رحيل العميد عباس الجيراري.. خازن «الديوان المغربي»

عن سن تناهز 86 رحل عميد الأدب المغربي والمستشار الملكي، عباس الجراري، الذي قضى ردحا طويلا من الزمن في استخراج درر التراث الأدبي المغربي، والبحث فيه وتأطير الدراسات حوله، والدفاع عنه، وإماطة اللثام عن سياقاته ومخبوءاته، وتحويله إلى موضوع للدراسة الأكاديمية بالجامعة المغربية.
ورحل الأستاذ الكبير بعد وعكة صحية أدخلته المستشفى العسكري بالرباط، وحالت دون حضوره تقديم ترجمة كتابٍ له إلى الصينية، واحتفالية أكاديمية المملكة بالتصنيف الدولي لـ»ديوان المغاربة» (فن الملحون) كما ظل يسميه في محاضراته وأبحاثه.
ازداد الراحل في 15 فبراير 1937 بالرباط، وتلقى تعليمه الأولي في الكتّاب، والتحق بمدرسة أبناء الأعيان ثانوية الليمون ثم ثانوية مولاي يوسف. وبعدها، التحق بجامعهة القاهرة، ومنها حصل على الإجازة في اللغة العربية وآدابها، سنة 1931، وعلى الماجستير سنة 1965، وفي سنة 1965، أحرز على دكتوراه الدولة في الآداب من الجامعة نفسها.
وكان الفقيد، الذي انتقل إلىى رحمة لله يوم السبت 20 يناير 2024، مستشارا للملك محمد السادس، في مجال الشؤون الإسلامية والثقافية. كما سبق أن عينه الملك الراحل الحسن الثاني عام 1979 أستاذا في «المدرسة المولوية»، فدرّس الفكر الإسلامي، والتربية الوطنية، والتربية الإسلامية، والنصوص الأدبية، ثم عضوا في أكاديمية المملكة المغربية والمجلس العلمي الإقليمي لولاية الرباط عام 1983، ثم مكلفا بمهمة في الديوان الملكي في يناير 1999.
وسبق للراحل، إضافة إلى هذه المهام، أن انتخب رئيسا لشعبة اللغة العربية وآدابها عند تأسيسها في كلية الرباط (1973)، وانتخب عضوا في اللجنة الإدارية للنقابة الوطنية للتعليم العالي وفي مكتبها التنفيذي (1969). كما عين مديرا للدراسات الجامعية العليا لتكوين أطر التدريس في الجامعة عام 1982، وعين عام 1998رئيسا لوحدة أدب الغرب الإسلامي للدراسات العليا.
وحصل الراحل، أيضا، على عضوية عدد من المجمعات العلمية والاتحادات والهيئات الاستشارية المحلية والعربية والدولية، منها: نائب رئيس مجلس إدارة جمعية العلاقات المغربية الأميركية، ورئيس لجنة التعريف بالثقافة المغربية في الداخل والخارج، وعضو مجمعي اللغة العربية في القاهرة ودمشق، وخبير متخصص لدى المنظمة الأفريقية والمنظمة العربية للثقافة (الألسكو) والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو).
وعرف عن عباس الجراري بـ»الصالون الأدبي» الذي كان ينظمه ببيته بحي الرياض كل يوم جمعة: «النادي الجراري»، وكان يحضره عدد مهم من تلامذته ومحبيه من الادباء والمفكرين، إذ تلقى فيه عروض فكرية وثقافية. كما أطلق من البيت نفسه جائزة عبد الله الجراري في الفكر والأدب، تركز كل سنتين على مواضيع التراث الفكري والأدبي وموقف الفكر والأدب من قضايا الأمة ومشكلات العصر وغيرها. ويعتبر هذا «الصالون الأدبي» أقدم نادٍ ثقافي بالمغرب، وكان «صالون» أبيه العالم والأديب عبد لله الجراري، المستمر منذ أزيد من تسعين سنة. وقد كان للجراري أثر بارز في تشجيع وتأطير البحث الجامعي الجاد، خاصة حول الأدب المغربي، والتراث الشعبي في مختلف تجلياته المحلية والعامية والفصيحة. كما الذي كان أحد أبرز أعضاء أكاديمية المملكة المغربية، ورئيس لجنة الملحون بها، بإشرافه على مشروع كبير لتوثيق دواوين شعر وفن الملحون المغربية عبر التاريخ، وهو ما أثمر صدور أحد عشر مجلدا ضمن «موسوعة الملحون». وكانت هذه الجهود التي قادها الجراري استمرارية لمشروع أشرفت على نشره أكاديمية المملكة المغربية، ونهض به محمد الفاسي، أول وزير ثقافة مغربي وصاحب «معلمة الملحون».
