رحيل الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي : فرحات حشاد، علال الفاسي، عودة محمد الخامس من المنفى، الحسن الثاني وقمة فاس

 

أعلنت رئاسة الجمهورية التونسية، صباح أمس الخميس، وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي عن عمر يناهز 92 سنة.
وكان الرئيس السبسي قد نقل، في ساعة متأخرة من مساء الأربعاء، إلى أحد المستشفيات العسكرية في تونس العاصمة، للمرة الثالثة في غضون شهر.
وذكر نجل الرئيس التونسي والأمين العام لحزبه «نداء تونس»، حافظ قايد السبسي، إن الحالة الصحية لوالده حرجة للغاية؛ ما تطلب تلقيه العلاجات الضرورية.
وفي تصريحات للصحافة، أكد نجل الرئيس أن السبسي «نقل إلى مستشفى عسكري بسبب وعكة صحية طارئة؛ ناتجة عن مخلفات التسمم الغذائي الذي تعرض له خلال الفترة الماضية».
وكان الرئيس السبسي قد نُقل إلى المستشفى العسكري في مناسبتين سابقتين، على إثر أزمتين صحيتين، خلال النصف الثاني من شهر يونيو الماضي.
يذكر أن الرئيس التونسي الراحل قد عاد بعد عشريتين من «التقاعد السياسي»، في مرحلة توصف بكونها «فارقة»، ضمن سياق ما يعرف بـ «الحالة الثورية»، حيث تمت الاستعانة بخبرته وبمعرفته بالمجتمع والدولة وبـ «شرعيته الوطنية» وبـ «قابلية» قطاع واسع من التونسيين، للإرث التحديثي للزعيم الحبيب بورقيبة، الذي يعد العائد من بعيد من أبرز تلامذته.
وقد عرف المسار السياسي للرجل، وهو مسار طويل وممتد امتداد سنوات العمر، فترات من المد والجزر، وكان طيلة هذا المسار الممتد من النصف الثاني من القرن الماضي الى يوم الناس هذا، كمن يمشي في حقل من الألغام، لكن يحسب له دائما قدرته على التأقلم وعلى المناورة، من خلال التسلح بالواقعية والبراغماتية معا، فالسياسة في قاموسه هي «فن الممكن» بامتياز، فهي متحركة وخاضعة دائما لتغير وتبدل موازين القوى.
لقد شاءت الأقدار، بعد سقوط حكم بن علي، الذي يكن له الرجل «ازدراء وكرها»، وقيام «ثورة 14 يناير» 2011 التي يعتبرها «ثورة شعبية أصيلة»، أن يعود بقوة للحياة السياسية، ليحتل كما كان زمن بورقيبة موقع الصدارة، لكن هذه المرة، في دور جديد مختلف عن السابق، ليتولى حماية «الثورة» و»الدولة» معا، عندما قبل منصب الوزير الأول، في أول حكومة بعد هروب زين العابدين بن علي (مارس 2011). كما لعب دورا مهما ومؤثرا في حماية تجربة الانتقال الديمقراطي، سواء من موقع المعارضة لحكم الإسلاميين (2012-2014)، أو بعد فوزه بالرئاسة وفوز حزبه بالتشريعيات، وتمسكه بخيار «التوافق» لإدارة وضع انتقالي صعب وغير مستقر، وضع أدرك أنه لا يحتمل وجود الإسلاميين في المعارضة.
وعقب تحقيق فوز انتخابي كبير على الإسلاميين، عاد الباجي قائد السبسي حاكما قويا، لكن وسط تحديات عديدة ومركبة، أهمها تقدمه في السن، فضلا عن تحركه في مناخ غير مستقر وطنيا وإقليميا، إضافة إلى نظام سياسي أريد له أن يكون «هجينا»، وهو ما خلق وضعا ظهرت فيه البلاد وكأنها بلا حاكم فعلي. غير أن الراحل الباجي قائد السبسي، استطاع بتجربته الطويلة أن يقود باقتدار الإدارة السياسية في قلب كل تلك المنعرجات التي كادت تعصف بالاستقرار في بلاده.
فرحات حشاد والدارالبيضاء

