«رسائل النار» لغادة الصنهاجي: إحماء الكارثة على أرض هرمس

من الصعب قليلاً ألا ينتهي بك التفكير وأنت تقرأ رسائل النار” للقاصة والكاتبة غادة الصنهاجي، إلى أنك عالق على نحو مثير للتردد في إرباك ما مع امرأة تطيل التحديق طويلا.
وبشكل أبدي ومطلق في نفسها أولا، وفي جذورها، وفي أركيولوجيا النار التي تصطخب في روحها.
ليست النار في “رسائل” غادة، إلا امرأة أخرى تدير الكارثة بوصفها استراتيجية ناجحة للتهدئة. إنها امرأة تراقب نفسها، كما تراقب الآخر، بانفعال بركاني كبير. إنها تهرب إلى ما يجعلها غير متاحة للآخرين. لكنه هروب إلى الداخل.. إلى داخل النفس بأعماقها السحيقة. تبحث عن إيقاع لا يوجد إلا في “الهاديس” الذي يحتمي بسيوله وحممه ووحوشه ومسوخه. تهرب إلى البحر، وتطيل النظر في وجهه الأزرق، وفي عينها تشع فكرة السفر إلى بطون الحيتان الجائعة”. تصغي إلى ذلك النحيب الذي يضيء في يأسها العالي. تصغي إلى النسيان أو التطلع إليه بكل ما أوتيت من رماد واحتراق. تصغي إلى موسيقى المساءات التي تمتدح الهزيمة. تصغي للأمواج الآتية من بعيد. تصغي للنغمة الثانية والثالثة والرابعة.. تلك التي ستأخذها أعلى قليلا إلى مشهدية خاصة بمنظورين مختلفين يمتزجان ويتداخلان ويتشاجران ويقتتلان، أحدهما يمزق الآخر ويسعى إلى إلغائه ومحوه، لكنه يدرك مع ذلك، أنه لا يوجد إلا به. إنه انعكاسه وصورته الأخرى “الشاهقة”، لا يمكن “مقاومتها” أو “دحضها” إلا بالكتابة إليها وعنها. من خلال لغة احتدامية وملغومة، و”عدوة” لنفسها.
الرسائل موجهة إلى رجل ما ليس بينه وبين الساردة موج، ولا أنفاس ولا جسد، ولا عناق. رجل خلقته جرأة (أو صدفة) أخرى. مجرد طوق للتخاطب الجمالي مع النقيض؛ مع رجل حزين “يصيد الأشباح”، رجل من جوهر شيطاني وجدته على قارعة الطريق، فأحبت أن تنازله في عقر فتنته وافتتانه ويأسه وبأسه.
في هذه الرسائل التي تحتشد بالانطباعات والحواشي، وبالحس الناقد للمقروء، تتوكأ الكاتبة على هوس كبير بالتفوق، وبأصلها الخالق للمتاهات البورخيسية. لا أحد ينجو، ولا أحد يستطيع اللحاق، ولا شيء يُعطل مساعيها نحو الفصل والتدمير والطمس والإحراق والإغراق. إنها تتيح للرجل [ الكاتب ما تريده أن يُتاح، تغزل بهدوء شديد رؤيته لها، تستدرجه إلى بناء صورة هي من تبنيها بسرية تامة. تضلله بزعم أنها تدخله إلى تجربة أعمق وأكمل، مع إدراكه وإدراكها، كما يتبدى من الرسائل لـ”لا سبيل للجمع بين مصاصي الدماء وشقائق النعمان”. كما يقول اليائس الكبير إميل سيوران.
إن من يتحدث في رسائل النار” ليس امرأة تترجم وجودها “فكرة” بلا غد. الغد هنا هو الكارثة التي تنهض من “سقوطها” في عمق اللاواقع؛ تلك المرأة هي ليليت تتمرن على العودة إلى أداء دورها لتحقيق الاكتمال الحيوي للأنثى. إنها تتحدى الرجل، أو في العمق إنها تنازل “رجلا من اختراعها بوضعه في حالة غياب أو عجز أو شلل. الرجل الكاتب. الغراب. الانهزامي. اليائس. غير الجدير بالحب”. المدعي المتهافت الذي يعاني من الخسارة والاجترار. الذي يريد أن يوقظ في أعماقها الخجل من الذات. المفرط في الاعتداد بنفسه. الذي يدين لها بكل شيء…
نقرأ من الرسالة (20):
رجل يريد امتلاك الجزء الأهم من الباب. يحلم بالحصول على المفتاح ليسجنها داخل أفكاره وليدخل إلى قلبها متى يشاء (…) غير أنها سلمته مفتاحا مكسورا لا يفتح إلا أبواب الجحيم”.
