رحيل رجل دولة …إنه عبد الواحد وكفى

ما كنت لأصدق ما جرى لولا حرقة الدموع التي آلمتني كثيرا، عندما وقعت عيني على الخبر المفجع بمواقع التواصل الاجتماعي. خيل لي، في البداية، أنها كذبة أخرى من الأكاذيب التي يتوسلها البعض لجلب الانتباه إلى صفحاتهم أو مواقعهم الإلكترونية في أيامنا هذه، لكن سرعان ما تبدد التوجس والشك، سرعان ما استقر اليقين على يقينية الخبر عندما اطلعت على تدوينات عدد من الإخوان والأخوات التي كانت حصرا في نعي العزيز عبد الواحد الراضي.
حينها لم أجد ما أمني به النفس أو أتوسله لإبعاد النبأ الأليم عن دوائر اليقين التي تستعصي على كل عوامل اختراق الريبة والشك التي تحركت بقوة في نفسي فور وقوع عيني على الخبر، من قوة الدهشة ومن هول الصدمة ربما. لكن، لا بد مما ليس منه بد، حتى ولو كان عبء النعي ثقيلًا وثقيلًا جدا، فلا مناص من التحمل، ولا سبيل إلى الهروب من مثل هذا العبء وهذا الثقل، لقد رحل عبد الواحد وليس رحيله أي رحيل.
هناك عدد كبير من الأعزاء، أصدقاءً وإخوةً ورفاقًا، رحلوا وهم يرحلون بوتيرة متسارعة مع تقدم عمري وأعمارهم أو بطريقة لا يعرف أسرارها العشوائية غير الموت ربما، لكنه مع ذلك رحيل يبدو من منطق الأشياء. رتابة الحياة الدنيا: ميلاد وفرحته ومرض وآلامه ورحيل ونصيبه المؤكد من الأحزان ومن الدموع. ولكن ذلك يظل ضمن منطق الأشياء. فمن سيدفن من؟ ومتى؟ هذا سؤال متواتر بين الإنسان ونفسه وبينه وبين أحبائه. يقال جهارًا مرات قليلة ربما، لكنه سؤال وجودي عميق ملازم للنفس لا يكاد يغيب عنها حقا إلا في ما ندر من الأحوال.
هذا قدر. هذا قضاء وقدر، نقول عبر لغاتنا المختلفة، استكانةً وخضوعا، تعبيرًا عن يقين عاجز حتى عن التفكير في تغيير منطق الرحيل المتواتر الأبدي بل وعن استعادة السكينة إلى رجة الأعماق وتوتراتها جراء وقع صدمة ساعة الرحيل.
لكن الرحيل الذي يبدو متماثلا في مواصفاته البادية بل والذي يمكن الاعتقاد بكونه وحيد جنسه بين بني البشر، ليس كذلك في الواقع. فكل رحيل فريد نوعه. وهذه الفرادة بالذات هي التي تقف حاجزًا رئيسًا أمام تقديم هذه الكلمة في حق عبد الواحد الراضي.
لا أريد الإيحاء بأن كلمتي في الفقيد مجروحة بحكم علاقات المحبة والرفاقية العالية التي جمعت بيننا لسنين طويلة وخلال منعطفات مصيرية من حياتنا النضالية المشتركة. فهذا ليس قصدي، على الإطلاق، بل أقصد دعوتكم أن لا تنتظروا مني كلمة الوقائع والأحداث والمسؤوليات، لأنها لا تفي بالغرض في هذا الرحيل، وفي هذا الراحل الكبير عبد الواحد الراضي بالذات، لذلك اخترت لكلمتي أن تكون كلمة الوجدان العميق، كلمتي الفريدة التي تتلاءم مع هذا الرحيل والفقد والمصاب الفريد.
قد تستغربون إذا قلت لكم اليوم إنني لم أكن أعرف عبد الواحد الراضي حقًا وعندما عرفته كذبت نفسي وهمها فيه، إذ أثبتت لي أنني أعرفه منذ زمن بعيد لا بداية له في وعيي، وربما في لا وعيي العميق أيضا. لذلك يستحيل علي اليوم أن أقول الكثير حول ما أعرفه أو خبرته من عبد الواحد. لذلك اعذروني إذا قلت لكم إنه عبد الواحد وكفى.
لكن المناسبة تفرض طقوسها وكل الطقوس لها لغتها ورموزها الخاصة ولست هنا لأتهرب من منطقها لكنني سأحاول قدر الإمكان إخضاعها لما يتطلبه بعض الوفاء لروح رجل كبير وفي مقام مهيب مقام الرحيل ومشهد التأبين.
عرفت عبد الواحد الراضي بقلبي، استوطن الوجدان قبل أن تستقر عيني على عينه لذلك فأنا سأنطلق من وجداني في كلمتي المتواضعة هذه في حق فقيدنا الكبير.
ليس عبد الواحد متفائلا كغيره من المتفائلين، ليس عبد الواحد حالمًا مثل غيره من الحالمين وليس عبد الواحد سياسيا كما غيره من السياسيين. هو تركيبة نوعية خاصة لكل ذلك، لأنه كان يميز دومًا وبدقة لا متناهية وبقدرة فائقة، بين تلك الحالات الوجدانية والنفسية عندما يكون التمييز بينها ضروريًا ودالًا أو موجهًا للفعل النضالي والإنساني معًا. فلا تجد عبد الواحد في ذلك يتنكر لهذه الحالة ليعانق تلك، في قطيعة وهمية بينها وإنما يضع كلا منها في المكان المناسب في الوقت المناسب في أعماق أعماقه. لذلك تراها تتبادل البروز على السطح وتتخذ مركز الصدارة الذي يليق بها عند تعاظم منسوب كل منها ضمن البيئة التي هي بيئتها الخاصة بها وفي سياق قراءة عبد الواحد الخاصة والفريدة لعناصرها وما يريده منها أن تعبر عنه أو تقوم به من أدوار.