وللراحل تجربة متميزة مع المغرب والمغاربة نقلها في كتابه عن «بورقيبة.. الأهم والمهم»، حيث أكد أن بورقيبة أدرك الترابط بين مشاكل العالم وإمكانية الوفود العربية والإسلامية في الاستفادة منها لإسماع صوتها من طرف القوى الرئيسية الجمعية العامة للامم المتحدة، وقد ادرك مع وصول الحلفاء إلى المغرب في نونبر 1942، وإقامة القواعد الأمريكية هناك الاهمية الاستراتيجية لإفريقيا لتحرير أوربا ولبناء السلم والأمن الأوروبيين.
يقول السبسي: «في صيف 1952 كان العالم الطلابي في حالة غليان، امتدادا للمقاومة الوطنية التي اندلعت في يناير من نفس السنة بعد اعتقال بورقيبة. حيث شنت الاضرابات والتظاهرات والعمليات المسلحة والقمع والتنقيلات. وقد اتخذت المواجهات في تونس العاصمة أبعادا دموية لقيت صدى في الصحافة الفرنسية. وبعد خمسة أشهر، اي في 5 دجنبر 1952، تم اغتيال فرحات حشاد، فاندلعت تظاهرات شعبية كبيرة في الدار البيضاء، تم قمعها قمعا دمويا، وكانت هذه التظاهرات نقطة انطلاق الانتفاضة المغربية…».
وهذه الاطروحة تتكرر مرة أخرى، عند باجي قايد السبسي باعتباره مدافعا عن الارث البورقيبي، عندما يتناول الأزمة التي اندلعت بين صالح بنيوسف، المغاربي والمدافع عن أطروحة التحرير الشامل وبورقيبة صاحب نظرية «التدرج التحرري». وقد وصلت المنازعات بين الطرفين إلى حد القطيعة، عندما اعتبر بن يوسف، أول شهيد في تونس المحررة من بعد، أن «الحكم الذاتي» الذي تفاوض عليه بورقيبة لم يكن استقلالا، بل هو «شرعنة للحماية». وعليه فقد دعا، بناء على تعميم المقاومة المسلحة، إلى القبول بالتضحية الى حين تتحرر تونس والجزائر والمغرب. لم يكن بورقيبة في وضع سهل، ولكنه واصل الدفاع عن سياسة المراحل والواقعية السياسية في إطار الدفاع المطلق لمثل التحرر والتضامن، حسب باجي قايد السبسي .
وفي هذا الاطار يقول صاحب الكتاب: «وقعت ثلاثة اشياء حددت مصير الاحداث وتطورها، كان أولها القرار الذي اتخذته (لجنة المغرب العربي) والتي كان مقرها في القاهرة، هذه اللجنة اجتمعت يوم 14 اكتوبر من نفس السنة برئاسة الزعيم علال الفاسي وقررت «طرد الحبيب بورقيبة» منها. ثانيها رفض صلاح بنيوسف، المعارض التاريخي للحبيب بورقيبة حضور مؤتمر الحزب (الدستور الجديد) الذي عقد في نونبر من السنة نفسها. وثالث الأشياء وقوع أحداث عنف قوية بين التونسيين انفسهم وصلت الي حد إراقة الدم والعمليات العسكرية.. وفي الوقت الذي كان المؤتمر يعقد أشغاله، يقول باجي قايد السبسي، عاد محمد الخامس من المنفى واعتلى عرشه من جديد، قبل أن يعود عودة المنتصرين يوم 16 نونبر الى العاصمة الرباط. ويستنتج السبسي من ذلك أن «هذه الفجوة عززت أطروحة بورقيبة بأن المسعى التونسي قد أطلق فعليا دينامية للتسوية السياسية، وأن النهاية الحتمية لهذا المسلسل هو التحرير والاستقلال».
وينقل الراحل الباجي السبسي في كتابه عن بورقيبة وقائع مؤتمر فاس حول فلسطين الذي ترأسه الملك الراحل الحسن الثاني، وهو المؤتمر، الذي تميز من وجهة نظر القائد التونسي بارتفاع المواقف العدائية لكل من سوريا وليبيا تجاه مصر وإسرائيل، فضلا عن التوتر في منطقة المغرب العربي.
يقول: «كانت ليبيا قد ندّدت بلهجة قوية بمخطط الأمير السعودي فهد، معلنة رفضها التام المشاركة في قمة فاس التي كان من شأنها تقديم الدعم والمساندة العربية لهذا المخطط. وفي الوقت ذاته، عملت هجمات البوليزاريو ضد المغرب على خلق مناخ حرب خفية بين كلّ من المغرب والجزائر.
في هذا السياق أظهرت الهجومات العنيفة على «كلتة زمّور»، يومي 13 و18 أكتوبر استعمال «الصام 6» و»الصام 8» من طرف البوليزاريو، كاشفين بذلك عن نية التصعيد العسكري والتواطؤات الإقليمية. ورغم كل هذه المصاعب والمتاعب، فقد كلّف الحسن الثاني امحمد بوستة، وزير الشؤون الخارجية، يوم 14 نونبر، بالتوجّه إلى الجزائر العاصمة لنقل دعوة حضور القمّة إلى الرئيس الشادلي بنْ جديد. ولم يكن الرئيس بورقيبة يتوقّع أيّ نجاح لهذه القمة. ذلك أنّ الانقسامات الداخلية لم تكن لتفضي إلا إلى هامش ضئيل للتسوية والاتفاق».
وفي جميع الحالات، يقول الباجي السبسي، لم يكن أمام القمة أمل كبير في تقليص الهوّة العميقة التي تفصل الأغلبية المعتدلة، التي تميل إلى مساندة مخطط الأمير فهد، وبين النواة الصلبة التي تمثّلها جبهة الصمود والتصدّي، وبخاصة سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية.
توترات قمة فاس