فمنذ أول جملة في الكتاب تضع إطارا اعتراضيا واضحا لعلاقتها بالرجل. نقرأ من الرسالة الأولى ” لقد اختار زقاقا ضيقا للمرور إليها. كل الرجال الذين سبقوه إلى المحاولة، كانوا يختارون الطريق السريع، لكنهم لا يتخطون أبواب مدينتها لأنها لا ترفع أبدا حاجز الممر حتى لو ضاعفوا ثمن المرور، لذا يعودون أعقابهم بنفس السرعة ويختفون…”. إن هذا “الاستثناء” هو المحدد للهوس اللغوي المهلك الذي نلاحظه في جميع النصوص، معجما وتركيبا وتخييلا. إنها لغة تصنع نسقا خاصا قائما على الانفعال والهيجان. “ثأر غير مباشر يحققه من لا يستطيع أن يصبر على إهانة، وليس له غير الكلام كي ينتفض على أشباهه وعلى نفسه.”
ويتميز هذا الكلام ببلاغة خاصة، لعل أهمها:
أولا: “الحجاج الاستدلالي” الذي لا يكتفي باستعمال خطاب اللوغوس (البرهان العقلاني) أو الأهواء والانفعالات بل يبني حقيقته بشراسة، تأسيسا على تجريد المخاطب من أدوات الاستدلال المثال، القياس، الإسهاب)، وعلى روائز الدحض والنفي، وعلى مخالفة المنطق ببناء منطق آخر لا يقع خارج الشعور بالقوة… القوة الخارقة التي تحسن الظن بنفسها، وتؤمن بأن الضرب في كل اتجاه ليس فكرة سافلة، بما في ذلك العمل الممنهج على اختراق التمثلات المشتركة والعامة، حيث تبرز آليات النظام البلاغي المهيمن في خطاب الرسائل، وهي آليات وأساليب نلاحظ حضورها بغزارة في على امتداد المتن (الأمر، النهي الاستفهام، التمني التعجب التشبيه الاستعارة الكناية إلخ)، مما يؤكد أن الحجاج استبداد النص، وأن الساردة تهيجه بقدر حاجتها إلى من يدفع الثمن!
ثانيا: ضمير الغائب في الرسائل ليس هناك أي وضعية تقابل بين مرسل (ضمير المتكلم: (أنا) ومرسل إليه ضمير المخاطب: أنت). وإذا كنا لا نبدأ في “إرهاب الآخرين إلا حين نتقنع”. فالقناع، هنا، هو ضمير الغائب المؤنث (هي) مقابل ضمير الغائب (هو) ليس هناك أي تنوع أو تنويع في صيغ الضمائر وليست هناك تثنية أو جمع. إيقاع واحد ينبذ النهج التبادلي للضمائر. مما يعزز اتساق النص وانسجامه.
المرأة في “رسائل النار” وجود أنثوي تائه اختار طوعا الإقامة خلف أسوار المسار المعاكس للوجود المشترك. تراوغ ما هو أساسي بالغامض. تؤمن بأنها قوة رادعة راشدة. نقرأ من الرسالة 23:
ضغط كبير يمارسه دون هوادة واستغلال للنفوذ وشطط في استعمال السلطة الذكورية. آن لها التدخل في الأمر بكل الجدية اللازمة رجل مثله يتطلب الردع النسوي الفوري، سترسل قواتها الناعمة في طلبه للامتثال وعليه مغادرة صمته الاختياري والاعتراف بالمنسوب إليه، ومن ثم ستجعله يصعد إلى أعلى طابق في برجها العاجي، وفي اللحظة التي يرمي فيها بنفسه من هناك، سوف تنطق ببراءته….
من قال إن “أفكارنا ترتبط بمصائبنا ؟ ومن أين لهذه الرسائل بكل هذا احتياطي المرارة الذي يجعل الساردة تتحول في رسائلها، إلى سورة غضب أصلية”. غضب ينمو بوتيرة أسرع ضد كل رموز الأرق في تاريخها الخاص .ضد آدم. ضد هتلر وكاليغولا. ضد الكاتب. ضد التفكير. ضد الرغبة. ضد الحب. فالضد هو الطريقة المثلى للانتصار على الألم، والغلو هو الأسلوب الأنجع لردع الضعف والهشاشة. هذا هو التناظر الذي تضعنا فيه الرسائل”. إنه التدرب على المواجهة مع الاختلال. وتبئير للارتفاع المفرط في نرجسيته وأحيانا في ساديته بإعمال السخرية والتهكم والرشق والإحراج والإذلال وفتح النوافذ على المؤلم والمزعج والمتعكر، وتحويل “النشوة” إلى إجراء شكلي مهيمن على سياق النص، ومندفع بالكامل نحو إفشال أي توافق مع النقيض، ولهذا نجد الرسائل مغمورة بغير قليل من الأشواك والحشرات والزواحف والغربان والشياطين والمسوخات والكائنات السفلية، إضافة إلى الكثير من الفخاخ والتقابلات اللفظية التي تتيح للساردة الإحساس بـ “الفوز العظيم. بل إن هذا التناظر قد يتحقق بالتخلي أو “التماثل” ، نقرأ في الرسالة 28:
كانت امرأة مكتفية بحربها ضد نفسها، تهزم نفسها مرة، وتنتصر عليها مرة وتتعادل معها مرة، ولا مكان لديها لإقحام أي رجل في شؤون حربها الداخلية، وعليه أن يفهم جيدا أنها لم تنتبه لشكله، ولم تميز لونه ولا عرقه، ولا نية لها في أن تفعل، فهو مجرد رجل والرجل لم يعد مندرجا في حساباتها منذ زمن طويل.. تعلم جيدا أن ذاك الذي أحبته كان قائد حربها الذي تخلى عن الجيش، وخلع بذلته العسكرية ورحل، ورغم غيابه لم تغير خطته ولم تعص أوامره، وأبقت على ولائها لحبه، وقررت أن تكره نفسها وكل العالم بدل أن تكرهه… فعندما يرخي الليل سدوله تضع القليل من عطره، وتقبل القمر مكانه، ولا تنام.