لذلك نادرا ما تشعر أن عبد الواحد قلق أو حزين أو يائس. بل تجده غاضبا في الحالات التي تدعو إلى القلق أو الحزن أو اليأس. فلكأن الغضب وسيلته لقهر أسباب القلق والحزن والقنوط واليأس. وفي ظني أن عبد الواحد بارع في إدارة معركة الغضب في وجه القلق والحزن واليأس. وهكذا انتصر على تلك الحالات جميعها فأعطى مثالًا حيًا على التفاؤل الحالم المتوازن وقدم أكثر من عربون على شيم السياسي النزيه، السياسي المتفاني في حب الوطن في خضم الشدائد: شدائد الوطن والشدائد على الوطن.
من هنا أصالة الرجل في حياته المفعمة بالأحداث الجسام خلال المنعطفات السياسية الكبيرة، تمامًا كما في الحالات الإنسانية الكبرى في حياته الخاصة وفي حياتنا العامة جميعًا. ومن هنا وجه الفرادة في رحيله المفعم بالعبر والدلالات .
عبد الواحد الراضي أستاذ، حكيم، وفي؛ وفي للحزب، للوطن، وفي للملكية…
عبد الواحد اتحادي أصيل، صادق ونزيه، وفي للأصدقاء والإخوان، وفي لقيادة الاتحاد الاشتراكي …بدأ وفيا ومات وفيا …
عبد الواحد الراضي أستاذ، حكيم، قوي بهدوئه وهادئ في قوته …
كان عبد الواحد يتصف بكل خصال القائد السياسي التواق الى الديموقراطية والحداثة، بخصال نظرية وسلوكية؛ اليقظة العالية والاحتراز ،والتقدم بخطوات محسوبة، دون تسرع ودون مراوغة، وتجنب السقوط في الاستفزاز ورد الفعل، ورفض الانسياق وراء العواطف والأهواء مهما كانت نبيلة، وتأهب دائم لخوض غمار تحليل أصيل ومبدع لالتباسات الحقل السياسي، واقتراح حلول ومخارج مطابقة، وامتلاك الحدس السياسي الذي يتجاوز ما هو كائن إلى ما سيكون …
عقلاني فكرا وبراغماتي سلوكا؛ يمقت الانفعالات والتفكير بالعاطفة، والانسياق وراء الشعارات والوقوع سجين الحماس المرضي، ورفض ممارسة النضال السياسي بالارتكان إلى الماضي…
عبد الواحد كان يعتبر نفسه مناضلا في حزب له ماض وليس حزبا ماضويا، حزب الحاضر والمستقبل الذي يستلهم قيم ماضيه…
كان يؤمن بأن التاريخ يصنع ولا ينتظر المنتظرين والمتفرجين، فإما أن ننخرط فيه وندقق كيفية وطريقة الانخراط وإلا أصبحنا سلبيين وعدميين ….
كان يؤمن بأن ضبط الوقت المناسب، مسألة حاسمة في العمل السياسي، وأن ضياع الفرصة يكون مكلفا في المستقبل…
لقد حدث ما كان حتما سيحدث، وما كان مأمولا أن يتأخر حدوثه، حدث اليوم، أن جسد أخينا عبد الواحد الراضي أفرغ آخر ما استطاع من نفس، ليسلم أنفاس المناضل العزيز لفضاءات التاريخ الرحبة والعطرة بأريج انبعاث النيات المخصبة لمشاتل، تولد الشمس في مستقبل التاريخ…
وأنت اليوم لم تفعل إلا أن حلقت إلى مثواك في البراري المزهرة لذاكرة الوطن، وهي التي تصون، برفق وفرح، حيوات أمثالك من مولدات التدفق في المجرى العظيم للأمل في أوصال وطن يقاوم الارتداد ويراوغ المطبات، ويمضي بهدوء وثبات وبعزم نحو الامتلاء بالكرامة لمواطنيه…
عبد الواحد الراضي ممتد في المشترك المديد والعميق بيننا…
عبد الواحد الراضي سيحفظ لك الوطن أنك كنت من أبنائه الأوفياء، وقد بذلت من أجل تقدمه الكثير من الجهد بكفاءة إنسانية، لذلك لن تذهب بعيدا تحت التراب، لأنك ستذهب بعيدا فوق التراب …
عبد الواحد الراضي، ذكراك ستزهر وتولد أبدا نفحات الأمل في التقدم نحو حلمك بالوطن الزاخر بالكرامة لمواطنيه ومواطناته…
إنها خسارة كبرى يمنى بها المغرب بكل مكوناته الوطنية الحداثية والديمقراطية.
رحم الله فقيد الوطن الكبير وألهم ذويه الصبر والسلوان. إنا لله وإنا إليه راجعون.


الكاتب : عبد السلام المساوي

  

بتاريخ : 28/03/2023