يتابع الباجي السبسي: «افتُتحتْ القمة الوزارية في 18 نونبر، وفي البداية طلبت من ياسر عرفات على انفراد ما إذا كان يتفق مع مشروع الأمير فهد، وردّ عليّ مطمئنا. وعلى هذا الأساس، كان الخطّ بالنسبة لنا واضحا من حيث أن هذا المخطط كان ينخرط ضمن منطق مشروع الرئيس بورقيبة لسنة 1965. كان يخامرني الإحساس بأن السياق كان مناسبا من أجل أن تلعب تونس دورا إيجابيا، وبأنّ الحسن الثاني، الذي يرغب في الحفاظ على دور ديبلوماسيّ عربيّ، كان يعوّل على الرئيس بورقيبة من أجل تغليب منطق العقل. غير أن الجلسة الوزارية، التي ترأسها امحمد بوستة لم تسمح بتليين موقف المتطرّفين. ذلك أنّ مداخلتي كل من عبد الحليم خدّام وياسر عرفات، واللتين أطرهما فاروق قدومي، ندّدتا بالاعتراف الضمني لمشروع فهد بإسرائيل، وبالدعم غير المباشر لسياسة كامب ديفيد، هذا في الوقت الذي أعلن فيه اغتيال السّادات انهيار هذه السياسة. وقد أصبت بخيبة أمل جرّاء اللغة المزدوجة لياسر عرفات، لكنْ سرعان ما تبيّن لي بأنّ هامش تدخّله الشخصيّ كان ضئيلا للغاية، وبأنّ الضغط السوري على الإدارة الفلسطينية كان مثبّطا للغاية.
وقال: «دعاني رئيس الجلسة امحمد بوستة إلى التدخل من أجل توجيه النقاش نحو العمق، وقد بدا لي بأن أسس الاتفاق كانت ضئيلة، وأنّ المشروع لم ينضج بعد. في نهاية المطاف، أعطاني بوستة سلطة الكلام، وأعلنت منذ البدء دعم تونس لمشروع فهد «وهو المشروع الذي يبدو لي أنه ينسجم مع مشروع بورقيبة». وأنهيت مداخلتي بالتأكيد على أنّ هذا المخطط، في السياق الدولي الحاضر، يمثّل سبيل العقل، وهو المخْرج السياسي الوحيد للصراع العربي الإسرائيلي. ساعتها انتفض عبد الحليم خدّام، نائب رئيس الوزراء ووزير الشؤون الخارجية، ليقول: «إنّ هناك فرْقا كبيرا بين مشروع بورقيبة، القائم على رؤية ثورية أصيلة، وعلى الاختيار السيادي للأمة العربية، وبيْن المشروع الحالي المنحدر من رؤية انهزامية». بمجرد انتهائه من الكلام، أخذت الكلمة مجددا لأشكر زميلي «أبو جلال» على تقديره -رغم أن هذا التقدير ورد متأخرا- لمشروع الرئيس بورقيبة الذي اتهم من طرف أغلبية الزعماء العرب بالخيانة بعد خطابه في أريحا. لكنه أنصف اليوم من قبل أبرز ممثلي جبهة الرفض: «وشهد شاهد من أهلها». – نعم، أخي العزيز الباجي! رد عبد الحليم خدام، مشروع بورقيبة كان مخططا ثوريا، ولا أجد حرجا في قول هذا. قررت حينها الكف عن تناول الكلمة. انتهى الاجتماع الوزاري دون أن يتمخض عنه اتفاق حول جدول أعمال القمة المقبلة، مقررا إحالة الأمر على حكمة رؤساء الدول».
وأضاف الباجي: «يوم 25 نونبر، لم تكن القمة قد أحرزت أدنى تقدم. وتعقد الاستقطاب بين المعتدلين والراديكاليين الذي ميز الاجتماع الوزاري بفعل استقطاب ثان بين الرئيسين حافظ الأسد وصدام حسين، وقد كانا معا مناهضين لمشروع الملك فهد، فتنافسا ولوح كل واحد منهما بقدرته على التدخل وتحييد إستراتيجية الآخر. كانت القمة قد بدأت تنجرف بشكل خطير، وأراد محمد مزالي، رئيس الوفد التونسي التدخل لكنه تراجع في الأخير بعد طلبي منه عدم تناول الكلمة حتى لا تقحم تونس في صراعات هامشية. وتم تأجيل القمة في نفس اليوم بعد المصادقة على قرار بشأن لبنان. ويوم 27 نونبر، أقام الحسن الثاني ندوة صحفية أعلن خلالها عن تأجيل القمة لمزيد من المشاورات».
الحسن الثاني،
أنا والبيان الختامي

