في السابع من نونبر 2025، انطفأت روح المناضل سيون أسيدون (المعطي كما يطلق عليه أصدقاؤه)، بعد صراع مرير مع غيبوبةامتدت لقرابة ثلاثة أشهر، وبعد أن اقتطع فصولا طويلة من حياته ممثلا لا يقهر للضمير الإنساني اليقظ والالتزام اليومي الذي لا يعرف المساومة.
وُلد أسيدون في المغرب في ماي 1948 لعائلة يهودية بمدينة أكادير أجبرها زلزال 1960 على الانتقال إلى مدينة الدار البيضاء، غير أن هويته كانت أوسع من كل انتماء ضيق. فمنذ شبابه، انخرط في النضال من أجل الديمقراطية والكرامة، وعايش ثورة فرنسا الطلابية عام 1968 عندما كان طالبا بالجامعة هناك، وكانت هذه التجربة من بين الأسباب التي أثرت تشبعه بثقافة حقوق الإنسان والديمقراطية والمساواة ومعاداة العنصرية ومكافحة الفساد واقتصاد الريع.كما كان من بين المعتقلين السياسيين في سنوات الجمر والرصاص بدار المقري سنة 1972، بتهمة التخطيط لقلب نظام الحكم والقيام بأعمال عنف، وهي التهمة التي ظل ينفيها بشدة، ويؤكد أن سبب اعتقاله يعود إلى إصداره رفقة رفاقه صحيفة تحمل اسم «صوت الكادح»، التي تضمنت مقالات رأي فقط. ولم يغادر السجن إلا بعد قضاء 12 سنة سجنا من محكوميته (15 سنة سجنا)، تخللتها إضرابات عن الطعام ومحاولة فرار من مستشفى ابن سينا بالرباط.
لم تكن فلسطين بالنسبة إليه شعارا عابرا يرفعه الجميع في المظاهرات الشعبية، بل كانت، كما يشهد به الخصوم والرفاق، رئته التي يتنفس منها، وميزانا يزن به عدالة العالم. تزوج من سيدة فلسطينية، وقلّما شوهد من دون كوفيته، تلك التي صارت جزءاً من ملامحه مثل صوته الحاد في وجه التطبيع ومواقفه الصلبة في وجه النفاق السياسي.
كان أسيدون يحوّل اليومي إلى فعل مقاومة. في «درب ميلا» بالدار البيضاء، كان يخاطب الباعة البسطاء بزنقة صحراوة ويحثهم على مقاطعة التمور الإسرائيلية، يشرح لهم بلهجة هادئة أن كل حبة تمر من تلك القادمة من المستوطنات تحمل في طياتها دم طفل فلسطيني. يكتب وينشر ويفضح كل أثر للتطبيع الشعبي الخفي. يفعل ذلك من منطلق إيمانه القوي بالفعل المباشر والقول الصريح. في المهرجانات، في الشوارع، في الجامعات، في المنابر الدولية لحركة المقاطعة (BDS)، ظل صوته أحد أقوى الأصوات التي تربط بين مناهضة الصهيونية بالدفاع عن العدالة الإنسانية في بعدها الكوني.
في غشت 2025، سقط في منزله أثناء قيامه بتشذيب حديقته، وأُصيب برضوض دماغية ونزيف داخلي، دخل على إثرها في غيبوبة طويلة. وبعد معاناة طبية متواصلة، لفظ أنفاسه الأخيرة في المستشفى الجامعي الدولي الشيخ خليفة بالدار البيضاء.
رحل أسيدون بهدوء، كما عاش بوضوح. قررت عائلته أن تتم جنازته في طابع عائلي بالمقبرة اليهودية بالدار البيضاء، في المكان ذاته الذي يرقد فيه أبراهام سرفاتي، رفيق النضال وواحد من الرموز التي تشبهه في الصدق والإصرار. لم يكن غريباً أن يجتمع عند قبره أصدقاء من ديانات وثقافات مختلفة، تماماً كما جمع هو في حياته بين اليهودي والمسلم والمسيحي في بيته الصغير، حيث يتقاطع الدم الفلسطيني والمغربي والإنساني في سلالة واحدة.
يصفه صديقه مصطفى خلال بأنه «مناضل نظيف عاش ومات نظيفاً، قمة في التشبث بمبادئه، لم يتزحزح عنها قيد أنملة، وكان مدرسة في التفتح والسمو الأخلاقي”. ويضيف: «كان يحتل القيادة دون كرسي، والريادة دون مظاهر، عاش اختياراته بخلق نادر».
أما صديقه الآخر، عبد الحميد جماهري، فأطلق عليه لقب «المناضل الايكولوجي»، لأنه ظل يعمل من أجل بيئة سياسية يسارية نظيفة»، مذكرا بالرسالة التي بعثها رفقة أبراهام السرفاتي إلى ياسر عرفات في يونيو 1982، حين أكدا استعدادهما للانضمام إلى المقاومة الفلسطينية عبر مكتب منظمة التحرير الفلسطينية بالرباط.
لقد جسّد سيون أسيدون ما يمكن تسميته «الضمير المغربي المتصالح مع إنسانيته». إذ كان من أوائل من أعلوا صوتهم ضد العنصرية والصهيونية والفساد، وضد أي شكل من أشكال التواطؤ مع القهر. ومع ذلك، لم يبدُ يوما حاقدا أو متعصبا، لأنه كان يؤمن بأن الدفاع عن فلسطين هو دفاع عن الإنسان في كل مكان، وأن العدالة كل لا يتجزأ.
رحيل سيون أسيدون… الرجل الذي لا يساوم في محبة فلسطين
بتاريخ : 10/11/2025

