رحيل يهود المغرب..

مقاربة في تجديد ذهنيات البحث والتنقيب

 

صدر للأستاذ أمين الكوهن خلال الأيام القليلة الماضية كتاب «رحيل يهود المغرب- قضايا ومسارات»، في شكل دراسة أكاديمية رفيعة حول رحلة الغربة والاغتراب في مسار تاريخ يهود المغرب الراهن. تتوزع مضامين الكتاب بين ستة فصول متراتبة، وفصل إضافي تضمن مجموعة من المحكيات الشفوية ذات الصلة بالموضوع، وكلمة تصديرية كان لي شرف وضعها للكتاب.
يقدم الكتاب نتائج سنوات ممتدة من البحث ومن التنقيب في خبايا الموضوع، لا شك وأنها تطلبت من المؤلف الكثير من الصبر والأناة، تجميعا للمادة الوثائقية وللمظان الدفينة وللكتابات القطاعية والمونوغرافية وللروايات الشفوية ولعناصر التراث الرمزي العبري ببلادنا. وبذلك، نجح الأستاذ أمين الكوهن في بلورة مقاربة تشخيصية لمكامن الطابوهات المرتبطة بالموضوع، بعيدا عن نزوعات الحماس المفرط المرتبط بتداعيات المرحلة الراهنة، وقريبا من سقف الإطار العلمي بأدواته الإجرائية الدقيقة في البحث وفي التركيب.
وللاقتراب من السقف العام لهذا العمل، نقترح إعادة نشر الكلمة التقديمية التي كان لي شرف تخصيصها لهذا العمل. تقول الكلمة التقديمية:

ظل موضوع حضور المكون اليهودي داخل نسق الكتابة التاريخية الوطنية مثار العديد من الإشكالات المركزية في البحث وفي التوثيق، سواء على مستوى تجميع المادة الوثائقية، أم على مستوى تصنيف المظان المصدرية، أم على مستوى الاهتمام بالمخلفات المادية وبالشواهد الماضية، أم على مستوى استثمار رصيد التراث الشفاهي العبري الغني والمتجدد. وفي كل هذه المجالات، ظل البحث لصيقا بضغط مشاكل المرحلة وبتداعيات الأحكام المسبقة التي دأبت على ربط مسار الطائفة اليهودية بتفاعلات القضية الفلسطينية وبانعكاساتها المباشرة على وعي المغاربة وعلى مواقفهم السياسية تجاه مخاضات هذه القضية. وإذا كان الحديث عن أصالة المكون اليهودي داخل نسق الهوية المغربية –الواحدة/المتعددة– قد أضحى من المسلمات التي تحظى بإجماع كل مكونات الشعب المغربي، فالمؤكد أن الكثير من عناصر غنى إسهام المكون اليهودي قد توارت خلف قارة هائلة من المواقف المسبقة المرتبطة بتنافر تركيبة المكونات الأصيلة للهوية المغربية، حسب ما تلاقحت به عبر التاريخ، وحسب ما اغتنت به بروافدها العربية الإسلامية والأمازيغية والإفريقية والمتوسطية والإيبيرية. وعموما، يمكن القول إن حالة التشظي هاته، بتعبيراتها الراهنة المتعددة، قد جعلت الكثير من الوقائع ومن الحقائق التاريخية ومن السياقات الناظمة لوجود المكون اليهودي فوق الأرض المغربية، تتوارى خلف إفرازات تدافع المرحلة، وخلف سياقات «شيطنة» مواقف الطائفة اليهودية، في أفق دفعها في اتجاه الانزواء والتقوقع حول الخصوصيات الضيقة التي حولتها إلى طائفة مغلقة، في رؤاها وفي مواقفها وفي تطلعاتها. ومعلوم أن الكثير من تبعات هذا الوضع قد شكلت أرضية خصبة لتغلغل النشاط الصهيوني بين صفوف مكونات الطائفة اليهودية المغربية، تمهيدا لمشروع اقتلاعها من جذورها وتهجيرها نحو «أرض الميعاد»، حسب ما تداولته حملات التعبئة الصهيونية لعقود النصف الأول من القرن الماضي.