وكتب الراحل السبسي «ما إن وصل إلى فاس، حتى أبلغ محمد مزالي الملك الحسن الثاني أنه يحمل رسالة من الحبيب بورقيبة يريد تقديمها في القمة. وفي ختام الدورة الافتتاحية، وبحضور السلك الدبلوماسي والمراقبين والصحافة، قام محمد مزالي بتلاوة الخطاب الرئاسي.
قوبل الخطاب بتصفيق طويل. وفي الجلسة الثانية، تمت الموافقة على مخطط فهد بالتوافق، وعينت القمة لجنة مُتابعة تضم الحسن الثاني، الملك فهد، الملك حسين، الرئيس حافظ الأسد، الرئيس عرفات والوزير الأول محمد مزالي، كما دُعيت لجنة لصياغة البيان الختامي تضم كلا من المغرب و سوريا والأردن والشاذلي القليبي الأمين العام للجامعة العربية.
وقال الباجي السبسي: «وفيما كانت اللجان تنعقد في جلسات مغلقة، حضر ضابط من ضباط القصر الملكي إلى فندقي، مُجتازا كل الأبواب إلى أن وصل إلى غرفتي، بل إلى الحمام حيث كنت آخذ رشاشا، لكي يُبلغني رغبة الملك الحسن الثاني في رؤيتي دون تأخير. ارتديت ثيابي ثم رافقت الضابط إلى القصر الملكي حيث استُقبلتُ أثناء انعقاد لجنة المتابعة.
طلب مني الملك الحسن الثاني، الانضمام للجنة الصياغة للسهر على إعداد البيان الختامي. قال لي «إني أعتمد عليك». كان يعلم بأن تونس غير ممثلة في لجنة الصياغة رغم مشاركة الشاذلي القليبي، بيد أن نظراته ولهجته كانت تعني أنه ينتظر مني أكثر من مشاركة تقنية. وتبينت أنه يتخوف من بعض المناورات الماكرة التي قد تعرقل صدور البيان أو تنسفه، خلال تبنيه أثناء الجلسة الختامية.
انضممت فورا إلى لجنة الصياغة حيث كان عبد الحليم خدام يتولى فيها دورا مركزيا. لاحظت أن إشارة قد تمت في مقدمة مشروع البيان إلى الرئيس بورقيبة. لكن في العمق، كان التوافق واضحا ولا يطرح لحسن الحظ أي مشكل.
في ختام أشغالنا، هنأت عبد الحليم خدام على روحه البناءة التي أتاحت لنا التوافق بالإجماع حول البيان حينما اكتشفت، بالتفاتي، أن الحسن الثاني كان موجودا وكان يُتابع في صمت تقدم أشغالنا.
وفي الجلسة الختامية، تأكد التوافق العربي، وحق للحسن الثاني أن يشعر بالاعتزاز ببيان فاس الذي أصبح معلمة في تاريخ الدبلوماسية العربية.
قررت القمة تشكيل وفد عربي مكلف بعرض قرار فاس على الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن الدولي. وكان الوفد، الذي يرأسه دوريا كل من الملك الحسن الثاني والملك حسين، مُشكلا من وزراء خارجية كل من المغرب والعربية السعودية والأردن وتونس والجزائر وسوريا ومن خالد الحسن أو أبو مازن، ممثلين لمنظمة التحرير الفلسطينية».


الكاتب : الاتحاد الاشتراكي

  

بتاريخ : 26/07/2019