نستطيع القول، إذن، وبوثوقية كبيرة، إن العطر هو صيحة الانتصار المكتومة” والطامسة لمحن الساردة. هو الحدث الأساسي الذي يحافظ على اتقاد الحب بكل ما له من معنى الاستغناء عن الآخر، ذلك إجادة الاحتواء. العطر هو وعاء الأحاسيس المتبخرة الشيء المثالي الخارق والمشبع. رائحة الفردوس المتفشي في الفقدان. طوق العزاء الضروري المواصلة السير في الاتجاه المعاكس. الامتلاء بمن رحل، لكنه استقر دون انقطاع.
إن حاسة الشم، هنا تدحرج “لاوعي” الرسائل إلى الخلف. ذلك أنها تلعب دوراً بنيويا هاماً وموضوعياً في بناء النصوص على أساس الطاقة التي نجدها مثلا، في “البحث عن الزمن المفقود ” لبروست. فالعطر يستعمل لضبط الحضور الكاسح للذاكرة، كما أنه يتحول إلى مأزق لا سبيل للإفلات منه أو إعلان الاستقلالية عنه إلا بالتلاشي فيه واستعادته على نحو متكرر. إنه انحياز لغبطة ما. لوجود مطمئن. لشيء يرتخي في اتساعنا. لرائحة تضاهي حرصنا على الانصهار في المطلق.
يقول سيوران: ما جدوى أن نضبط أنفسنا من الصباح إلى المساء متلبسين بالوهم، أن نعود بلا رحمة إلى جذر كل فعل، أن نخسر القضية تلو القضية في محكمة لا قضاة لها سوانا؟” (مثالب الولادة ص: (50).
لا تفتقر “الرسائل” إلى قوة الشكيمة. ذلك أن همها الأساس هو سحب الرجل الكاتب / المتحرش إلى كارثة مثالية بإعمال أسلوب استئصالي خادع. ولهذا يمكن الخروج منها باستنتاجات عديدة:
إن الإحالات الضميرية إلى الغائب لا تحضر في الرسائل كيفما اتفق، ذلك أن المحرك الضمني لإنتاج نص الرسائل هو “التهكم” و “السخرية” و”الهجاء”، مما يستدعي إلغاء التقابل المباشر المبني على الندية والتكافؤ بتقابل آخر مبني على التحقير والازدراء، خاصة أن ضمير الغائب (هي) يهيمن على نحو مركز في خطاب الرسائل، بينما يحضر المرسل إليه (هو) كآلية لإنتاج تقابل يعمل لتلميع المرسل وتأطير الإعلاء من شأنه إلى حد يتعذر معه عدم الاعتراف بأنه كائن “شرير” لا يضاهي.
ثالثا: شكلنة البورتريه وتوسيعه؛ يبدو أن الاهتمام بصنع العاهات غير خاضع المحتوى الحكاية في الرسائل: حكاية كاتب يستدرج امرأة إلى قصة بمسارات محددة سلفا، وحكاية امرأة جحيمية تتمرد على جميع المسارات. فغادة تبني الوجوه، كما تبني المصائر والحكايات بأسلوب لعبي حاد. ذلك أن الكتابة ثأر للمخلوق ورده على خليقة غير متقنة. والسؤال هو: هل هناك اهتمام بالإتقان في النص يصرف النظر عن أناقة الأسلوب، وجدة الصور التي تلمع كالصخور المشعة في ليل الجبال، فضلا عن أقساط لا يستهان بها من المتناصات الفلسفية والأدبية والألاعيب الشكلية؟
إن الاهتمام يقع في “رسائل النار” على استراتيجية التشويه والدفع بالمخاطب (الغائب) إلى استمساخ ذاته وتحقيرها، والاعتراف بأنه فاقد للسيطرة، وضال في أفكاره المضللة، وعاجز أمام مشيئة محصنة بالزلازل والبراكين، وبكل طغاة “عطر هرمس”.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 19/09/2025