وإذا كان المقام لا يسمح بتتبع كل مظاهر هذا الانقلاب في نظم حياة الطائفة اليهودية وفي مجمل مكونات رصيد تراثها الفكري والإبداعي للمرحلة الراهنة، فالمؤكد أن تتبع حضور البعد اليهودي للهوية المغربية داخل مصنفات الإسطوغرافيات التاريخية ومصنفات التراجم وطبقات الأعلام، تظل حاضنة لعناصر دالة عن كل أوجه الخصب والغنى والتنوع في أدوار الطائفة اليهودية المغربية داخل وسطها الحي والمتفاعل على امتداد العهود الزمنية الطويلة الماضية. فبالعودة إلى متون الإسطوغرافيات العربية الإسلامية للعصور الوسيطة والحديثة والمعاصرة، نقف على إسهامات هائلة ارتبطت بوجود الطائفة اليهودية فوق الأرض المغربية وبحقيقة أدوارها داخل الدولة والمجتمع المغربيين للعهود الزمنية الطويلة. فقد كان منهم التاجر والصيرفي والطبيب والمستشار والحرفي والفلاح…، وكانوا ينتظمون في إطار روابط جماعية مع باقي المكونات العربية والأمازيغية والأندلسية، من دون أن يؤثر ذلك –في شيء– على تساكن هذه المكونات مع بعضها البعض، ولا على انسجام منطلقات هذا التساكن وثوابته المتوارثة تاريخيا. وفي جل مكونات رصيد الإسطوغرافيا التقليدية العربية الإسلامية، ظل المؤرخ المغربي حريصا على إبراز المظاهر الاعتيادية في سلوك المكون اليهودي، داخل وسطه المجتمعي وإطاره الدولتي، من موقعه كذمي له حقوق وعليه واجبات، أطرتها الشريعة الإسلامية وصقلها التعايش التاريخي مع باقي المكونات.
والملاحظ، أن هذا التجانس لم يتعرض للتململ عن منطلقاته المهيكلة، إلا مع دخول الاستعمارين الفرنسي والإسباني إلى بلادنا عند مطلع القرن 20. في هذا الإطار، سعى الاستعمار إلى تأجيج التناقضات الداخلية للمجتمع المغربي بتوجيه البحث المسمى «علميا» –والوظيفي المنزع– نحو تفكيك مكونات الجسد الواحد والاهتمام بواقع «التنافر» القائم على تعارض الخصوصيات وعلى تباين آفاق التعايش المشترك بين مغاربة المرحلة. وعلى الرغم من كل يمكن أن يقال عن الطابع الوظيفي المؤطر لعمليات البحث المرتبط بمشاريع الغزو والاحتلال الاستعماريين لبلادنا، فالمؤكد أن الإسطوغرافيات الكولونيالية قد كانت سباقة إلى طرح الأسئلة المغيبة في واقع الطائفة اليهودية المغربية، وفي خصوصيات تطورها التاريخي، وفي عمق تراثها الرمزي والثقافي المتوارث. لذلك، استطاعت هذه الكتابات، وبغض النظر عن سقطاتها المنهجية وعن خلفياتها الفاقعة، أن تكتسب عناصر السبق لإعادة الاهتمام بعناصر الغنى في التراث الرمزي المؤطر لوجود يهود المغرب ولخصوصيات تطورهم التاريخي.
وبعد حصول البلاد على استقلالها السياسي، وقع انقطاع واضح في مسار توسيع دوائر «الاحتفاء» بالتراث المادي والرمزي اليهودي المغربي، وذلك كإفراز حتمي لتبعات الحملات الدعائية الموجهة التي تورطت فيها قطاعات واسعة من مكونات الحركة الوطنية، عندما نحت نحو اختلاق تطابق افتراضي بين الانتماء اليهودي من جهة، وبين المشروع الصهيوني من جهة ثانية. وقد تلاقت هذه الحملات –من حيث لا تدري– مع جوهر مشروع الاستقطاب الصهيوني الذي أشرفت عليه «الوكالة اليهودية»، وانتهى بترحيل الغالبية الساحقة من يهود المغرب نحو أرض فلسطين. وبالنسبة للكتابة التاريخية الوطنية لهذه المرحلة، فقد انساقت مع هذا المنحى، وعكسته في أعمالها بشكل مثير، مما خلف بياضات وأفرز سقطات لابد من إعادة قراءتها بالكثير من عناصر الجرأة والنقد الموضوعيين، بل إن المرحوم عبد الوهاب بن منصور، الذي كان مؤرخا رسميا للمملكة، وضع كتابا –على سبيل المثال- حول ظاهرة «الحماية القنصلية» التي استشرت في المغرب قبيل الاحتلال المباشر للبلاد ومهدت الطريق أمام دخول الاستعمار، وجه فيه للطائفة اليهودية لوما شديدا بعد أن اتهمها بالعمالة للأوربيين من أجل التمكين لقوى الاستعمار المتربصة بالبلاد. ومعلوم أن مثل هذه القراءات، تظل بعيدة عن جوهر البعد العلمي المؤطر لمثل هذه الأحكام، كما أثبت البحث التاريخي الوطني المعاصر. «فالحماية القنصلية» كانت آفة العصر، تورط فيها الجميع، من المسلمين واليهود، من تنظيمات المخزن ومكونات القبائل والزوايا… ولا مجال لتوريط هذا الطرف دون ذاك، ولا في تبرئة ذمة هذه الجهة على حساب تلك.
