى ماليك نحو أربعة عقود أو أكثر لإنجازه؟ فمن ناحية البناء والشكل والمونتاج، الفيلم غاية في البساطة، ولا يعدو كونه مجرد مقاطع تسجيلية، بعضها يمسك بالأنفاس فعلا ويستحيل أن يغيب عن ذاكرتك البصرية، لا سيما إن كنت من محبي أفلام الفضاء والطبيعة، وأخرى أرشيفية، ويصاحب كل هذا موسيقا منتقاة مع أسئلة متكررة في شكل تعليق صوتي. وربما نجد حتى أن مونتاج بعض الأجزاء شابه التداخل وانعدام التراتبية على نحو قد يسبب الإرباك، من الوهلة الأولى، بالنسبة للمُشاهِد العادي.


الكاتب : محمد هاشم عبد السلام

  

بتاريخ : 07/08/2021