من أبرز أعماله الأدبية والفكرية: القصيدة: الزجل في المغرب، 1970؛ من وحي التراث، 1971؛ الثقافة في معركة التغيير، 1972؛ وحدة المغرب المذهبية، 1976؛ الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، (1986-1982-1979)؛ خطاب المنهج، (1995-1990)؛ الثقافة من الهوية إلى الحوار، 1993؛ الذات والآخر، 1998؛ بقايا كلام في الثقافة، 1999؛ هويتنا والعولمة، 2000؛ الحوار من منظور إسلامي، 2000؛ قضايا للتأمل برؤية إسلامية، 2000؛ الإصلاح المنشود، 2005.
إضافة إلى كل ذلك، حصل الراحل عباس الجراري على العشرات من المناصب الأخرى، من قبيل عضوية عدد من المجمعات العلمية والاتحادات والهيئات الاستشارية المحلية والعربية والدولية، منها: نائب رئيس مجلس إدارة جمعية العلاقات المغربية الأميركية، ورئيس لجنة التعريف بالثقافة المغربية في الداخل والخارج، وعضو مجمعي اللغة العربية في القاهرة ودمشق، وخبير متخصص لدى العديد من المنظمات الدولية.
ونعى الراحل مجموعة من المثقفين والأدباء والأساتذة الباحثين، من بينهم عادل غلاب الذي كتب في صفحته على الفايسبوك: «نفتقد اليوم شخصية علمية، رائدة، بارزة، مرموقة فذة على الصعيد الوطني والأكاديمي والفكري، و كذا التكويني لدى المرافق الجامعية والدينية . كان من رواد الطليعة في المنهج ، شغوفا في بسط الفكر العلمي، المستقيم ، التنويري، الهادف إلى البناء البناء . كل مؤلفاته الواسعة المشارب و إنتاجه الأدبي، الإبداعي، و إسهاماته العدة ، المختلفة في محافل اتحاد كتاب المغرب، وجمعيات ثقافية متنوعة الأفق كانت تصب في هذا السياق. وقد سعى وخص مضامين خطبة الجمعة – والتي ما تولاها بتكليف أكثر من تشريف – وبعض الدروس الحسنية بإظهار وإبراز الإسلام في سمو مفاهيمه وتألقه الفكري ، منهجاً ، وعقيدة، تمشيا مع روحه السمحاء وسياق الحداثة المنبثقة من التوعية العقلانية. كانت للفقيد عطاءات قيمة في المحافل الثقافية وكذا لدى أكاديمية المملكة المغربية، والتي كانت دؤوبا وغزيرة».
من جهته، كتب صالح لبريني في حسابه على «الفايسبوك»: «ورقة أخرى تسقط من شجرة الأدب المغربي في خريف الثقافة المغربية، والتي تشهد مواتاً غير مشهود لها عبر تاريخها النضالي من أجل ترسيخ وجودها في صحراء المغرب الحبيب، بل يمكن نعته بالبوار الثقافي في غياب السؤال الثقافي، وانكفاء غالبية مثقفي البلد حول ذواتهم وإقاماتهم التي اختاروها عزلة بعيدا عن أسقام الثقافة المغربية. هذه الورقة الراحلة ستزيد من ليل الأدب المغربي أن يتمدّد أكثر وأكبر في سماء وأرض مغرب الظلمات، ويعمّ الفراغ رفوف المكتبات العمومية اسما لكن واقعيا لا محل لها من الحياة، في زمن معولم بالتفاهات وسفاسف القضايا والأطاريح … في ظل هذا السياق المعتم والمؤلم ترحل قامة أدبية وفكرية منحت وجودها وعمرها وفكرها لخدمة الأدب المغربي، وتحويله إلى منارة مضيئة سماء الثقافة العربية المعاصرة إلى جانب من سبقوها من مفكرين وفلاسفة من مغرب العطاء والاجتهاد أمثال فيلسوف الوجودية المغربية محمد عزيز الحبابي ورواد الحركة الوطنية علال الفاسي والتهامي الوزراني ومحمد عابد الجابري وعبد الله العروي وعبد الكبير الخطيبي وعلي أمليل وأحمد اليابوري وسعيد يقطين ومحمد برادة وغيرهم. فهذه المنارات أينعت فكر وإبداعا وتفكير جديدا ولولاهم ما كان للثقافة المغربية موطئ قدم في ساحة الثقافة العربية».