وعلى هذا المنوال، استطاعت توجهات البحث التاريخي الوطني الراهن، إعادة قراءة تراث الإسطوغرافيات المتوارثة، وفق رؤى مجددة، لا ولاء لها إلا للبحث التاريخ المتخصص ولأدواته الإجرائية العلمية المعروفة. فبرزت أسماء وازنة كان لها الفضل في إعادة مقاربة مسارات الوجود اليهودي بالمغرب وتعبيراته المادية والرمزية السائدة، بل وتزايد الاهتمام بالتأصيل لمقومات الانتماء الهوياتي للمكون اليهودي داخل بيئته المغربية الخالصة. ويبدو أن التنصيص الصريح في دستور 2011 على البعد اليهودي الأصيل المكون للهوية المغربية، قد أعطى الشرعية لجهود رعيل الباحثين الذين وضعوا قواعد البحث في هذا المجال. ويتعلق الأمر بمستويين متكاملين من البحث ومن التنقيب، ارتبط أولهما بسلسلة المونوغرافيات التي أنجزها مؤرخون مغاربة طبعوا – بحضورهم العلمي – ساحة تداول المعرفة التاريخية لعقود نهاية القرن 20. ويرتبط المستوى الثاني من الدراسات المجددة، بسلسلة الأعمال المتخصصة في تحولات واقع الطائفة اليهودية المغربية، من خلال توظيف مكتسبات العلوم الإنسانية الحديثة، ومن خلال إنجاز دراسات وأطاريح متخصصة، ثم من خلال تجميع مكونات التراث المادي والثقافي/الرمزي لهذه الطائفة.
في إطار هذا التوجه العام، تندرج الأعمال الأكاديمية للدكتور أمين الكوهن ذات الصلة بالموضوع، وعلى رأسها الكتاب موضوع هذا التقديم. لقد استطاع الكتاب إعادة طرح الأسئلة المغيبة في تراجيديا «الرحيل» الذي بتر جزء من «ذاتنا» الجماعية، مكتسبا الجرأة العلمية الضرورية لاقتحام عتمات البحث والتنقيب في مسارات الانتماء أولا، ثم في تداعيات فعل الهجرة أو التهجير القسري في سياق الظروف التاريخية المعروفة ثانيا. لم يستكن الأستاذ الكوهن للخلاصات السهلة والجاهزة حول مرجعيات «المؤامرة» و»التوريط»…، في مقابل العودة للأصول من خلال مصادرها الأساسية المؤطرة للبحث وللتفكيك، مع تعزيز النبش بمظان متنوعة، جمعت بين الإسطوغرافيات الكلاسيكية، والأعمال الأكاديمية المعاصرة، والكتابات الصحفية الموازية، والشهادات الشفاهية الراهنة. وبذلك، أمكن وضع القواعد الإجرائية لإعادة مقاربة الموضوع، وفق رؤى مجددة، جريئة، ومبادرة باختراقها لحقل الطابوهات المقلقة.
باختصار، فالكتاب يضع أرضية صلبة ل»تحرير» البحث العلمي من شرنقة التوجيه والنزوع المكتنفين لهذا الموضوع الشائك. كما اكتسب قوته العلمية في رصد تداعياته المعقدة التي ظلت ترخي بظلالها على واقع «ذاتنا» اليهودية، في أفق التأصيل للمنطلقات البديلة والكفيلة بردم عناصر التردي التي ظلت وراء كل نزوعات التغييب القسري، وخلف كل جهود الطمس والتحريف والاستئصال لقيم التعايش والتساكن بين مكونات المجتمع المغربي، بالأمس واليوم.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 04/11/2022