وتابع: «عباس الجراري كان يشكل كتيبة لوحده، يسعى في صمت إلى بناء صرح الأدب المغربي بإصرار وإرادة وعزيمة قل نظيرها، بكل تجلياته وتمظهراته، وتعبيراته وأشكاله دون تمييز أو تفضيل، لكون الرجل يمتلك رؤية واضحة وتصورا لمشروعه المعرفي، وما مظانه ومتونه التي خلّفها إلا تجسيد لهذا الانشغال بالرأسمال الرمزي الذي يشكل علامة فارقة في الفكر العربي والإنساني. كما نذر وقته ودهره المتقلب والذي لا يرسو على شط بفعل وقائعه وأحداثه الطارئة لرسم معالم صورة مغرب ثقافي للآخر العربي الجاهل بالتراث الثقافي المغربي، والدفاع عنه في المحافل الثقافية العربية منافحا ومدافعا عنه دون أن ينتظر مقابلا على جهوده، وتلك خصلة من خصال مثقفينا الأوفياء والشرفاء».
وقال: «عباس الجيراري قرأته بمحبة الغرّ، وأنا في سلك الباكالوريا، وتحديدا كتابه الفريد والمتفرد «في الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه» وقد عاشرت هذا المتن مدة سنة تقريبا أقلب أراضيه الثرّة وأفكاره النيّرة ورؤاه الحصيفة، وما طرحه من ظواهر وقضايا ترتبط بالأدب المغربي، الذي لم نكن نعرف عنه الشيء الكثير إلا ما قدمه أحمد بوكماخ عميد الدرس التربوي بالمغرب عبر مشروعه «إقرأ» وكتاب الفصحى، لكن عباس الجراري فتح لي باب غابته الممتدة في أدغال الشعر المغربي الموجود غير أنه مفقود من عقول أبنائه، فأحببت الجراري من هذا الكتاب الذي طفقت معه حوارا نقديا ساذجا موجها لصاحبه العديد من الآراء التي كنت أعتقد أنها سليمة الطرح، عندما نفيت وجود شعر مغربي في موضوع إنشائي حول هذا الكتاب الذي كان مقررا في مكون المؤلفات، طلبه منا أستاذنا الحاج محمد السلماتي في سلك الباكالوريا، وكان نقدي الساذج بداية لأفق آخر لم أكن أعيره بالا. إن عباس الجراري طود من أطواد الثقافة المغربية الشامخ الباسق الشاهق في سماء المغرب بدون منازع».
من جانبه، دون الباحث الجامعي إدريس الخضراوي في حسابه على «الفايسبوك» نعيه للراحل قائلا: «رحل عميد الأدب المغربي الدكتور عباس الجراري الذي أخصب البحث في الأدب المغربي منذ سبعينيات القرن الماضي مشكلا إلى جانب مجموعة من مجايليه من النقاد مثل محمد برادة وأحمد اليبوري، وآخرين ممن برزوا لاحقا كإبراهيم الخطيب ونجيب العوفي وسعيد يقطين وعبد الحميد عقار… ما أطلق عليه المرحوم بشير قمري الظاهرة المغربية في إشارة إلى جهود متماسكة ومنسجمة تبحث في الإسهام المغربي في الثقافة العربية والإنسانية. لقد سررت بتقديم تجربة البحث في الأدب المغربي، وضمنها تجربة الراحل عباس الجراري لطلبتي في كلية اللغة العربية بجامعة القاضي عياض».
وقال الأستاذ أحمد زنيبر، الذي يعتبر أحد طلبته المتميزين، في صفحته على الفايسبزك: «رحم لله أستاذ الأجيال وصاحب الأفضال الغفيرة على الثقافة المغربية والعربية عامة الدكتور عباس الجراري، أحد أعمدة الأدب والفكر والنقد والتراث… تغمده لله برحمته الواسعة، وعزاؤنا الصادق لعائلته الصغيرة والكبيرة.. ستظل ذكراه عالقة في الأذهان ومؤلفاته الممتدة ساطعة في كل آن. نم قرير العين إلى أن نلتقي».


بتاريخ : 22/01/2024